بقلم: ناصر قنديل
ينصبّ تركيز الأضواء من الخبراء الاستراتيجيين لمراقبة مشهد المواجهة الدائرة في فلسطين المحتلة بين قوى المقاومة في غزة وجيش الاحتلال، فخلال أربع وعشرين ساعة تحوّلت هذه المواجهة إلى حرب صغرى، حيث العنوان الذي يحكم الصراع هذه المرّة هو مصير القدس، من بوابة إطلاق أو إغلاق الباب أمام مشروع تهويد القدس الذي يتجسّد اليوم بقرارات إخلاء سكان حي الشيخ جراح وإنتهاك حرمة المسجد الأقصى. وعلى طرفي الاستقطاب حول القدس يستحضر الفريقان، قيادة الكيان من جهة، وقيادة المقاومة في غزة من جهة مقابلة، كل عناصر القوة، فتخوض قيادة الكيان محاولة تحقيق إجماع سياسيّ يُخرج الكيان من التشظي الذي حملته مشاهد العمليات الانتخابية الفاشلة، وتحقيق رؤية عسكرية لإعادة فرض حضور قوة الردع، من بوابة كسر إرادة غزة، ومن خلال هذين البعدين مخاطبة المشهد الإقليمي والدولي الجديد الجاري تشكله في ظلال الاعتراف بحتمية الانخراط مع إيران بتفاهمات وتسويات، والاعتراف بفشل الحرب على سورية، بهدف إعادة فرض حضور كيان الاحتلال كلاعب لا يمكن تجاهل حضوره في معادلات المنطقة، ولا يمكن التغاضي عن شروطه للتسويات والتفاهمات المتداولة.
– بالمقابل خاضت قيادة قوى المقاومة محاولة إنتاج شعبي فلسطيني في الضفة والأراضي المحتلة عام 48 وفي القدس وغزة والشتات، ومحاولة إنتاج مناخ عربي ودولي جديد بعد إعلان صفقة القرن وانطلاق موجة التطبيع بما أوحى بموت القضية الفلسطينية، لانتزاع الاعتراف بأنها أكثر من مجرد قضيّة حيّة، بل قضيّة محوريّة مقرّرة في رسم مستقبل الصراع، وبالتوازي محاولة استعادة الروح لشارع عربي أنهكه الربيع المسموم وأصابته لوثة المذهبية بالانقسام، ونجحت عملية التفتيت بإضعاف اهتمامه بالقضايا الكبرى، ونجحت قوى الإرهاب والتكفير باستقطاب جزء كبير من حيوية شبابه، وعبر ذلك كله سعي لطي صفقة القرن، ورد الاعتبار للقضية الفلسطينية وموقع القدس المقرّر فيها، وغير القابل للتلاعب والعبث، وتقديم محور المقاومة كمرجع جديد في المعادلة الإقليمية، جاهز للخوض في لغة التسويات في كل الملفات ما عدا القضية الفلسطينية وما يرغبه الغرب من انتزاع ضمانات لأمن الكيان، والدخول بالتالي من موقع مكانة فلسطين والقدس على خط رسم المشهد الإقليمي الجديد للقول إن سقف الممكن في ما يخصّ القضية الفلسطينية هو ربط النزاع ووضع قواعد الاشتباك، لأن أي تسوية يراد منها ضمان أمن الكيان والأخذ برؤيته للقدس لا فرصة لها لتبصر النور، وأي ربط للتسويات الأخرى بهذا الشرط يعني القضاء عليها في المهد بل قبل أن تولد.
– خلال أربع وعشرين ساعة خاض كل من الفريقين غمار حساباته ومعادلاته وما أعدّ لها، وخلال أربع وعشرين ساعة جاءت النتيجة واضحة، فبقدر ما بدا الشارع الفلسطيني موحّداً وحاضراً، ظهر الانقسام وسيطر التشكيك في حال الكيان ومواقف قادته، وبقدر ظهور تحالف محور المقاومة متماسكاً ومقتدراً، بدا الحلف الداعم للكيان مشتتاً ومرتبكاً، وبقدر ما ظهرت قدرات الكيان العسكريّة عاجزة عن فرض معادلة الردع، وظهرت قبته الحديدية عاجزة عن صدّ صواريخ المقاومة، رغم وحشيّة عمليات القتل والتدمير، ظهرت المقاومة الفلسطينية قادرة على فرض إرادتها، بنقل الدمار والحرائق والخوف والرعب الى داخل الكيان، فعاشت تل أبيب ليلة لم تعرف مثلها منذ نشأة الكيان، وكان ما جرى في أربع وعشرين ساعة شديد البلاغة في قول الحقائق ورسم المعادلات، فجيش الكيان الذي كان قد قرّر مناورة استراتيجية تحت عنوان الحرب المتعددة الجبهات لم يلبث أن ألغى المناورات بعدما اشتعلت جبهة واحدة، مثبتاً عدم جهوزيته للخوض في حرب متعددة الجبهات ولو بصيغة حرب في جبهة ومناورة في سائر الجبهات، بينما نجحت قوى المقاومة باستعارة نظرية جيش الاحتلال عن الأيام القتاليّة وعن المعركة بين حربين.
– تحت سقف لا نريد حرباً قالت المقاومة إن هذه الحرب الصغرى ترسم مستقبلاً واضحاً لأي حرب مقبلة، ففشل القبة الحديديّة أمام صاروخ ديمونا لم يكن نتيجة فشل تقني بل فشل استراتيجي متكرّر، وإثبات قدرة محور المقاومة بمكوّن من مكوّناته على تهديد كامل الكيان ومنشآته الحيوية على مساحة فلسطين المحتلة، والمكوّن المشارك في الحرب الصغرى هو الجزء الأقل قدرة وموارد، فكيف لمن يفشل أمام هذا الجزء أن يدّعي قدرة على الفوز في حرب مع المكوّنات الأشد قدرة، وبالتالي مع جميع المكوّنات دفعة واحدة؟
(البناء)