2024-11-27 06:45 م

أوهام المسار الإبراهيمي بين فخاخ التاريخ والمستقبل

2021-09-17
بقلم: سامح المحاريق
أتت مقاربة الحديث عن السلام الإبراهيمي، لتقدم تبسيطاً مخلاً لطبيعة الصراع العربي ـ الإسرائيلي يحمل الكثير من المغالطات والتلفيقات، فأي سلام يمكن أن يبتعد بجذوره التاريخية إلى نقطة غامضة وغير منتجة مثل شخصية النبي إبراهيم عليه السلام.
بدايةً، لماذا العودة إلى التاريخ وهو الملعب المفضل للجانب الإسرائيلي الذي يريد أن يشوش على قضية حقوق الشعب الفلسطيني، التي سُلبت أمام المجتمع الدولي بصورة فجة ووقحة لتطبيق المقولة الصهيونية «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» بكل ما تحمله من تناقض مع فكرتي التنوير والحداثة، وما تولد عنهما من فكرة الدولة الحديثة، ألم ندرك أن الفخاخ التاريخية التي ينصبها الجانب الصهيوني ليست في مصلحة الفلسطينيين، وكأن عليهم، وهم الشعب المنفتح والمتسامح والمتعدد الأعراق، أن يتدبروا العودة إلى أماكن وفدوا منها في التاريخ السحيق، فهل تفضل الصهيونية مثلاً أن يعود الفلسطينيون من أصول بلتسية إلى جزر اليونان، والعرب إلى الجزيرة وما إلى ذلك؟ وما معنى الوجود في مستقر حضاري لقرون متواصلة وهادئة، تنتهي بخروج قسري وتجريد من الممتلكات ليتحول ملايين الفلسطينيين اليوم إلى شتات مشرد في مختلف أنحاء العالم؟
المقاربة تأتي بائسة أيضاً في جانبها الديني، فمن هو إبراهيم الذي يتحدثون عنه؟ الشخصية التوراتية التي قدمت بصورة غير مناسبة؟ أم إبراهيم القرآني الذي لحقت به رؤية تنزيهية تقديسية، هل هو إبراهيم رب العائلة المشتت بين زوجاته وأبنائه؟ أم صاحب الرسالة التوحيدية الأولى؟ الخلاف على شخصية إبراهيم هو خلاف جذري في التصورات وفي رؤية العالم ككل، والإسلام ومن قبله المسيحية كانا يفككان مقولة الشعب المختار الذي كان جذرها استفراد أبناء يعقوب بالبركة والرعاية الإلهية والتي كانت تعني استبعاد الآخرين تماماً، ونفيهم من هذه الصفة، جعلهم أغياراً وأعداءً. أخذت قصة أبناء إسرائيل قسطاً واسعاً من القرآن الكريم، لكن ذلك لم يكن احتفاء بالقصة، وتأكيداً على فكرة الشعب المختار، بقدر ما كانت نقداً للفكرة بصورة جذرية، وانقلاباً على فكرة الاختيار ككل، ولذلك أتى الحديث عن أبناء آدم في التصورات الإسلامية، ليزيح التركيز على أبناء يعقوب، وبذلك تنتفي فكرة الاختيار بما توحي به من اصطفاء ككل، عن اليهود وعن العرب وعن أي شعب آخر، وأصبحت «أكرمكم عند الله أتقاكم» مقولة انقلابية على تراث يهودي كامل.

السلام الإبراهيمي يرتكن في جوهره إلى فكرة توسعة الشعب المختار، وكأنه مصالحة بين أبناء يعقوب وأبناء عمومتهم المنتمين إلى إسماعيل، وهذه الفكرة تستجلب عدواً مشتركاً، والانتزاع من السياق العالمي والبحث عن العدو المشترك بالنسبة لمنطقة تتوسط العالم وصراعاته، ليس بالسلوك الصحيح عموماً، فهل يتم تأهيل المنطقة مثلاً لتصبح خطاً متقدماً في مواجهة الصين، بحيث تصبح (إسرائيل) العقل والعرب الوقود في مواجهة تجري لمصلحة الغرب؟ أم يمكن أن تتواضع الفكرة لتجميع شعوب بائدة من التاريخ لمواجهة أساطير شعوب أخرى، العرب واليهود الساميون مع الفرس الآريين، هل يتوافق ذلك كله من الأساس مع الحديث عن مرحلة ما بعد الحداثة وشروطها القائمة ومظاهرها، ومع تحديات جديدة تواجه الإنسانية بشكل عام؟ أن يختصر صراع يحمل أبعاداً استعمارية واستغلالية في مشكلة عائلية أمر غير طبيعي، لأنه ببساطة يلغي التطور التاريخي الذي حدث في المنطقة والعالم تجاه العودة إلى نقطة غائمة وغير مستقرة في التاريخ، ولا يمكنه بالطبع أن يحقق شيئاً لملايين الفلسطينيين ممن خسروا حياتهم أو ممتلكاتهم أو شيئاً من كرامتهم نتيجة الشتات في العالم.
تغييب مأساة الإنسان الفلسطيني في سراديب التاريخ أو السماء، أمر أجادته (اسرائيل) بصورة متواصلة، واستطاعت أن تختزل الصراع في ملفات معينة، بحيث أصبحت القدس المهددة دائماً هي الأمر الجوهري، وأمام تهديد المقدسات الدينية فإن (اسرائيل) تطلب الثمن في المقابل، وهو التنازل عن المقدس الإنساني (الحرية والكرامة والعدالة) لتدفع فلسطينيي الداخل والخارج على السواء، إلى تقديم تنازلات يعتقدون أنها افتداء للمقدسات، وذلك كله تلاعب صريح بالجانب العاطفي والانفعالي، كما يحدث بالضبط عند الحديث عن سلام إبراهيمي.
مقولة المسار الإبراهيمي في فهم الصراع والعمل على تسويته بالتالي، واحدة من الأفكار السيئة للغاية، فالجرائم الصهيونية تتطلب محاكمة أخلاقية بالدرجة الأولى، وإنصافاً للشعب الفلسطيني، بمعنى الحديث عن تأسيس دولة فلسطينية تمتلك الحرية في توطين اللاجئين الفلسطينيين، أو منحهم الحق المفتوح والدائم بالعودة إلى أراضيها، ويتطلب استعادة الممتلكات المنهوبة أو تعويضاً عادلاً عنها، وهو الأمر الذي لا يمكن لإسرائيل أن تقدمه وجودياً وتسوق (العقلية الصهيونية) لاستحالة وضعه على الطاولة أساساً، لأنه يعني عملياً نهاية (إسرائيل) بل تحاول الإيحاء بأن نهاية (إسرائيل) بوصفها كياناً أقيم على أسس غير شرعية بأنه خطر محدق بالسكان اليهود الذي هاجروا إلى فلسطين خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وكأن أمامهم هذه الأرض أو أن يتحولوا إلى وليمة لأسماك المتوسط، وهذه أساطير أخرى تعرقل إطلاق حوار حقيقي حول تسوية قابلة للاستمرار. أياً يكن، فالمسار الإبراهيمي ليس فارغاً من المعنى والمحتوى والجدوى وحسب، لكنه إضاعة للوقت تحول دون الوصول إلى المسار الحقيقي والطبيعي.
كاتب أردني
المصدر/ القدس العربي