2024-11-27 05:56 م

انها السطوة تجعلك قردا او غزالا..

بقلم: كمال خلف
في عالمنا العربي بقدر قربك وامتثالك وخدمتك للمنظومة الغربية عموما والولايات المتحدة تحديدا، فانت شخص جيد، نظام جيد، حزب جيد، كاتب جيد، وسيلة اعلام جيدة، صحفي جيد، جهاز امني جيد، قضاء جيد، جيش جيد.
 حتى لو كنت دكتاتورا في بلدك، وتبطش بشعبك، وتعتدي على جيرانك، وتنكل بمعارضيك. فلن تتعرض لتهديد او وعيد او عقوبات او ملاحقة في الخارج او من الخارج، ربما يطالك رشة انتقادات لايت، لا تؤثر بالسياسات ولا تستدعي إجراءات. لكنك ستبقى عضوا صالحا فيما يسمى المجتمع الدولي.
حتى لو كنت فاسدا تنهب المال العام، وتتلاعب بالصفقات، وراكمت ثروة غير مشروعة، لن يطالك محاسبة او عقوبات، ولن يكون اسمك على لوائح سوداء. حتى لو كنت إعلاميا تحرض على القتل، والفتن، والكراهية، والحروب، والعنصرية بلسان مبين. لن يلومك احد في العالم، طالما انت منسجم مع سياسات و رغبات ونظرة أمريكا وحلفائها في بلادك وما حولها. وسيسجل عملك في اطار حرية الراي، وقد تمنح جائزة تتباهى بها في الوسط الإعلامي بانها من اكبر دولة في العالم. بلد الحريات والديمقراطية. لن يوقفك احد ليسألك عن ملايين القتلى والمشردين في العراق، بعد غزوها من أمريكا، لن يسألوك عن التعذيب والتنكيل والاعدام في سجن أبو غريب، لن يسالوك عن فلسطين وأهلها وعن غزة الجائعة المحاصرة، وعن القدس ومساجدها وكنائسها وعن عشرات الاف المعتقلين وعن ملايين اللاجئين بفعل الدعم الأمريكي الغير محدود لإسرائيل على حساب أبناء جلدتك، لن يسالوك عن الشعب المجوّع في سورية، وعن الدمار في ليبيا وعن الشعب المختنق في لبنان.
حتى لو كنت جيشا وأجهزة امنية تقمع الشعب الغاضب، وتشن حربا على بلد مجاور، وتدمر كل ما فيه، وتقتل شعبه، وتقصف المنازل والاعراس والمآتم، وتمنع الغذاء والدواء، ليستسلم الخصم ويسلم لك بما تريد، لن يوقفك او يحاسبك احد طالما ما اردته يطابق ما تريده أمريكا ومنظومة الغرب المتوحشة، ولا يؤثر على وجود الحليف المدلل إسرائيل.
انها السطوة اخي العربي. السطوة التي تضع معاييرها في عالمنا العربي على أساس مدى طواعيتك لسياسات الولايات المتحدة، ومدى قربك او بعدك عن فكرة قبول إسرائيل بشكلها الدموي البشع. وقبولك باحتلال ارضك وانتهاك سيادة بلادك.
انها السطوة التي تفرز وفق معيارها وسياستها ومصالحها في بلدانا بين “متخلف وحداثي”، “إرهابي ومتحضر”، قرد وغزال.
ان تكون قردا ليس بالضرورة ان تكون فاسدا او حاقدا، او إرهابيا او عنصريا.. يكفي ان تكون ضد إسرائيل وضد الإرادة الامريكية. وان تكون غزالا ليس بالضرورة ان تكون متحضرا، او منتجا، او متسامحا او نزيها او حتى ديمقراطي، يكفي ان تروج للتطبيع وان تتهجم على المقاومة.
انها السطوة التي تستعمل التفوق العسكري، والتهديد بالقوة الصلبة، والضغط السياسي، والحصار الاقتصادي، وسلاح المال وشراء الذمم، وقوة الدعاية، وحرب المفاهيم والقيم. وشيطنة الخصوم، ومعاقبة المعاندين، ومكافئة المطواعين، وترويض النخبة، وتهديد أصحاب القرار، وتجريم المقاومين.
 كل هذه السطوة بكافة الوانها تمارسها الولايات المتحدة بمساعدة وكلاء من دول وحكومات، وجمعيات، ونخب، واعلام في عالمنا العربي المسكين وعلى شعوبنا المسحوقة. مستغلة فساد الأنظمة وتسلطها، وفشل الأحزاب وانانيتها، ورغبة المجتمعات العربية في التغيير والحرية والعيش الكريم، واللحاق بركب الأمم المتحضرة.
 بلا ريب نحن في العالم العربي بحاجة للتغيير، وتواقين كشعوب لبناء دول ديمقراطية فاعلة تحترم حقوق الانسان، وتحقق له التنمية والتطور وتامن العيش الرغيد. انما وجبة التغيير الامريكية الغربية الجاهزة الان في المطابخ، بمعاييرها، ومفاهيمها، ورغباتها، وأهدافها ليست سوى وجبة مسمومة، ستجعل منا رعاعا بلا كرامة ولا انتماء وطني وبلا تاريخ او هوية، وتزيد من بلاهة وتبعية الدمى التي تحكمنا، وتعزز من قوة الخيطان باصابع السيد الأمريكي في تحريك تلك الدمى.
ربما يكون ما يحصل في لبنان من أوضح المشاهد في اللوحة العربية الممزقة. حيث تخوض قوى الغرب وإسرائيل، اشرس معارك السطوة. وإذ تساءلت لماذا في لبنان المعركة اكثر شراسة، فان الجواب واضح، الخطر والتهديد الأكبر على إسرائيل يأتي اليوم من لبنان، والحرب العسكرية المباشرة فشلت بالقضاء على هذا الخطر، ولابد من حصان طرواده، وتنفيذ الهجوم من الداخل. ضخت ملايين الدولارات غير تلك الخمسة ملايين دولار التي اعترف بها يوما السفير الأمريكي جيفري فلتمان بانها صرفت في لبنان لتشويه صورة المقاومة او العشر مليارات التي اعترف بها السفير ديفيد هيل امام الكونغرس. فتحت صنابير المال مجددا من جيوب عربية بأمر امريكي لتركيب منظومة وشبكات العمل الاجتماعية، والمليشاوية، ومنظمات المجتمع المدني، والاعلام، والأحزاب، شخصيات، وسوشيال ميديا وفن. في الوقت ذاته الذي افتعلوا فيه ازمة معيشية خانقة حرم فيها المواطن اللبناني من ابسط مقومات الحياة.
 كل ذلك لبناء سردية التغيير، التي عممت مصطلحاتها واحكامها ولغتها واساطيرها وباتت تتكرر على مسمع اللبنانيين ليل نهار حتى أضحت بديهيات ومسلمات تسمعها في الشارع دون ان يدقق في صدقيتها احد، مع الفرز اليومي بين قرد وغزال في كل مناحي الحياة السياسية والإعلامية والاجتماعية والفنية وتشكيل ملامح التغيير في المرحلة المقبلة، والذي يراد له ان لا يتوقف قبل انجاز تغيير سياسي جذري، ينهي قوة المقاومة في وجه إسرائيل، ويجر لبنان نحو التطبيع الكامل، وهذا هو الهدف المنشود.
وكرست شبكات العمل، شخصية مثل رئيس حزب القوات اللبنانية “سمير جعجع” بتاريخه الدموي المرتبط بإسرائيل، وفكره العنصري وتمويله السعودي وارتهانه الأمريكي زعيما للتغيير. وحيدت ماكينة العمل كل الزعماء الفاسدين الموالين لامريكا والغرب وهم الأكثر فسادا في لبنان، وحصرت المسؤولية عن الانهيار و الفساد بنسقين، الرئيس ميشيل عون وجبران باسيل وتيارهم السياسي، لانهم الموارنة المسيحيون المتحالفون مع حزب الله، وحزب الله والمقاومة التي يصوب عليها يوميا دون توقف وتتصاعد الحملة ضده، وعلى سلاحه ونهجة وتحالفاته.
هذه الصورة في لبنان احدى الأمثلة الحية عن اشكال التغيير والتطور والتحرر الذي تريده وتسعى اليه أمريكا في عالمنا العربي، وعن شكل ومضمون الفرز في بلادنا.
وفي سورية وضعوا الرئيس بشار الأسد بين خيارين ان يفك التحالف مع حلف المقاومة، وان يتصالح مع إسرائيل، وبعدها سيكون مقبولا، ورئيسا رائعا، ويجلس بين الزعماء العرب في الجامعة، وسيشبع الشعب السوري وينعم بالكهرباء والوقود والدواء. او يرفض ويبقى مصنفا دكتاتورا قاتلا لشعبه، والغرب سيدعم حق الشعب السوري في الديمقراطية والتغيير والكوسا بلبن. لا مجال هنا لاستعراض المزيد والكثير من الأمثلة.
هذه هي الحقيقة في عالمنا العربي، ان كنت زعيما مواليا للغرب طيعا لامريكا، قريبا من إسرائيل، يمكنك ان تسجن وتقتل، وتقمع، وتشن الحروب. وسوف تستقبل في العواصم الغربية كأحد صناع السلام والشركاء.
 ان كنت صحفيا عربيا تروج للتطبيع مع إسرائيل، وتبرر جرائمها، فانت صحفيا متميزا، وكاتبا حداثيا، تنظر الى المستقبل، ولست اسير الماضي المتخلف وانت من صنف الغزلان. واذا انتقدت إسرائيل فانت معاد للسامية، فاشل، عدمي، ماضوي، ظلامي، إرهابي، تحض على الكراهية ومن فئة القرود والمقرودين.
 هذا هو الواقع اليوم. وهذه حقيقة اتجاهات التغيير المسيطر عليها من الولايات المتحدة والغرب في امتنا.
 اية صناديق اقتراع اليوم يمكن لها ان تعبر عن راي الشعوب وهي تقع تحت هذه السطوة، وهذا التلاعب بمصيرها ومستقبلها.
اية صحافة حرة وحريات لا تعبر فيها النخبة عن اوجاع امتها، وعن صرخات الشعوب تحت الاحتلال، ومعاناة المعتقلين في السجون. أي تطور وتقدم ومستقبل هذا في ظل قواعد عسكرية أمريكية جاثمة على ارضنا، وسفراء يتدخلون في لون كلاسين حكامنا. انا اخترت ان أكون قردا، وان اموت قردا في غابة كانت تسمى الوطن العربي.
كاتب واعلامي فلسطيني