2024-11-27 11:37 م

سنديانة فلسطين… أبناؤها الستة خلف القضبان وما زالت كلها عنفوان

2019-06-22
الناصرة- “القدس العربي”: الحاجة لطيفة ناجي أم ناصر (72 عاما) من مخيم الأمعري في الضفة الغربية المحتلة تكبر إسرائيل بسنة واحدة، لكنها تؤكد أنها أكبر منها بـ600 سنة وتعتبرها احتلالا بلا أرض ولا قومية.

وأم ناصر هي خنساء فلسطين، أمٌ لشهيد ولستة أسرى معظمهم محكوم بالمؤبد واليوم تقيم وحيدة بعد رحيل زوجها قبل أربع سنوات لكنها تعوض غياب كل هؤلاء بثلاثة من أبنائها لم يسجنوا.

لم يبق نوع من العذابات إلا سامته منذ عقود لكنها تقول بلهجة واثقة وبصوت عال: “فلسطين أكبر من ترامب ونتنياهو وبن سلمان.. هي ستبقى وهم سيرحلون”.

هذه السيدة المكتوية بنارَيْ النكبة والنكسة نموذج لتضحيات المرأة الفلسطينية التي هدم الاحتلال بيتها ثلاث مرات ومحرومة من زيارة أبنائها الأسرى منذ عام بالذريعة إياها.. “ممنوعة أمنيا”.

طيلة سنوات كثيرة أقامت داخل بيتها المتواضع في مخيم الأمعري حتى هدمه الاحتلال في الانتفاضة الأولى وما لبثت أن أعادت بناء منزل صغير كسائر بيوت المخيم يكاد يخلو من كل شيء عدا الحاجات الأساسية تزدان جدرانه الداخلية بصور أبنائها المناضلين وصورة الصخرة المشرفة، وخريطة فلسطين لكن الاحتلال انتقم منها مجددا بهدم منزلها قبيل نحو العام بعد اتهام نجلها بالقيام بعملية قتل جندي خلال اقتحام المخيم بإلقائه لوحة رخامية من على سطح منزله أصاب الجندي برأسه.

بالأمس حدثتنا الحاجة أم ناصر من شقة مستأجرة تقيم فيها ريثما يبنى البيت من جديد، بكثير من الفخر عن نضال أسرتها التي لا زالت الصهيونية تلاحقها منذ اقتلاعها عام 1948 من قرية أبو شوشة المهجرة قضاء مدينة الرملة.

بدأت بسرد سيرتها لـ”القدس العربي” بالإشارة إلى استشهاد ابنها عبد المنعم في 31 مايو/ أيار 1994، وكان نجلها البكر يحاول الشرح والتوضيح، لكنها كانت تصححه عندما يدلي بما هو غير دقيق، بعدما باتت تحفظ تفاصيل قضايا فلذات أكبادها عن ظهر قلب، نضالاتهم، وملابسات وتواريخ اعتقالهم، ومحكومياتهم.

وكان الاحتلال قد حكم منذ عقدين على التوالي بالمؤبد ثماني مرات وخمسين عاما على ناصر (52 عاما) وبخمسة مؤبدات على نصر (38 عاما) وأربعة مؤبدات على شريف (44 عاما) وبالمؤبدين وثلاثين عاما على محمد (32 عاما)، فيما ينتظر باسل (39 عاما) وإسلام (32 عاما) الحكم عليهما بكثير من الفخار.

وكادت أم ناصر تطير زهوا حينما تحدثت بشكل خاص عن بطولات ناصر، الذي أضحى بطلاً مبجلاً في المخيم منذ أن أسس وقاد حركة “الأسود المقنعة” التابعة لحركة “فتح”، وقد كان “مختصا” كما تقول في تصفية العملاء، ومن أشهرهم زهير العجل أحد مخاتير القرى المجاورة الذي قتله ناصر بعد أن دخل دكانه في رام الله بلباس سيدة وأطلق عليه النار من مسدسه.

وبدأت سلطات الاحتلال وقتها بحملة دهم وتفتيش واسعة عن ناصر اعتقلته عقب إصابته على يد وحدة خاصة بتسعة عيارات في جسده ونجا من الموت بأعجوبة ثم حكم عليه بالسجن المؤبد 9 مرات.

ومنذ بداية انتفاضة الأقصى حرمت أم يوسف من زيارة أولادها بحجة “الدواعي الأمنية”، إلى أن سمح لها لاحقا وما لبثت أن منعت قبل عام تقريبا من لقاء أولادها أحلامها.

واستذكرت أم ناصر عناء زيارتها الأخيرة تلك وهي تتنقل بين سجون عسقلان (ناصر ونصر) ونفحة الصحراوي (محمد) وبئر السبع في النقب (شريف) وهداريم (إسلام وباسل) دون أن يسمح لها بإدخال رغيف من صنع يديها كما كانت تحب. وكشفت الحاجة لطيفة أنها اصطحبت ولد نصر، عائد، خلال زيارته في سجنه فلم يعرفه لأن الطفل ولد بعد اعتقال والده بأيام في عام 2001.

وأضافت: “كانت هذه من أكثر اللحظات إيلاما، وأنا أشاهد ابني والدمعة تفضح انفعاله أمام فلذة كبده دون أن يقوى على ملامسته للمرة الأولى بسبب الجدار الزجاجي العازل. عدنا إلى البيت وطوال الطريق ظل حفيدي يسألني غير مصدق أن من رآه هو والده”.

ومع ذلك تؤكد أم ناصر جازمة أنها ما زالت تؤثر عناء السفر والانتظار ساعات تحت الشمس بغية رؤية أولادها ولذا تجدد مناشداتها للمنظمات الدولية والسلطة الفلسطينية بمساعدتها في زيارة أبنائها الأسرى. وما يخفف عنها عذاباتها أن ولدها نصر قد رزق  قبل أيام بمولود جديد هو شقيق لرائد وعائد بعدما نجحت زوجته بتهريب نطفة منه وقد أسموه يمام بناء على طلب والده.

وشاء القدر أن واصل كل الوقت اختبار صبر أم ناصر، فإضافة إلى أولادها اعتقل الاحتلال أربعة من أبناء شقيقها خميس: سعيد وشادي ورمزي وحمادة المعتقل منذ عام 2003 رغم بتر ساقه ويده وفقدان عينه وهم الآخرون محرومون من زيارة ذويهم لهم في السجن.

وعن دورها في إعداد أبنائها للمقاومة، وعما إذا كانت تواجه لحظات ندم قالت الحاجة لطيفة بلهجة واثقة أنها دأبت على تنشئتهم تنشئة وطنية مذ ولدوا وأطلعتهم على رواية التهجير والاقتلاع من وطنهم الأم حتى كبروا وخبروا بشاعات الاحتلال فشاركوا شعبهم بالتصدي له. وتتابع: “هذا خيارهم وهذا قدري وأنا فخورة بهم رغم الوجع”.

وخلال فترة البعد كانت أم ناصر تهتم بالمشاركة هي وأحفادها الصغار في كافة الاعتصامات للتعبير عن تضامنها مع الأسرى ولاغتنام الفرصة للظهور على شاشات التلفاز لا لترى نفسها بل كي تسمح لأبنائها بمشاهدتها عبر الأثير وشحنهم بالمزيد من الدعم المعنوي. وأضافت: “صرت أظهر في التلفزيون أكثر من صائب عريقات.. كي يرى نصر أبناءه الأطفال وهم يكبرون وتتغير ملامحهم سنة بعد سنة”.

وردا على سؤالنا حول تغير حياتها إثر اعتقال أبنائها دفعة واحدة لفتت أم ناصر بحسرة الأمومة الجريحة أنها عاشت بعد أسر أبنائها حياة مختلفة مع زوجها حتى رحل. وتابعت: “والله يا بني إذا ما دخل علي أحد أبنائي يبقى البيت فارغا وهذا موجع جدا فالقلق يستولي على كل أم إذا تأخر ابنها عن العودة ساعة فما بالك وأنا في انتظار ستة أولاد محكومين بالمؤبد في الصفقة التي يتحدثون عنها اليوم”.

وعن سر تحملها مأساتها أوضحت أم ناصر بتواضع بارز أن رب العالمين يلهمها الصبر والثبات، لافتة إلى أن الاعتقال يؤلمها لحرمانها من ضم زينة الحياة الدنيا لصدرها ومن تحقيق حلمها الذي يراودها ليل نهار بتقبيل جباههم فردا فردا. وأضافت: “لكن هذا الاعتقال الكابوس هو يبعث في القوة لأنه يذكرني بكوني أما لستة أسود اعتبرهم تاج رأسي أفاخر بهم كل يوم ويكفيني الشرف أن يدعوني أهالي المخيم أم الشهيد والأسرى”.

لكن أم الأبطال تبقى أما ورغم مناعتها المعنوية وكونها سيدة مسيسة حيث قالت إن دموعها تبلل منديلها شوقا وتلهفا لعودة أعز الناس لحضنها خاصة في المناسبات وأضافت: “في أيام العيد اعتاد على زيارة ابني الشهيد ثم أعود مسرعة إلى البيت لأقبل صور أبنائي الأسرى وأحيانا أتحدث إلى  صورة ابني ناصر وأقول له كم تمنيت لو اكتفيت بحكمك الأول وبقائه هو على الأقل معنا”.

وتبدي أم ناصر تشككها الكبير حيال طريق التفاوض مع الاحتلال منذ توقيع اتفاق أوسلو وقالت لو كانت إسرائيل جادة بالانسحاب من الأراضي المحتلة لما أصرت على عدم الإفراج عن الأسرى الذين تعتبر أياديهم ملطخة بدم اليهود، وتساءلت جازمة: “ألم يغرق شارون حتى أذنيه بدماء الفلسطينيين من قبية ونحالين إلى صبرا وشاتيلا، وأضافت بصوت غاضب فليعيدوا لي مسقط رأسي أبو شوشة وأسامحهم بأولادي إلى الأبد.. هذا سلام كذاب”.

الحاجة لطيفة التي تتمتع بقسط من الثقافة السياسية وتدير صفحة  بالفيسبوك بعنوان “سنديانة فلسطين” تبدي انتقادات لبعض الدول العربية المتواطئة مع الاحتلال وتضيف “ليعلم العالم كله أن “صفقة القرن” هذه ما هي إلا حبر على ورق. فالفلسطينيون على أرضهم بالملايين ولن تتكرر كارثة 1948 مهما علا الثمن ومن هنا لن نخرج إلا على الرملة المحتلة عام 48 وبيننا وبينهم الأيام دول ولن ينفعهم لا ترامب ولا بن سلمان ولا السيسي”.

وعن سر تفائلها قالت: “والله لو اعتمد الفلسطينيون على حالهم وعلى أحرار العالم سيستعيدون حقهم فنحن قادرون على الدفاع عن ذاتنا ومستقبلنا إن توحدنا”.

وخلال الحديث مع أم يوسف رن هاتفها فكانت هذه “فلسطين” على الخط الثاني، ابنتها المتزوجة في نابلس هي وشقيقتها علا أيضا وسرعان ما أوضحت أنها تتواصل مع ابنتيها بالهاتف بسبب الحواجز الاحتلالية فتراهما مرة في العام.
(القدس العربي)