بقلم: جمال زحالقة
أصيبت إسرائيل بأكبر صدمة في تاريخها، حين أفاقت صباح السبت السابع من أكتوبر، على انهيار نظام الدفاع والسيطرة على حدود قطاع غزة، وعلى استيلاء محاربي حركة حماس لساعات طويلة على عشرة مواقع عسكرية وعشرين مستوطنة في منطقة غزّة. ولم تشهد إسرائيل مثل هذا الوضع منذ حرب 1948. وعبّر المتحدثون في إعلامها عن إحساس بالإذلال والإهانة والانهيار نتيجة للإخفاق في الحصول على أي معلومة مسبقة عن الهجوم المباغت وعدم قدرة القوات العسكرية التصدي لهجوم مقاتلي حماس. وذهل المجتمع الإسرائيلي ونُخبه من خسائر لم يسبق لها مثيل في تاريخ الصراع، حيث قُتل في يوم واحد أكثر من ألف وجُرح أكثر من ثلاثة آلاف ووقع في الأسر ما يربو على ثلاثمئة شخص.
لم تخرج إسرائيل بعد من صدمتها، لكنّها جمعت قواها، وأعلنت فورا حرب الدمار الشامل على غزّة، مع تأكيد مسبق من قيادات أمنية، بأنّها لا تتوخّى الدقّة، بل الدمار والمزيد من القتل والدمار. وقامت الطائرات الإسرائيلية بقصف مكثّف للمباني السكنية والمرافق المدنية في قطاع غزّة. وتباهى الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي بأن كمية المتفجّرات التي ألقتها الطائرات لم يسبق لها مثيل، حيث بلغت حتى الآن مئات الأطنان، أدّت إلى تدمير كامل لمئات وربّما آلاف المباني والمرافق، كما شرعت إسرائيل بالانتقام من غزّة عبر حرمان غزّة من التزوّد بالكهرباء والمواد الغذائية والوقود. وبات واضحا أن آلة الحرب الإسرائيلية، المدعومة بالكامل من الإدارة الأمريكية، تسعى إلى دمار شامل لقطاع غزّة، وهذه ليست نتيجة، بل هي هدف معلن ومقصود.
الأهداف والوسائل
أعلنت الحكومة الإسرائيلية حالة الحرب، وحدّد المجلس الوزاري المصغّر هدفها الرسمي بأنّه «القضاء على القدرات العسكرية لحركة حماس». ولكن ما جرى فعلا هو استهداف المباني المدنية وتدميرها. وقد جاءت صياغة الهدف بشكل عام وقابلة للتغيير لاحقا تبعا للتطوّرات والقرارات، إذ هناك نقاش في القيادة السياسية والأمنية في إسرائيل حول العملية البريّة وحول حجمها ومداها وثمنها. وفي محاولة لمنع الوقوع في مطب إخفاق إضافي، أعلن نتنياهو هدفا مطّاطا، يمكّنه «أن يعلن الانتصار وينسحب»، بغضّ النظر عن النتائج الفعلية للحرب. ومع أن هناك نقاشا حول هدف الحرب النهائي، وهل سيتوسّع باتجاه «تقويض حكم حماس»، كما تطالب بعض القيادات الإسرائيلية، فإن هناك غايات عسكرية وسياسية تطفو على السطح، أوّلها ترميم قوّة الردع الإسرائيلية، ليس مقابل الفصائل الفلسطينية فحسب، بل لمجمل المحور الإيراني في المنطقة، خاصة حزب الله. ويعني المسعى الإسرائيلي لاستعادة الردع زرع الرعب والتدمير والقتل. والغاية الثانية لا تقل أهمية ومرتبطة بمآلات الزمكان في فلسطين، وبالبحث عن الموقع في كل موقف، وتتعلّق بمصير مستوطنات ما يسمّى غلاف غزّة، الذي هو تحديدا المنطقة الواقعة داخل الخط الأخضر، من قضاء غزّة التاريخي الذي شمل قبل 1948 أكثر من ثلاثين قرية منها، هربيا وبربرة ونجد ونعليا وسمسم وغيرها، وأقيمت فوق أراضيها 22 مستوطنة. وبعد أن جرى إخلاء هذه المستوطنات بالكامل تخشى إسرائيل أن يرفض سكّانها العودة إليها، إذا لم يطمئنّوا إلى ضمان أمنهم، وهم بالتأكيد لن يكتفوا بوعود الجيش والقيادات السياسية الإسرائيلية، ما لم يروا بأم أعينهم، أن المعادلة قد تغيّرات وأنّه «لا توجد قوّة في غزّة تهدد أو قد تهدّد أمنهم». ومن نافل القول إن الاستيطان هو لب وجوهر المشروع الصهيوني، وعليه فإن إسرائيل تريد أن تخلق الظروف التي تعيد المستوطنين إلى مستوطناتهم في قضاء غزّة. هذه الظروف لا تشمل انتشارا أمنيا مكثّفا ومنظومة دفاع محكمة فحسب، بل وبالأساس «تقويض» أي إمكانية لاستهداف هذه المستوطنات. وستظل إسرائيل تقصف وتدمر وتقتل، حتى يطمئن المستوطنون الذين قُتل منهم المئات. وهذا الأمر هو من العوامل المهمّة في تحديد مآلات الحرب، لأن الفشل فيه يعني فشلا استراتيجيا. أمّا الغاية الثالثة فهي من شقّين، الأول إرواء التعطّش للانتقام في الشارع الإسرائيلي، ويشمل الثاني مساع محمومة من القيادات السياسية والأمنية للتملّص من المسؤولية عن الإخفاق الاستراتيجي التاريخي، عبر «النجاح» في تدمير غزّة. ما يجري تداوله في الإعلام الإسرائيلي أنّ رئيس الأركان الميجر جنرال هرتسي هليفي، وقائد المنطقة الجنوبية الجنرال يرون فينكلمان، ورئيس شعبة المخابرات العسكرية الجنرال أهرون حليوة، ورئيس جهاز المخابرات العامة الشاباك رونين بار، وغيرهم من القيادات الأمنية سيدفعون الثمن بعد أن تنتهي الحرب. كما يخشى نتنياهو من لجان التحقيق، ومن اندلاع حملة احتجاج عارمة ضدّه، وهو قلق على ميراثه التاريخي ولا يريد ان تكون ذكراه كما غولدا مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة، التي ارتبط اسمها بالإخفاق الإسرائيلي في حرب أكتوبر 1973. ما يسعى إليه نتنياهو والقيادة الأمنية هو حرب «كاسحة» تخفّف من وطأة الإخفاق في صد هجوم مقاتلي حماس في أكتوبر 2023. الغاية الرابعة هي شن حرب شعواء على الرواية الفلسطينية، بهدف تقويض نقطة قوّتها الأساسية وهي سطوتها الأخلاقية. فبموازاة حرب الدمار الشامل على الأرض، بدأت الدعاية الإسرائيلية بشن حرب سياسية وإعلامية غير مسبوقة، شاركت فيها كل التيارات السياسية بيمينها ويسارها، وساهمت فيها بقوّة الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس جو بايدن، الذي أصبحت خطاباته مجرد صدى لخطابات نتنياهو، مع التأثير الهائل للصوت الأمريكي الذي يخرج من البيت الأبيض ومن وسائل إعلام مثل «نيويورك تايمز». ولا تستهدف حملة الدعاية الإسرائيلية حركة حماس فقط، بل ترمي أساسا الى سحب الشرعية عن النضال الفلسطيني برمّته، عبر حشره في خانة الإرهاب، ضمن المجموعة «الداعشية»، لتصبح أية دعوة للنضال ضد الاحتلال، وأية مطالبة جدّية بحقوق الشعب الفلسطيني دعما للإرهاب وحتى ضربا من اللاسامية.
الغاية الخامسة هي إنقاذ سمعة أنظمة ومعدّات التجسس الإسرائيلية، التي فشلت فشلا ذريعا في التوصّل إلى معلومات مسبقة عن مخططات الهجوم في قضاء غزّة. لقد تلقّت هذه الصناعة الإسرائيلية ضربة كبيرة، بعد أن جرى الترويج لها وتصديرها على أنّها الأفضل والأنجح عالميا. كما تبغي إسرائيل، كعادتها في مثل هذه الحروب، إجراء تجارب ميدانية على أسلحة جديدة لاختبارها وتسويقها على أنّها مُثبتة النجاعة ميدانيا. الغاية السادسة هي إنقاذ العقيدة الأمنية الإسرائيلية من التحلل التام. وتشمل هذه العقيدة أربعة مركّبات: الإنذار والردع والدفاع والحسم. لقد انهارت في قضاء غزّة المركّبات الثلاثة الأولى وبقي الرابع مع علامة استفهام، وإذا انهار هو الآخر فسيواجه الأمن القومي الإسرائيلي معضلة استراتيجية عويصة. وعليه تسعى إسرائيل إلى الحسم للتعويض عن الخسارة الكبرى في الإنذار والردع والدفاع. وتتلخّص الغاية السابعة في رد الاعتبار لمفهوم «الذخرية»، الذي يعني أن إسرائيل هي «ذخر» لحلفائها لأنها دولة ناجحة وقويّة ولها مقدّرات عسكرية واستخباراتية واقتصادية وسياسية، وكل من يصادقها يربح. هكذا تسوّق الدولة الصهيونية نفسها أمام الأنظمة العربية والدولة والإدارة الأمريكية والدول الأوروبية وغيرها. وتخشى إسرائيل أن تظهر بمظهر ضعف فتخسر من ذخريتها، وهي تسعى لأن تثبت نفسها وأن تستعرض عضلاتها، لتستعيد مكانتها التي تضعضعت هذا الأسبوع. الغاية الثامنة هي توريط الولايات المتحدة في الصراعات الإقليمية، عبر الترويج بأن هجوم حماس كان بتنسيق مع إيران، وحتى بتخطيط مشترك معها. وتندرج هذه الغاية في إطار المسعى الإسرائيلي المتواصل منذ سنوات ببناء «تهديد عسكري له مصداقية» لردع إيران عن مواصلة مشروعها النووي. ويسعى نتنياهو إلى استغلال ما حدث في غزّة لجر الولايات المتحدة لتحذير إيران بعدم التدخل حاليا، وتوسيع التهديد لاحقا ليصبح تحالفا ضد النووي الإيراني. لقد حرّكت أمريكا سفنا حربية كبيرة نحو شرق المتوسّط، ما منح إسرائيل «حرية» أكبر في القتل والتدمير، مع مساندة أمريكية ضد كل من يحاول التدخل، كما جاء على لسان الرئيس بايدن شخصيا.
هناك غايات أخرى لعدوان إسرائيل على غزّة، لكن كثيرا ما تكون الوسائل أفظع من الغايات والأهداف. والوسائل الإسرائيلية هي الدمار والقتل ثم المزيد من الدمار والقتل، وصولا إلى الدمار الشامل لغزّة هاشم. وتقوم الطائرات الإسرائيلية بقصف وحشي وقتلت، حتى الآن، أكثر من ألف من سكان غزّة، بينهم عدد كبير الأطفال. ويبدو أن هذا الدمار الفظيع هو مقدمة لاجتياح بري للقطاع. ليس معروفا بعد كيف سيكون هذا الاجتياح، وغالبا سيحاول الجيش الإسرائيلي التمويه والمفاجأة، ربّما عبر إنزال كبير في وسط مدينة غزّة والانتقال منه إلى عمليات كوماندو متنوّعة. إسرائيل في حملة واسعة لزرع الخراب برّا وبحرا وجوّا، ولها أهداف وغايات في هذه الحرب، ولكن وسيلة فظيعة واحدة وهي المجازر والدمار الشامل. العالم العربي مطالب بإفشال الوسائل، وليس انتظار مصير الأهداف.
كاتب وباحث فلسطيني
المصدر: القدس العربي