بقلم: عماد الحطبة
في مقهى في ولاية ويسكنسن الأميركية، وضع صاحبه لوحة كتب عليها: "الحرب هي الطريقة الأميركية لتعلم الجغرافيا". دفعني الفضول إلى لقاء الرجل لأعرف سبب كتابة تلك الجملة. وقتها، كانت أميركا تحارب في أفغانستان، ولم تقم بغزو العراق بعد.
حدَّثني عن استطلاع للرأي العام قامت به إحدى شبكات التلفزة الأسترالية في ولاية تكساس، وكان السؤال: ما رأيك في خطط الولايات المتحدة لشن حرب في "أسترالياستان"؟ 54% من أصل 2000 شخص شملهم الاستطلاع أيدوا الفكرة، لأن "أسترالياستان" تهدد قيم الحياة الأميركية". إحدى محطات التلفزة عرضت لقاءات مع أشخاص في الشارع ممن شملهم الاستطلاع وأعلنوا رأيهم صراحةً.
استعدتُ هذه الذكرى من زيارتي للولايات المتحدة، فيما كنت أقرأ عن جغرافيا وتاريخ منطقة الساحل الغربي لأفريقيا، في محاولة لفهم ما حدث في تلك المنطقة، وخصوصاً الانقلاب في النيجر. تعلَّمت درساً في الجغرافيا والديموغرافيا، وحتى السياسة التي غابت عنّا منذ سنوات، فلم نعلم أن شعوباً في أفريقيا تخوض منذ سنوات نضالاً مريراً ضد الاستعمار وقواعده التي تنهب خيراتها.
بدأت التحركات الشعبية في النيجر منذ سنتين تقريباً بعد قرار الرئيس بازوم استقبال الجنود والقواعد الأجنبية، وخصوصاً الفرنسية، التي طُردت من مالي وبوركينا فاسو. على مدى 20 عاماً، كانت القواعد الاستعمارية تنهب ثرواتهم، وكان عملاء الرأسمالية الإرهابيون يحصدون أرواحهم.
مررنا في بلادنا بالتجربة نفسها منذ الغزو الأميركي للعراق والحرب على سوريا وليبيا واليمن. في تلك الحروب، تعلمنا جغرافيا وطننا وديموغرافيته من خرائط المعارك التى خاضتها جيوشه الوطنية في مواجهة الاحتلال وعملائه الإرهابيين.
لم تكن مصادفة أن تكون الولايات المتحدة طرفاً في كل تلك الحروب. لو عدتُ اليوم إلى ذلك المقهى، لطلبت من صاحبه أن يغير المكتوب على اللوحة ليصبح: "الحرب هي الطريقة الأميركية لتعليم العالم الجغرافيا".
لا تكتفي الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة بتعليمنا الجغرافيا، بل تسعى إلى تغييرها بما يتناسب مع مصالحها، وتفرض علينا قبولها، حتى لو كانت مناقضة لمصالحنا. تكتسب تغييرات الجغرافيا صفة الاستعجال في ظل "الحرب العالمية" التي تخوضها الرأسمالية في أكثر من 15 دولة في آسيا وأفريقيا وأوروبا، تضاف إليها الحرب على الإرهاب التي تعتبر الرأسمالية أن العالم بأكمله ساحة لها. لذلك، تحاول الرأسمالية إعادة تقسيم العالم لخلق زبائن أكثر طواعيةً وقبولاً بشروطها، وأقل قدرة على الإنتاج، ليكونوا أسواقاً مثالية لمنتجاتها.
في الجهة المقابلة، تحاول الاقتصادات الصاعدة التي تمثلها مجموعات مثل بريكس ومنظمة شنغهاي، وهي مجموعات رأسمالية من دون نزعة إمبريالية، الحصول على حصة من الاقتصاد العالمي تعادل مساهمتها الاقتصادية (30% تقريباً) وحجم سكانها (40% من سكان العالم).
لتحقيق هذا الهدف، لا بد من تبريد النقاط الساخنة في العالم، وحل الأزمات، واستبدال علاقات الهيمنة الرأسمالية التقليدية بشروط اقتصادية تقوم على تأمين انسياب البضائع والخدمات من خلال التعاون والشراكة، ما يتطلب اقتصادات مستقرة، متوسطة أو كبيرة، وقادرة على الإنتاج. إنه شكل يذكرنا بالاقتصاد الكنزي الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية، والذي دمرته الليبرالية الجديدة في نهاية سبعينيات القرن الماضي.
إذا قبلنا الفرضيات السابقة، نستطيع فهم جغرافيا الحروب الحديثة وتقلباتها. الناتو يقاتل "داعش" في أفغانستان ويدعمها في سوريا، ويمهد الأرضية لتدمير ليبيا وتقسيمها، ويهدد بحرب على النيجر للحفاظ على الديمقراطية. تشعل الأمم المتحدة قضية مسلمي الروهينجا. وفجأة، تنطفئ القضية من دون أن نعرف السبب. يموت الأطفال في اليمن والسودان جوعاً، والعالم يتابع قصة دولفين ضل طريقه إلى شاطئ المكسيك.
لماذا سارع مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي إلى إصدار إعلان برفض أي تدخل خارجي في قضايا القارة الأفريقية، بما في ذلك الشركات الخاصة؟ هل يرتبط هذا الإعلان بتصريح شركة "فاغنر" أنها بصدد العودة لمحاربة الإرهاب في أفريقيا؟ إذا كانت الإجابة نعم (وهي كذلك)، لماذا لم نسمع صوت هذا المجلس عندما قامت فرنسا بعملية عسكرية لإنقاذ بعض عملائها من أحد سجون العاصمة نيامي؟
تساءل صحافي أميركي في مقال قبل نحو سنتين عن العلاقة بين احتلال الولايات المتحدة آبار النفط والغاز السورية ومحاربة الإرهاب، لكننا لم نسمع تعليقاً من الأمم المتحدة أو أي من وكالاتها "المحايدة" يذكر هذا الاحتلال كواحد من أهم أسباب الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تعيشها سوريا. اليوم، يدعم "المجتمع الدولي" عصابات انفصالية في الشمال والشرق والجنوب السوري تحاول إنجاز حزام أمني لحماية "إسرائيل"، وتبرر ذلك بأن الشعب يثور بسبب الغلاء.
أكثر من 9 ملايين سوري غادروا بلادهم. تغيرت ديموغرافيا معظم المناطق السورية من حيث العدد والتركيبة السكانية. التقارير الدولية تربط الهجرة بالحرب والفساد، ولا نسمع مؤسسة دولية تتطرق إلى العقوبات والحصار الذي تفرضه الدول الرأسمالية.
الهجرة نفسها تخرج من أفريقيا، بحسب المؤسسات الدولية. مرة أخرى، السبب هو الفقر والقمع والفساد، من دون ذكر للنهب المنظم الذي تمارسه الدول الرأسمالية في أفريقيا منذ مئات السنين أو دعم هذه الدول للأنظمة القمعية في القارة أو من قتل باتريس لومومبا وتوماس سانكارا؟
يرى الجالسون في البنتاغون أو قيادة حلف الناتو جغرافيا واحدة للعالم هي جغرافيا النهب. خارطة العالم ليست سوى خارطة ثروات وممرات مائية وقواعد عسكرية تضمن كبح الخصوم الاقتصاديين. لا توجد شعوب وقضايا وطنية أو إنسانية، كما يأمل أنصار الغرب وديمقراطيته الليبرالية. كل أدوات الرأسمالية السياسية والاقتصادية والتقنية لا يمكن أن تنتج إلا الرأسمالية نفسها.
تبلغ مساحة جنوب السودان 645 ألف كيلومتر مربع، ويسكنه 11.5 مليون إنسان، وتمر عبره 18% من مياه نهر النيل، ويضم 85% من نفط السودان قبل التقسيم. يعاني جنوب السودان نسبة فقر مدقع (أقل من 2 دولار يومياً) تبلغ 52%، والصادرات الزراعية غير موجودة تقريباً، ويعتمد السكان على زراعة الاكتفاء الذاتي (الكفاف)، وأكثر من 70% من السكان لا تصل إليهم الكهرباء أو المياه الصالحة للشرب.
أما فرنسا، فتبلغ مساحتها 675 ألف كيلومتر مربع، ويسكنها 68 مليون إنسان، ولا يوجد فيها نفط. مع ذلك، فهي خامس أكبر اقتصاد في العالم، والمنتج الزراعي الأول في أوروبا. هذا جزء من خريطة العالم كما يراها المستعمرون.
في الحرب الدائرة اليوم، التي يتصاعد أوارها مع كل تمرّد تبديه دولة على جغرافيا الاستعمار، ما زالت جغرافيا أوطاننا معرضة للمزيد من التفتيت والتشرذم. حلفاؤنا الرئيسيون اليوم هم من يخوضون الحرب إلى جانبنا، من نيامي أو واغادوغو، وحتى طهران، مروراً بجنين وبيروت ودمشق، ومن صنعاء حتى حلب. هي الحرب. قد تثقل القلب، لكن ثمن المقاومة يبقى دائماً أقل من ثمن الاستسلام.
المصدر: الميادين