ما أن ساد الهدوء على جبهة قطاع غزة الا وبدأ الحديث عن إعادة إعمار الدمار المريع والكبير الذي خلفه القصف العشوائي المتعمد للابراج السكنية والبيوت والطرقات والابنية الحكومية والبنى التحتية المتهالكة أصلا نظرا للحصار الخانق الذي يعايشه قطاع غزة منذ 2009 ولغاية الان برا وجوا وبحرا مما جعل القطاع ليس الا سجن كبير يضم مليون ونصف نسمة. وللعلم فإن هنالك 7 معابر للقطاع بما فيها معبر رفح البري بين القطاع مصر والستة الباقية بين قطاع غزة وفلسطين المحتلة والتي يتحكم بها قوات الاحتلال الاسرائيلي. من هذه المعابر الستة أثنان فقط منهم مفتوحان أمام حركة المسافرين والبضائع وهذه المعابر تفتح وتغلق بحسب مزاج قوات الاحتلال. أما معبر رفح الحدودي فلا يفتح من الجانب المصري الا ايام معدودة في السنة وللحالات الاضطرارية فقط تحت ذرائع لا تدل على السيادة المصرية وبعد أخذ الاذن من السلطات الاسرائيلية. بمعنى ان لا يمكن إدخال حتى كيس طحين أو زجاجة زيت دون إذن قوات الاحتلال الاسرائيلي. كان لا بد لنا ان نشير الى هذه الحقائق لانها مرتبطة عضويا بعملية إعادة الاعمار.
والسؤال المشروع الذي يجب ان يطرح بشدة الان والمبني على التجارب السابقة الا وهو ما الفائدة من إعادة إعمار ما دمره العدو الصهيوني إذا لم يكن هنالك ليس فقط ضمانات دولية ملزمة للطرف المعتدي أي الكيان الصهيوني بعدم تكرار تدميره لقطاع غزة؟ بل أيضا والأهم وجود حل عادل للقضية الفلسطينية برمتها وهو الحل الذي يتمثل أولا بإنهاء الاحتلال الاسرائيلي بكل مظاهره والانسحاب من كل الاراضي التي أحتلت عام 1967 وإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة غير منقوصة على هذه الارض. وهذا الحل بات يمثل يمثل إجماع فلسطيني في المرحلة الحالية ولو ان الاحداث الاخيرة أدت الى إرتفاع الاصوات المنادية المضي في التحرير الكامل لكل تراب فلسطين التاريخية وهي اصوات محقة لكون الكيان الصهيوني ما هو الا كيان استعماري إحلالي وإقصائي قام على الاستيلاء على الارض وتهجير مئات الالاف من سكانه الفلسطينيين العرب وبناء دولته, وحركة التاريخ تدلنا على ان كل الحركات الاستعمارية لا بد ان تنتهي بزوال المستعمر والقوى الاستعمارية الكولونالية . نحن لا نريد الخوض هنا في المستقبل البعيد مع التأكيد ان هذه هي الحتمية التاريخية للصراع مع العدو الصهيوني. الاحتلال وتمدده السرطاني على كل اراضي فلسطين التاريخية هو السرطان الذي يجب ان ينتزع من جذوره إذا ما اريد تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة.
لنأخذ عمليات الإعمار في المنحي التاريخي فلقد اعيد إعمار غزة بعد الاعتداءات الصهيونية المتكررة على القطاع عام 2009 و 2012 و 2014 ليعود جيش الاحتلال في كل مرة بعد إعادة إعمار لاستخدام الياته العسكرية وطيرانه وبوارجه الحربية ليدمرما اعيد إعماره مرة أخرى من خلال عدوان همجي. والسؤال إذن هل هنالك من جدوى فعلية لإعادة الإعمار مرة أخرى الان بعد العدوان الهمجي لجيش الاحتلال الصهيوني أسوة بالمرات السابقة والدخول في الدوامة المعهودة مرة أخرى؟
نعم قد يستفيد سكان القطاع من إعادة إعمار بيوتهم الذي دمرت فقط لبضع سنوات لنعود مرة اخرى الى الحلقة والدوامة المعهودة المتكررة ذاتها تدمير... إعادة إعمار... تدمير... وهكذا دواليك. المستفيد الوحيد كما اراه في تقديري المتواضع هو الكيان الصهيوني وشركاته ومصانع الاسمنت والحديد ومواد البناء وأي مادة مرتبطة بإعادة الإعمار. لانه وكما جرى في المرات السابقة كان هذا شرطا اساسيا في إعادة الإعمار والسبب كما تقول الدوائر الصهيونية هو لضمان "الامن" وعدم وصول مواد قد تستفيد منها العناصر والاطراف "الارهابية" في قطاع غزة. وفي الحالات النادرة قد يسمح الكيان الصهيوني لمصر بإدخال كميات محدودة جدا لمواد مرتبطة بإعادة الإعمار لكن بعد التاكد منها ومن الجهة التي تستلم هذه المواد.
هذا بالاضافة ولا شك في ان الاطراف والدول المانحة في إعادة إعمار غزة ستضع شروطها والتي قد يكون من ضمنها إرسال عتاصر من هذه الدول للاشراف على عمليات إعادة البناء وهذا من المؤكد انه بفتح المجال لإرسال رجال مخابرات للتجسس في القطاع او لمحاولة تجنيد عناصر من داخل القطاع للعمل كجواسيس للتجسس على المقاومة ولن يكون هذا بالامر الغريب او المستبعد. والبعثات الدولية وحتى بعثات الامم المتحدة ومن خلال الخبرة الايرانية على سبيل المثال كانت بها عناصر مخابراتية أمريكية وغيرها وبنفس المقياس كان هنالك عناصر مخابراتية أيضا عندما ارسلت بعثات دولية الى العراق قبل وبعد الغزو الامريكي والبريطاني للعراق عام 2003 . ومما لا شك فيه ان بعض الدول المارقة ستضع شروطا على المقاومة الفلسطينية للمشاركة المادية في إعادة الاعمار خدمة للكيان الصهيوني وهذه شروط مرفوضة قلبا وقالبا وقد ظهرت بعض الاصوات المنادية على سبيل المثال بوقف إطلاق نار طويل الامد. وهذا يعني لإبقاء الاحتلال طويل الامد والابقاء على غزة كسجن كبير وأخذ سكانها كرهينة وأداة ضغط. لا يوجد هدنة طويلة الامد او قصيرة الامد والحل الوحيد هو إزالة الاحتلال والاستعمار وعودة الاراضي الى اصحابها الاصليين.
نعيد ونؤكد هنا ان عملية اعادة الاعمار إذا لم تكن مصحوبة بضمانات دولية فاعلة ملزمة للعدو الصهيوني بعدم تكرار اعتداءاته على الاحياء السكنية أو المصانع أو محطات الكهرباء ومعالجة المياه العادمة ومحطات توزيع المياه والمدارس وكل ما تقره الاتفاقيات الدولية على أن تدمير مثل هذه القطاعات يعد من جرائم الحرب فلا فائدة يرجى منها. إعادة الاعمار أيضا وربما هذا الاهم يجب ان تكون مصحوبة بالتعامل مع جوهر المشكلة وليس تداعياتها وإفرازاتها بين الحين والاخر بمعنى ان جوهر المشكلة هو الاحتلال والاحتلال والاحتلال الذي يجب ان يزول نهائيا وبكل صوره البشعة.
* كاتب وباحث أكاديمي فلسطيني