بقلم: جمال زحالقة
مهما تعددت وتباينت تجليات الحدث الفلسطيني هذه الأيام بين الصدام الدامي في غزة، التي تتعرض لقصف إجرامي ووحشي، وحراك شباب الداخل الفلسطيني الذي خرج ليعبر عن غضبه الساطع وليغلق الشوارع وليواجه الشرطة وقطعان اليمين المتطرف، وما يحدث في الضفة الغربية وفي الشتات الفلسطيني، فإن حراك القدس وقضية الشيخ جراح والمواجهات في المسجد الأقصى هي المحرك والمحفز والدافع الأول لهبة الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة. ما من شيء ممكن أن يحرك الشعب الفلسطيني مثل القدس والأقصى، وما من قضية توحد الشعب الفلسطيني مثل الدفاع عن عاصمته وعن مقدساتها. القدس في مركز الحدث الفلسطيني، هكذا كانت وهكذا ستبقى.
لا يمكن أن نفهم ما يجري هذه الأيام من دون ربطه مباشر بأحداث القدس والأقصى. لقد بدأت هبة البراق عام 1929 في المسجد الأقصى ومحيطه، واندلعت الانتفاضة الثانية بعد الزيارة الاستفزازية لشارون لباحة الحرم القدسي الشريف في سبتمبر 2000، وتحركت هبات شعبية كثيرة انطلاقا من صدام مع المحتل في الحرم القدسي الشريف. أما هبة الغضب الفلسطيني الحالية فقد قفزت بكل الاتجاهات، بعد الأحداث والتطورات في مواجهة قضية الترحيل في حي الشيخ جراح، والصراع مع الشرطة الإسرائيلية حول الجلوس على مدرج باب العامود، والتصدي الباسل للاعتداءات المتكررة على الحرم القدسي الشريف.
جاءت تداعيات هذه الهبة أقوى وأشد وأوسع من سابقاتها، وكشفت لكل المشككين الطاقات الوطنية الكفاحية الهائلة للشباب المقدسي، ولأهل القدس عموما. وأظهرت أيضا أن من لا يسكن فيها من الفلسطينيين تسكن القدس في وجدانه، وحين يخرج الناس في أرجاء الوطن الفلسطيني كافة يتظاهرون ويواجهون، فهم لا يدافعون عن القدس التي على الأرض فحسب، بل وبالحدة نفسها عن القدس التي في داخلهم، والتي هي مركب مهم لهويتهم الشخصية والجماعية. الدفاع عن القدس بالنسبة للفلسطيني هو دفاع عن الذات، وهو المعركة المركزية في الدفاع عن فلسطين الوطن والهوية. لقد انطلقت الشرارة الأولى للهبة الحالية من حي الشيخ جراح في القدس وتفاعل معها أهل القدس، الذين يواجهون مخططات الترحيل والهدم في معظم أحياء المدينة، وبالأخص في سلوان وراس العامود والعيساوية وشعفاط والبلدة القديمة وغيرها، وكان التجاوب في كل أرجاء المدينة بمستوى شعبي واسع تميز بمشاركة شبابية كانت الدينامو الذي حرك الشارع، خصوصا بعد أن صب الاحتلال بغبائه المعهود الزيت على نار الهبة، بافتعاله معركة مدرج باب العامود وبالاقتحامات الوحشية للمسجد الأقصى. يتميز حراك القدس بالوحدة والزخم التلقائي، تبعا لطبيعة المعركة، وحتى لا تضيع هذه الطاقة المتمثلة بالنضال الشعبي الموحد، هناك حاجة ماسة لاستثمارها في بناء قيادة ومرجعية سياسية وطنية موحدة، لضمان استمرار النضال، فالشرارة المجيدة لوحدها غير كافية، والزخم الهائل وحده غير كافٍ لبناء مشروع نضالي مقدسي يشع على الساحة الفلسطينية كلها، ويدفعها نحو السير باتجاه النضال الموحد ضد الاحتلال، ونحو التخفيف من أولوية النزعات الفئوية المعيقة. لقد كانت مشاركة فلسطينيي الداخل في هبة القدس قوية وغير مسبوقة في حجمها وزخمها. فقد أمّ القدس والأقصى وشارك في المظاهرات والمواجهات عشرات الآلاف من أبناء وبنات الجليل والمثلث والنقب. واتسعت دائرة الفعل الكفاحي في المناطق المحتلة عام 1948، لتشمل كل القرى والمدن العربية والمدن المختلطة في الساحل الفلسطيني عكا وحيفا ويافا واللد والرملة. في هذه المعركة جرى بشكل شبه يومي إغلاق شوارع رئيسية في البلاد، وجرت مواجهات عنيفة بين المتظاهرين والشرطة، وجرح واعتقل المئات. وفي المدن المختلطة دارت أيضا معارك بين اهل البلد ومستوطنين زرعتهم المؤسسة الإسرائيلية في قلب الأحياء العربية، وقام المستوطنون بإطلاق النار على المتظاهرين في اللد، وسقط موسى مالك حسونة شهيدا في معركة الدفاع عن القدس والأقصى. ويتعرض فلسطينيو الداخل هذه الأيام إلى تحريض دموي يقوده بنيامين نتنياهو ووزراؤه والأبواق الإسرائيلية عموما، وهم يدعون إلى تفعيل القبضة الحديدية في البلدات العربية الفلسطينية كافة، في الداخل وحتى فرض منع التجول إذا اقتضى الأمر. هذا التحريض الأرعن سيؤدي حتما إلى المزيد من الاعتداءات الوحشية من الشرطة ومن مواطنين يهود على العرب. كل هذا لن يردع الناس، الذين يتفاعلون بحيوية عالية مع الحدث الفلسطيني، ويرمون جانبا النزعات الانفصالية عن الشعب الفلسطيني، التي تروج لها بعض القوى والقيادات، والتي تدعو إلى حصر الاهتمام بالقضايا الحياتية الاقتصادية.
وفي اعقاب هبة القدس، تعرضت حركة حماس إلى ضغوط هائلة من الشارع الفلسطيني للقيام بفعل ما دفاعا عن المسجد الأقصى والشيخ جراح. وفي أعقاب اندلاع الصدام، دار نقاش فلسطيني داخلي حول جدوى إطلاق الصواريخ، لأنه يدفع باتجاه تحويل المعركة إلى معركة عسكرية، بدلًا من مواصلة المقاومة الشعبية غير المسلحة. ورغم هذا الجدل، فإن من الواضح أن شرارة القدس بالذات قادرة على إشعال النار في كل المناطق وفي كل الاتجاهات. هذا الأمر مهم بحد ذاته لأنه رسالة إلى إسرائيل وإلى من يؤثرون في إسرائيل، بأنك قد تعرف كيف يبدأ المس بالقدس والأقصى لكنك لا تستطيع أن تتنبأ كيف ينتهي الأمر.
لقد كان الرد الإسرائيلي على عدد محدود من الصواريخ، عنيفا ووحشيا وإجراميا. ولم تخف إسرائيل دافعها وهدفها من هذا الانفلات العدواني، وهو قطع الصلة بين غزة والقدس، حيث أعلن مسؤولون ومقربون من القيادة الأمنية والسياسية بأن إسرائيل لن تسمح بربط القدس بالمواجهة العسكرية في القطاع، واعتبرته تجاوزا لم كان متعارفًا عليه حتى الآن. وكان لنتنياهو تصريح ناري في هذا الصدد حيث قال، إن هدف الحرب على غزة هو شل قدرة حماس على التهديد بمثل هذا التهديد، ناهيك من القيام به فعلًا. أما في الضفة الغربية فالشارع يغلي بسبب ما يحصل في القدس والأقصى، وهناك مواجهات يومية مع الاحتلال على الحواجز وفي مناطق التماس، وهناك مواجهات ايضا مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، التي تريد أن تبقي الاحتجاج «تحت السيطرة». لم تأخذ أحداث الضفة الغربية اهتماما كافيا لأنها لم تشمل احداثًا دراماتيكية من النوع الذي يثير الصدى والضجيج الإعلاميين، لكن من الواضح أن شحنة الغضب قائمة، والاستعداد لمواجهة الاحتلال يتجاوب مع شرار القدس، ولعل هذا أكثر ما تخشاه إسرائيل، لذا تقوم باعتداءات واعتقالات يومية لقمع واحتواء ما قد يتطور إلى انتفاضة ثالثة عارمة. وإذا كانت قيادة السلطة الفلسطينية عاجزة عن الفعل العملي لنصرة القدس، فلتقف جانبًا وتترك الشعب يناضل كما يشاء.
لم يقف الشتات الفلسطيني مكتوف الأيدي تجاه معركة القدس والأقصى وكانت هناك مظاهرات كبيرة في لندن وواشنطن ولوس أنجلس وشيكاغو ومانشستر وباريس واستنبول وغيرها. والأمر المهم في هذا الحراك الفلسطيني هو أنه يستقطب قوى وقيادات سياسية في دول العالم، وهو يستند إلى التحالف الصحي والصحيح مع القوى التي تنشد العدالة، ومن ينشد العدالة في بلده ينشدها للآخرين في بلادهم. ولعلها فرصة لرد الاعتبار عالميا ولدى المجتمع المدني للقضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني تجذب نحوها قوى اليسار والديمقراطية وحقوق الانسان وحقوق الشعوب، بعد أن انحصرت في أعقاب أوسلو في خانة قضية دبلوماسية وخلاف حدود.
حين يتحرك الشعب الفلسطيني كله بقوة وبوحدة وباندفاع كفاحي فهو قادر على تحريك الدنيا وحشر إسرائيل في الزاوية. وبالتحليل السياسي المنطقي وبالمتابعة العملية على أرض الواقع، ما من شيء يمكن أن يحرك هذا الشعب أكثر من القدس والأقصى، وأكثر من شرارة تنطلق منهما. هناك أهمية استراتيجية لدعم القدس وأهل القدس وصمودهم ووحدتهم ونضالهم. الخيار في القدس هو المقاومة الشعبية غير المسلحة، وهذا الخيار الأصح في هذه الظروف لأنه يفوت على الاحتلال خيار المواجهة العسكرية، التي له الغلبة فيها، ويدخله في مواجهة جماهيرية وسياسية وأخلاقية، هو الأضعف فيها. فالمناضلون المقدسيون، شبابا وشيبا، لا يحملون قوتهم فحسب، بل وبالدرجة نفسها القدرة على استنهاض الطاقات الهائلة الفلسطينية والعربية والإسلامية والدولية، التي تحركها شرارة تومض في القدس.
رئيس حزب التجمع الوطني في أراضي 48