بقلم: ناصر قنديل
– مع نهاية عام وبداية عام جديد يقوم الناس بجردة حساب لما مضى ومحاولة رسم الآفاق لما هو قادم، وهذا يحدث على المستوى الفردي الشخصي وكذلك على مستوى الجماعات والشعوب والدول، والمنطقة التي نعيش فيها والعالم الذي ننتمي إليه، وقد شهد العالم أكبر التحولات التي تؤسس للعام المقبل، مع الانسحاب الأميركي من أفغانستان الذي شكل أول حدث من نوعه منذ الانسحاب السوفياتي من أفغانستان، الذي أدى بتداعياته إلى إطلاق مسار انهيار الاتحاد السوفياتي، وقبله الانسحاب الأميركي من فييتنام الذي بقي مصدر ردع يمنع الذهاب الأميركي إلى حروب جديدة لعقود طويلة، وهذا الانسحاب الأميركي من أفغانستان الذي قال الرئيس الأميركي جو بايدن إنه ترجمة لقناعة ثابتة بأن التدخل العسكري ثبت فشله كطريق لصناعة السياسة وتعميم الديمقراطية، وأن المزيد من البقاء سيعني المزيد من الخسائر والمزيد من الفشل.
– في المنطقة شهد العام الذي يلملم ما تبقى منه ليرحل، أبرز تطور في القضية التي تحكم مستقبل السياسة فيها، عبر المعركة الفاصلة التي عرفت بسيف القدس، بين قوى المقاومة في غزة، وجيش الاحتلال، وخلال أيام المعركة برزت معادلة ردع جديدة كانت خلالها تل أبيب تحت صواريخ المقاومة، فيما كانت الأراضي المحتلة عام 48 تسجل أعظم انتفاضاتها المستدامة، والقدس تقدم شبابها وصباياها شهداء في عمليات الطعن والدهس، ليدخل الصراع في المنطقة مرحلة جديدة عنوانها بلوغ التراجع الإسرائيلي مرحلة غير مسبوقة منذ نشأة هذا الكيان وتسيده على المنطقة، بصفته القوة الوحيدة القادرة على صناعة الحرب، وبقوة جيش قيل عنه إنه لايقهر، وبات يقهر ويقهر ويقهر.
– بين العالم والمنطقة يدخل التفاوض في فيينا اختبار البحث عن فرص السياسة لتجاوز الاستعصاء وملء الفراغات بالسياسة، فالإدارة الأميركية التي تحاول أن تتماسك الاخفاء الندوب التي تملء جسمها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وترفع صوتها وتصرخ، على أمل تحسين شروط التفاوض بحثاً عن سنوات ضرورية لالتقاط الأنفاس، وتطلق عليها أسماء جذابة وبراقة، كالعودة إلى الدبلوماسية والسياسة، وأولوية أميركا العظيمة على أميركا العظمى، وتشكل العودة الأميركية إلى الإتفاق النووي إعلان نهاية زمن العقوبات كأداة لصناعة السياسة، بمثل ما شكل الانسحاب من أفغانستان إعلان نهاية زمن القوة العسكرية في صناعة السياسة، لتظهر المفاوضات مع روسيا إعلاناً مزدوجاً لنهاية الزمنيين معاً، فتفقد أميركا القدمين اللتين كانت تقف عليهما في العالم، القوة والمال، بمثل ما فقدت “إسرائيل” قدميها أيضاً، الاحتلال والردع، وبعدما فشلت حروب الوكالة أو الحرب الناعمة فرصها في تشكيل بديل مناسب، وكانت سورية الإعلان الأهم لهذا الفشل، حيث كانت أيضاً روسيا، وكانت إيران، وكان الشهيد قاسم سليماني الذي تحل ذكراه بعد أيام وتخصص له البناء عدداً خاصاً يوم الثلاثاء تشارك في مقالاته أسماء لها باعها في صناعة السياسة، يتقدمها وزير خارجية سورية الدكتور فيصل المقداد ورئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد، تبدو واشنطن وتل أبيب في العام الجديد على موعد مع الفراغ الاستراتيجي، وفيما تملك واشنطن استراتيجية الخروج بالتفاوض، تواجه “إسرائيل مستقبلها القاتم، كما سبق وحذرتها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون.
– في لبنان حيث الرقص فوق صفيح ساخن، سجل العام الذي يمضي نهاية حركة الشارع التي بدأت مع انتفاضة 17 تشرين الأول عام 2019، وتحول الرهان على إعادة رسم توازنات النظام السياسي نحو الانتخابات، التي يدرك الجميع أنها لن تحمل أكثر من تعديلات في الأوزان والأحجام ستحفظ بمفهوم الديمقراطية التوافقية، حق الفيتو لجميع اللاعبين الكبار، وكما يظهر لبنان الغارق في انهيار اقتصادي وسياسي وانسداد قدرة المؤسسات الدستورية على التعامل مع الأزمات، تبدو الإشارة الوحيدة الايجابية هي أن لبنان الذي ذهب في أزمات مماثلة إلى الحرب الأهلية، يبدو بعيداً عنها بسبب معادلة قوامها “أن من يقدر عليها لا يريدها، ومن يريدها لا يقدر عليها”، وبفعل قوة المقاومة سيكون أمام لبنان فرصة للاستفادة من عائدات التحولات الاقليمية المقبلة، ليقف على طرف التلقي الايجابي بدلاً من موقع تقليدي كان يحجز له هو الوقوف على طرف التلقي السلبي.