بقلم: د. سنية الحسيني
تمر القضية الفلسطينية اليوم بأحداث هامة أو متغيرات جديدة قد تؤثر على معطيات معادلة صراع الفلسطينيين مع الكيان الصهيوني، عكستها التطورات الميدانية الأخيرة في فلسطين. وطالما مالت كفة ميزان تلك المعادلة لصالح دولة الاحتلال، انطلاقاً من قدراتها العسكرية النوعية القادرة على تدمير أي قوة عسكرية يراكمها الفلسطينيون في سبيل حرب تحريرهم، ناهيك عن سيطرتها الأمنية المطلقة على السكان الفلسطينيين العزل خصوصاً في الضفة الغربية ومدينة القدس وضواحيها أو في حصارها لقطاع غزة. ترصد هذه الورقة ثلاثة متغيرات مهمة تبدل معطيات معادلة الصراع بين الفلسطينيين ومحتلهم، وقد تنتج اختلال توازنها لصالحهم، إن أحسنوا استثمارها. ويتعلق المغير الأول بالفلسطينيين أنفسهم بينما الثاني بإسرائيل في حين يرتبط الثالث بالولايات المتحدة.
أثبتت الأحداث الميدانية الأخيرة في فلسطين، والتي جاءت بداية في حي الشيخ جراح وما لحقها من توترات في محيط المسجد الأقصى والتي إنتهت بحرب غزة الرابعة، وجود عناصر لا متناهية للقوة يمتلكها الفلسطينيون، أولها القوة المادية التي تدعمت هذه المرة بانكشاف وحدة الهوية. إن اتحد الفلسطينيون في جميع أماكن تواجدهم في الأحداث الأخير في ملحمة أسطورية، عكست سر من أسرار قوتهم، وأثبتت فشل الاحتلال في مساعيه لنفيها عبر كل هذه السنوات الماضية من خلال محاولاته لتقطيع أوصالهم، ما بين غزة والضفة، وما بين القدس وفلسطين المحتلة عام 1948، وما بين داخل فلسطين وخارجها. وناهيك عن معركة التحدي والصمود والمواجهة التي يخوضها الفلسطينيون في القدس والضفة الغربية وغزة، شكلت انتفاضة فلسطيني الأراضي المحتلة عام 1948 الثغرة الأمنية الأخطر على إسرائيل لأنها جاءت من قلبها. كما نجح فلسطينيو الشتات، أن يكونوا سفراء فلسطين في العالم غير المكلفين والأكثر اقناعاً وتأثيراً من أي سفير آخر، رغم أنهم قد يكونوا لم يولدوا أصلاً في بلدهم أو حتى يجيدوا لغتها، الا أن ذلك شكل عامل قوة إضافية في المهمة التي كحملوها.
ويبدو أن عنصر القوة السياسية والدبلوماسية الرسمية وغير الرسمية التي بات يمتلكها الفلسطينيون لا تعد أقل مكانة من امتلاكهم للقوة المادية، وهي تلك التي برزت خلال الاحداث الأخيرة. إن النجاح الذي حققه الفلسطينيون في الأحداث الأخيرة على المستوى غير الرسمي في إبراز روايتهم السياسية للعالم خصوصاً الغربي منه، في جميع المحافل والمستويات، عبر كلماتهم المسموعة والمكتوبة والصورة المرئية عكست تميز الشعب الفلسطيني العلمي الذي طالما روج له، والذي انعكس هذه المرة على المستوى الثقافي والوطني. كما أن وجود الفلسطينيين على المستوى السياسي الرسمي يشكل كذلك عنصر قوة في معادلة الصراع مع الاحتلال. انعكس ذلك في قبول فلسطين دولة غير عضو في الأمم المتحدة عام 2012، ما ترتب عليه من قبول لفلسطين كطرف في العديد من المعاهدات الدولية، على رأسها ميثاق روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. إن ذلك التطور منح الفلسطينيون سلاح ردع قانوني للاحتلال لا يقل أهمية عن التطورات اللاحقة في قبول المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في جرائم الاحتلال بحق الفلسطينيين.
وجاءت تطور جديد في أعقاب الحرب الرابعة التي شنها الاحتلال ضد غزة قبل أيام، انعكس في القرار الذي صدر عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في السابع والعشرين من الشهر الماضي، بأغلبية كبيرة، بإنشاء لجنة تحقيق دائمة ذات تفويض كامل، الأمر الذي يشير إلى مدى تغير التصورات الدولية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني في السنوات القليلة الماضية. وعلى الرغم من أن هذا المجلس قد اتخذ قرارات مشابه في أعقاب حربي غزة عام 2009 و2014، الا أن قراره هذا العام يختلف عن تلك القرارت في أمرين، الأول يتعلق بطبيعة اللجنة التي سيتم تشكيلها والتي ستكون لجنة دائمة لا تعنى فقط بالحرب الأخيرة، والأمر الثاني يتعلق في مهمتها المتمثلة بجمع المعلومات والشهادات والأدلة الجنائية لجميع "الانتهاكات والجرائم المرتكبة" لاستخدامها في الإجراءات القانونية المحتملة، لدعم أي اتهامات مستقبلية بارتكاب جرائم حرب.
يتعلق المتغير الثاني في معادلة الصراع الفلسطينية الإسرائيلية بإسرائيل، التي اعتمدت مقاربة سياسية للتعامل مع الفلسطينيين تقوم على أساس نفي وانكار حقوقها ومحاولة تغيير الواقع على الأرض بالقوة لتضييع أي فرصة مستقبلية تقوم على أساس حل الدولتين. ورغم نجاح إسرائيل جزئياً في تغيير المعالم على الأرض بفعل القوة الضاربة التي تمتلكها، الا أنها لم تنجح في تحييد العنصر المتعلق بسكان هذا الأرض واشتباكهم معها. ذلك الاشتباك الذي لم يتوقف يوماً، وإن تذبذبت شدته بين الفينة والأخرى، وعكس علاقة احتلال متجبر بشعب أعزل يتصدى لمحتله. إن تلك العلاقة التي حاول الاحتلال تجاهل طبيعتها بنفيه لها ترجمتها مواقف دول العالم في المواجهة الأخيرة، والتي وجهت انتقادات صريحة لاسرائيل، تذكرنا بذلك الموقف الدولي منها الذي برز خلال انتفاضة الحجارة عام 1988. إن تلك المواجهة التي ذكرت العالم بالوجه القبيح للاحتلال أرغمت الولايات المتحدة ومن يدور في فلكها من دول التأكيد على أن مقاربة إسرائيل لنفي الآخر لم تعد تجد نفعاً، وعاد الحديث مجددا عن ضرورة تحقيق السلام عبر حل الدولتين.
يأتي تلك التطورات في اطار عدم استقرار سياسي يصيب مؤسسة الحكم في إسرائيل، والتي فشلت في إرساء حكومة مستقرة خلال العامين الماضيين، فخضعت خلالها لأربعة إنتخابات برلمانية. ويعكس تآمر أحزاب متباينة الأطياف في إسرائيل لاسقاط حكومة بنيامين نتنياهو رئيس حزب الليكود وحلفه اليميني المكون من الأحزاب الأرثوذكسية والدينية المتطرفة، تلك الحالة المعقدة بوضوح. ويعد نجاح ذلك الائتلاف بالاطاحة نتنياهو وتغييبه عن الساحة مكسباً سياسياً للفلسطينيين، الا أن احتفاظ ذلك الائتلاف بالسلطة في إسرائيل لمدة طويلة أمر مشكوك فيه، نظراً لتباينات فكرية جوهرية بين أقطابه، تتراوح ما بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، الأمر الذي يفسر مدى صعوبة الوضع السياسي في إسرائيل.
ويمثل التوجه اليميني في ذلك الائتلاف نفتالي بينت رئيس حزب يمينا، وغدعون ساعر رئيس حزب أمل جديد، المنشق مؤخراً عن الليكود، وافيغادور ليبرمان رئيس حزب إسرائيل بيتنا، الذين يدافعون عن الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية المحتلة ويدعون لضمها، ويرفضون علناً مفهوم الدولة الفلسطينية ذات السيادة. في حين يمثل اليسار في إسرائيل نيتسان هورويتز رئيسة حزب كاديما والتي تعارض الاستيطان اليهودي في الأراضي المحتلة وتؤيد حل الدولتين، والتي تتشابه أفكارها مع حزب العمل اليساري ممثلاً برئيسته ميراف ميخائيلي. ويؤمن أحزاب الوسط بما بين الفكرين والممثلين في يائير لابيد رئيس حزب هناك مستقبل وبيني غانتس رئيس حزب أزرق أبيض. ومن المفارقات أن هذا الائتلاف سيعتمد على دعم حزب القائمة العربية الموحدة ممثلاً برئيسها منصور عباس في الكنيست، لتمرير التصويت بالثقة، وهو دوراً لعبته الأحزاب العربية لدعم حكومة اسحق رابين في تسعينيات القرن الماضي.
تبلور المتغير الثالث في المواقف التي سادت في الولايات المتحدة سواء على المستوى الرسمي الحكومي والبرلماني أو الإعلامي أو الشعبي خلال الأحداث الأخيرة والتي شكلت نوعاً من التحول السياسي في الولايات المتحدة باتجاه دعم الفلسطينيين وحقوقهم على الرغم من الالتزام الأميركي الرسمي والدعم المطلق لإسرائيل. جاء مواقف إدارة الرئيس الجديد جو بايدن لاحتواء الأحداث الأخيرة في فلسطين وتشديدها على ضرورة مساعدة الفلسطينيين بإعادة اعمار غزة وتأكيدهاعلى حل الدولتين لتحمل انطباعاً ايجابياً لدى الفلسطينيين. على مستوى المؤسسة التشريعية الأمريكية، انتقد العديد من النواب والشيوخ الأميركيين لسياسات إسرائيل في هذه الحرب، ووقع أكثر من عشرين عضو ديمقراطي في مجلس الشيوخ، بياناً دعوا فيه إلى وقف إطلاق النار. وعكست حدة انتقادات التيار اليساري في الحزب الديمقراطي لإسرائيل ولسياسة الولايات المتحدة في التعامل معها ذلك التحول في السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية بوضوح، وهي توجهات بدأ بالتطور داخل الحزب الديمقراطي في السنوات القليلة الماضية وخصوصاً لمواجهة سياسة دونالد ترامب الرئيس الأميركي السابق ضد الفلسطينيين، خصوصاً بعد أن نظمت الأقليات العربية واللاتينية والليبرالية نفسها، كما برز نوع من ذلك التعاطف بين الأجيال الأصغر سناً في صفوف المشرعين الديمقراطيين، وكلها تحولات مؤهلة للتطور لصالح الفلسطينيين في الولايات المتحدة.
وعلى المستوى الإعلامي، شهدت الاحداث الأخيرة في فلسطين تحولاً في كثافة ونوع التغطية الإعلامية الأمريكية لصالح الفلسطينيين وقضيتهم، فقد برزت مقالات الرأي المؤيدة لهم في أبرز الصحف الأمريكية، كما أفردت فضائية ال "سي إن إن" من بين فضائيات أمريكية أخرى، مساحات غير مسبوقة للتعليق على التجاوزات الإسرائيلية مستخدمة مصطلحات لم يعهدها المشاهد الأميركي من قبل على رأسها الاحتلال. ولا يمكن الادعاء أن المظاهرات التي اجتاحت الولايات المتحدة خلال حرب غزة الأخيرة كانت مجرد تحركات عابرة منظمة من قبل العرب، وعلى أنها لا تعكس التغيير الذي حدث في الشارع الأميركي لصالح التعاطف مع الفلسطينيين، فقد أشار استطلاع جديد للرأي أن 27,4 في المئة من الأميركيين عموما و 38,5 في المئة من الديمقراطيين يحملون إسرائيل مسؤولية التصعيد الأخير الأخير.
في اطار تلك المتغيرات الثلاثة من المحتمل أن تكون القضية الفلسطينية قد وصلت إلى بداية مرحلة تحول هامة، الا أن ذلك التطور أو التحول يحتاج إلى رؤية فلسطينية ثاقبة تستطيع أن تستثمر تلك التحولات مجتمعة لصالح قلب معادلة الصراع لصالح الفلسطينيين. ولن تكتمل تلك الرؤية الا باستثمار فلسطيني للمتغيرات نحو إنهاء الاحتلال.
القضية الفلسطينية: متغيرات جديدة قد تخلخل معادلة الصراع
2021-06-03