الإستراتيجية التي اتبعها الكيان الصهيوني بكل أطيافه السياسية بعد عدوان 1967 كانت تتمحور على رفض التعامل مع الدول العربية مجتمعة لإيجاد حل لما يسمى بالصراع العربي-الاسرائيلي وكانت إستراتيجيته مبنية على الاستفراد بكل دولة عربية على حدة. وبقيت تعمل على هذا الاساس مدعومة من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة الى حين تسجيل أول وأخطر إختراق عام 1979 عندما تم توقيع الاتفاقية الخيانية مع النظام المصري في عهد السادات إتفاقية كامب ديفيد التي اخرجت أكبر دولة عربية وازنة في المنطقة والعالم من الصراع العربي-الاسرائيلي. ولم ينقضي وقتا طويلا الى ان وصلنا الى مؤتمر مدريد وبعده مباشرة إتفاقية خيانية اخرى تمثلت في توقيع معاهدة أوسلوا السيئة الصيت عام 1991 وما تلاها من إتفاقيات بين التيار المستأثر والمهيمن والمحتكر وبشكل فردي على القرارات المفصلية للشعب الفلسطيني والذي أوصلنا لما نحن عليه الان. واتبعت إتقاقية اوسلوا بإتفاقية وادي عربة مع الاردن (1994). وتدريجيا ومن العمل تحت الطاولة وفوق الطاولة من خلال ما سمي "صفقة القرن" زمن الرئيس ترامب تم السير في حملة تطبيع مع الدول الخليجية وعلى رأسها الامارات والبحرين المستعمرة السعودية ومن ثم السودان والمغرب تحت حجج واهية وفاقعة بمعنى ان معظم النظام العربي الرسمي قد طبع مع اسرائيل ولو بدرجات متفاوتة نسبيا.
هذه الاستراتيجية للكيان الصهيوني لم تتغير وقد أخطأ الكثيريين من الفلسطينيين في عدم فهمها واستيعابها وذهبوا للتعامل مع كل مشكلة على حدة وكأن لا رابط بينها ونسوا او تناسوا أن السبب الرئيسي يكمن في الجوهر الا وهو هذا الاحتلال والمشروع الاستيطاني الصهيوني الذي بدأ قبل قيام دولة الكيان الصهيوني والذي لا يؤمن بقيام اية دولة غير دولة عبرية ما بين النهر والبحر.
وعملت هذه الاستراتيجية وعلى مدى سنوات على فصل الشعب الفلسطيني ومكوناته ديمغرافيا وجغرافيا وبالتحديد بين الضفة الغربية وقطاع غزة وفلسطيني الداخل 48 . وللحق يقال ان شعبنا في الداخل كان وما زال يشكل سندا ورافعة اساسية لنضال شعبنا على المستوى الجماهيري في الضفة وقطاع غزة كلما ضيق الاحتلال على هذه المناطق وزاد من وحشيته, وكذلك شكل الحاضنة لحماية المقدسات في القدس. وللحق يقال ايضا ان منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها الديكتاتورية لم تعطي شعبنا في الداخل الأهمية والإعتبار الذي يستحقونه.
واليوم وبعد أن تم الاتفاق على "وقف إطلاق النار" الذي لعب النظام المصري وبتوجيه وتفويض رسمي من البيت الابيض والكيان الصهيوني في إحرازه, يعمل هذا النظام حاليا على إبرام إتفاق الهدنة طويلة الامد وإعادة الاعمار في غزة وإيجاد الاليات التي سيتم بها إدخال المساعدات الانسانية بما فيها إعادة الاعمار. الى هنا نتفهم ان الدور المصري ما هو الا إعادة وتكرار لما حدث بعد الاعتداءات السابقة لجيش الكيان الصهيوني في الاعوام 2009, 2012, 2014.
ولكن النظام المصري والولايات المتحدة والكيان الصهيوني مجتمعين يدركون الان ان المناخ والانعكاسات والنتائج التي أوجدها العدوان الوحشي الاخير على غزة وإطلاق الصواريخ التي هزت عاصمة الكيان لاول مرة في تاريخ هذا الصراع في المنطقة الى جانب الهبة الشعبية, شيئا مخالفا لما سبق. وقد كتب الكثير حول هذا المضمار ولكنني أريد ان اتناول قضيتين رئيسيتين هنا:
اولهما: أن الاحداث الاخيرة سواء في القدس أو على جبهة غزة أظهرت هشاشة وضعف السلطة الفلسطينية التي وقفت عاجزة تماما أمام الاحداث مكتفية بتصريح باهت لا طعم له ولا رائحة هنا وهناك ولجوءها الى جامعة الدول "العربية" التي أجازت تدمير الدول العربية التي كانت من الممكن ان تشكل سندا للقضية الفلسطينية. هذا العجز الى جانب الفساد المستشري في كل مؤسساتها والمحسوبيات والامتيازات التي وصلت لكل فرد من أفراد عائلات الصف الاول وربما الثاني في الدولة الوهمية وما حققته المقاومة الفلسطينية من إنجازات على الارض أوجدت شرخا كبيرا أفقيا وعموديا وإصطفافا على الساحة الفلسطينية بشكل لم يكن معهودا بهذا الوضوح والشفافية وفرضه بقوة على الساحة الفلسطينية.
وهذا الشرخ هو ما بين تيار مقاومة التف حوله أغلبية شعبنا سواء في الداخل او الخارج وبين تيار مساومة لا يرى الا في العودة الى المفاوضات العبثية طريقا لتحقيق السراب المدعو "السلام" مع الكيان الصهيوني و "سراب حل الدولتين" التي لهث وراءها وما زالت القيادة الممثلة بأبو مازن أحد مهندسي اوسلو والشلة المنتفعة والمرتزقة من حوله في السلطة.
الاحداث التي جرت تجاوزت السلطة التي رأت انها أصبحت معزولة ووصلت الى حائط مسدود لا تستطيع تجاوزه او الخروج من المأزق. ولقد ادرك محور الكيان الصهيوني والولايات المتحدة ومصر على وجه التحديد انه إن لم يتم التحرك لاخراج السلطة من مأزقها فإنها الى زوال محتم. الان هنالك مساعي تبذل لاعادة السلطة الى ما كانت عليه قبل الاحداث الاخيرة ولقد تمثل هذا في زيارة وزير الخارجية الامريكي الى المقاطعة والاجتماع بأبو مازن وكذلك دعوة مصر للفصائل الفلسطينية بالاضافة الى ابو مازن لمناقشة ما جرى وكيفية العمل على تحقيق هدنة طويلة الامد مع الكيان الصهيوني وإعادة الاعمار وتشترط مصر وبناء على توجيهات الادارة الامريكية والكيان الصهيوني ان يتم ذلك من خلال السلطة الفلسطينية في رام الله. ولقد قامت أمريكا بإرسال مستشار شؤون المساعدات الانسانية للوكالة الامريكية للتنمية الدولية الى رام الله لمناقشة اليات إيصال هذه المساعدات الى قطاع غزة. ومصر تسعى ايضا من دعوة الفصائل الفلسطينية ان تقنع الفصائل بطرح أبو مازن تشكيل حكومة "وحدة وطنية" بعد أن قام بالغاء الانتخابات منفردا لاسباب لم تعد خافية على أحد ليس هذا وحسب بل وبشروط استسلامية ايضا لان على كل من يشارك بهذه الحكومة يجب عليه الاعتراف بالاتفاقيات التي ابرمت مع الكيان الصهيوني وهذا مرفوض قلبا وقالبا من جميع الفصائل والتنظيمات الفلسطينية ولانه أيضا سيساهم في إطالة أمد الهيمنة والاستئثار من قبل زمرة ابو مازن بالقرارات المصيرية للشعب الفلسطيني وسد الطريق على إحداث اي تغيير في النظام السياسي الفلسطيني الذي كان شعبنا يتأمله نتيجة الانتخابات التي أجلت الى أجل غير مسمى من قبل هرم السلطة.
ثاني هذه القضايا وهي ربما أخطر من الاولى ويلعب فيها النظام المصري دورا رئيسيا بالنيابة عن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني هي فصل ما يدور على الساحة الفلسطينية عن صراع المحاور الذي يدور في المنطقة. وهذا ما نطق به رئيس المخابرات المصرية بكل صراحة ووقاحة لوفد حماس الذي زار القاهرة مؤخرا. الكيان الصهيوني يخشى أن تتحول المقاومة الفلسطينية في غزة الى قوة ذات وزن إقليمي على غرار حزب الله اللبناني والمقاومة وخاصة ان في فترة ما بعد الاحداث اعلنتها المقاومة على الملأ ان إيران وقفت الى جانب المقاومة ولم تبخل لا بالمال أو السلاح او تدريب المقاومين ونقل الخبرات العسكرية في مجال تصنيع الصواريخ التي اصبحت تلعب دورا وازنا في تطوير قوة الردع للمقاومة. مصر تريد من المقاومة الفلسطينية في غزة الابتعاد عن المحاور في المنطقة وخاصة في الصراع القائم بين الولايات المتحدة وإيران بمعنى أن مصر تلعب دورا منوط بها وهو محاولة الضغط لفصل المقاومة عن محور المقاومة في المنطقة حتى يتم الاستفراد بها والتعامل معها من موقف الضعف وليس من موقف القوة. وهذه هي الاستراتيجية التي دأب عليها الكيان الصهيوني بعد حرب 1967 كما أوضحنا في بداية المقال. ومن المؤكد ان مصر ستقوم بتقديم إغراءات فيما يخص إعادة الاعمار وتحسين الوضع المعيشي لسكان القطاع وتسهيل حركة المرور عبر معبر رفح من طرفها....الخ من هذه الوعود. ولكن المقاومة تدرك جيدا أن كل هذه الوعود ما هي الا سبيل لإضعافها والإستفراد.
ويحق لنا أن نتساءل ونطرح السؤال لماذا تقبل مصر او تعطي الحق لنفسها بالإنضمام الى حلف السعودية في حربها المجرمة على اليمن وفي نفس الوقت تنضم الى حلف أمريكا في المنطقة وبشكل غير مباشر أو مباشر مع الكيان الصهيوني وتحصل على التسليح من أمريكا ومعونات سنوية 3 مليار دولار (عندما باعت سيادتها 1979 في كامب ديفيد) تذهب معظمها للمؤسسة العسكرية المصرية وتريد ان تنكر على غيرها سواء المقاومة أو دول عربية أخرى أن يدخلوا ضمن محور يشعرون بأنه مدافع عنهم ويقدم لهم كل أنواع الدعم والمساعدة ؟ الكيان الصهيوني متحالف استراتيجيا وعضويا مع الولايات المتحدة الذي تمده بكل انواع الاسلحة الفتاكة لممارسة وحشيته وعنصريته في العدوان على غزة فلماذا لا يحق للمقاومة ان تتحالف مع طرف او محور يقدم لها كل الدعم المالي والعسكري والسياسي للدفاع عن نفسها وعن شعبها ؟ لماذا يسعى النظام المصري الى فك الارتباط بين المقاومة الفلسطينية وحلف المقاومة المناهض للامبريالية الامريكية في المنطقة إن لم يكن هذا خدمة لأمريكا والكيان الصهيوني؟
كاتب وباحث أكاديمي فلسطيني
ذBahij.sakakini@gmail.com