2024-11-30 04:33 ص

الراقصة ومصاصو الدماء

2019-10-25
بقلم نبيه البرجي
ذاك الوزير الذي اقترح توزيع حبوب الكبتاغون على المتظاهرين … !
ماذا تعني قرارات مجلس الوزراء غير ذلك ؟ أن نعود الى الهذيان (أو الى الأنين) . أحد دهاقنة الجمهورية لاحظ أن “هذه ثورة الأراكيل” , و”اننا امام ذلك النوع من البشر الذين يتوحدون حول راقصة ولا يتوحدون حول قضية” .
في كل الأحوال , لقد اكتشفنا لبنان الآخر . لا شيء مثل البطون الفارغة , الأزمنة الفارغة , يعيد تشكيل التاريخ . بعدما تحولت ألمانيا الى خراب , قال كونراد اديناور “لنصنع بلادنا بأيدينا لا بدموعنا” .
نحن في منطقة جعل منها أولياء أمرنا مقبرة للزمن . هذه فجيعتنا الكبرى . أن نعود القهقرى . أليس أكثر الساسة عندنا أحصنة طروادة ؟ ظهور للايجار في سوق الأمم . وقد لاحظنا , في بداية الانتفاضة , محاولات الانقضاض على الناس , بالشعارات النرجسية , والزبائنية , والمكيافيلية , كما لو أننا لسنا الركام داخل … الركام .
المشكلة أننا استيقظنا بعد فوات الأوان . الدولة لم تعد أكثر من مغارة فارغة , حتى أنهم سرقوا حجارة المغارة . لتقل لنا تلك المرجعية ما كان تعليقها حين حضر الى مكتبها مستشار في احدى المؤسسات المالية الدولية , وهو يحمل لائحة باسماء الرؤساء , والنواب , السابقين , الذين يتقاضون رواتب تقاعدية خلافاً لكل الأعراف , ولكل القوانين , في الدول الأخرى .
المستشار وضع أمام المرجعية اياها أسماء من يمتلكون مليارات , أو مئات ملايين , أو حتى ملايين , الدولارات , من مسروقات المال العام , وهم يقبضون رواتبهم التقاعدية كأي موظف بائس نصفه في الدنيا والنصف الآخر في الآخرة .
المستشار أبدى استغرابه حين لاحظ أن ما من أحد من أولئك المهراجات وقف امام الملأ , وقال انه يتخلى عن راتبه ولو من أجل تأمين الدواء لمريض , أو من أجل تأمين الخبز لمعوز .
هذا لا يحدث في أي بلد في العالم . اقرأوا هارولد لاسكي لتروا كيف تتمحور نظريته على الضمير السياسي كأساس فلسفي لقيام الدولة , واقرأوا بيار بورديو لتروا كيف تتمحور نظريته على الضمير الاجتماعي لقيام المجتمع .
للتوضيح , فكرة اعطاء رواتب تقاعدية للرؤساء والنواب شقت طريقها الى النور بعدما شاهد بعضهم ألفرد نقاش , وهو رئيس جمهورية سابق , عرف بنزاهته , وباستقامته , بحذاء ممزق في أحد شوارع بيروت . من اجل تدارك هذه الحالة , والحالات المماثلة (وما أقلها !) جرى سن القانون لا من أجل ذلك النائب الذي دخل حافياً الى ساحة النجمة , ومن ثم الى الوزارة . زوجته تفاخر الآن بأحذيتها المرصعة بالماس والياقوت .
مثال آخر . استاذ في الجامعة الأميركية زار تلميذه رئيس الحكومة سليم الحص غداة خروجه من السرايا . وجده في وضع صحي صعب بسبب نوبات الربو . اقترح عليه الاستجمام لبعض الوقت خارج البلاد . بعد جدال , تبين أن الحص لا يملك ثمن تذاكر السفر .
آخرون يمتلكون اليخوت , والطائرات , والودائع , ويمتلكون القصور . بالرغم من ذلك يتقاضون , دون الحد الأدنى من الخجل , رواتب تقاعدية لقاء الخدمات التاريخية التي قدموها لبلد يعتبر النموذج في الفساد , وفي التهتك السياسي والمالي .
ما حدث في مجلس الوزراء تشريع للكبتاغون . ما هذه الوصفات السحرية التي ظهرت فجأة , كما لو أنه “مجمع القديسين” , بالمعجزات , لا اللوياجيرغا التي تحتضن ملوك الطوائف , وملوك المافيات , وحتى ملوك المقابر !!
على لحى من يضحك هؤلاء حين يتحدثون عن استعادة الأموال المنهوبة . لو فتح الملف لعلقت آلاف المشانق في ساحة البرج . في هذه اللحظة , لبنان ليس بحاجة الى مهاتير محمد فقط , وانما الى جمال باشا السفاح , والى الحجاج من يوسف الثقفي .
أما وقد سعى البعض لتحويل التظاهرات (الظاهرة) الى كرنفال , لا باسيونارا هناك تصل صرختها الى اصقاع الأرض , ولا زاباتا هناك يزعزع جدران الهيكل . كلنا في حلقة مفرغة (الطاسة ضايعة) . وعود كاريكاتورية . لا أحد يثق بهؤلاء . هكذا تبدأ الثورات بانعدام الثقة بين الناس والسلطة . لكن الذي يحدث على الأرض شتات بشري . لا قيادة , ولا رؤية , ولا خارطة طريق .
نخشى على الأمواج البشرية أن تتحول , على أيدي مصاصي الدماء , أو على أيدي الراقصات , الى فقاعات بشرية !

باحث وكاتب لبناني