بقلم: الدكتور محيي الدين عميمورُ
كنت قلت حرفيا في الحديث السابق أن الكيان الصهيوني “سيحاول أن ينتقم لنفسه باستعمال أبشع أدوات القمع والتقتيل ضد الشعب الفلسطيني” ثم قلت: “باختصار شديد وبيان أوضح، يجب أن تتركز الأسبقية الآن على حماية الشعب الفلسطيني من الجنون الإسرائيلي الذي عرفناه في كفر قاسم ودير ياسين وقانا وعشرات المواقع الأخرى التي سُوّيت بالأرض، ويجب أن ندرك أن دماءَ وأشلاء كل من سيسقطون من أبناء فلسطين، رجالا ونساء وأطفالا، وبغض النظر عن أي انتماء سياسي أو مذهبي، هي في عنق كل منا، حكاما ومحكومين، كبارا وصغارا، نساء ورجالا”.
ولا جدال في أن التهديدات الإسرائيلية بتدمير المقاومة الفلسطينية قد يبدو موقفا منطقيا يهدد فيه الخصم بسحق عدوّه، لكن الحقيقة التي يجب أن تكون واضحة هي أن الكيان الصهيوني يتعمد قتل المدنيين لسببين، أولهما حجم الكراهية التي يحملها الصهيوني لشعب ما زال يُصر، بالقول وبالفعل، على أنه هو مالك الأرض، وهذا يهدم نظرية “أرض بلا شعب” التي بُنِي عليها كيان “الأشكيناز”، ويحرمه تدريجيا من التعاطف الشعبي دُوَليا.
وأنا أستعمل كلمة الشعب عامدا لأنني لا أنسى الدور الذي لعبته الشعوب الغربية في الشمال، وفي أمريكا نفسها، دعما للثورة الفيتنامية، وفي فرنسا نفسها ضد جرائم منظمة الجيش السرّي..
والسبب الثاني للتوسع في قتل المدنيين هو دفع المواطنين في قطاع غزة إلى التنكر للمقاومة، بما يذكر بقصة الراعي البوليفي الذي كان سعيدا بمقتل “تشي غيفارا”، وبرر ذلك بما يتعرض له من قمع نتيجة لما كان يقوم به الطبيب الثائر ضد القوات البوليفية.
ويضاف إلى هذا إرهاب الشعب في “الضفة الغربية” وتحذيره من أي دعم للمقاومة، وهو ما يشمل القواعد الشعبية للمقاومة اللبنانية.
وهنا نفهم سرّ تباكي البعض عندنا، وخصوصا الانتماءات الفرانكوبربرية، على ما يتعرض له المدنيون في غزة من تقتيل وحشي، فهو جزء من عملية توزيع الأدوار تكشف عمق التحالفات المريبة التي تعرفها المنطقة العربية، والتي تُعدّ عمليات التطبيع جانبا منها.
غير أن ما يثير التقزز هو موقف القوة ” الديموقراطية” الأعظم التي لم تتردد، على لسان رئيسها، في تحريض إسرائيل على الانتقام من “غزة”، بحجة دعم الكيان الصهيوني في الدفاع عن نفسه، وهكذا فإن زعيمة العالم الحرّ، كما تقدم نفسها، تتناقض مع أبسط القواعد الدولية في الحروب، وتذكرنا بأنها هي من اخترع جماعة “كلو كلوكس كلان”، وأنها كانت رمزا للاضطهاد العنصري ضد غير البيض، وروّادها هُمْ غزاة مثل “الأشكيناز”، ناهيك من تاريخها الأسود في إبادة قبائل بأكملها، ودورها في كل الانقلابات الدموية التي دمّرت نظما وطنية ودعمت أبشع الدكتاتوريات، وما قصة “شيلي” عنا ببعيد..
وهنا يتجلى الحقد الأعمى ضد المواطن العربي، مسلما أو مسيحيا، في أحقر صوره، فإذا بقيادات “اليانكي” ترسل حاملات طائرات أسطورية القوة لمحاصرة شواطئ قطاعٍ محاصر معزول، وتعطي الفرصة لمن يريدون تصفية حسابات معينة للتعريض بحزب الله وبإيران، بما يبدو وكأنه استفزاز، وبرغم أن هذا يكشف ضعف الكيان الذي كان يتفاخر بأنه قوة لا تُقهر، حيث أصبحت القبة الحديدية مثل مصفاة المطبخ، وإذا بصواريخ “الباتريوت” تتخصص في قتل الأطفال وربات البيوت.
ثم يُضاف لهذا تسريب أخبار التهديدات ضد كل من يحاول إمداد القطاع، لا بالصواريخ والراجمات، وإنما بما هو ضروري للحياة نفسها، وتتولى مصادر عربية ترويج هذه التهديدات لتقول لشعوبها أن العين بصيرة واليد قصيرة، وليس هناك سائق يقبل قيادة شاحنة تحمل الحليب لأطفال غزة.
هؤلاء هم من أسماهم الدكتور طارق ليساوي المتصهينين العرب، “ورثة” آل “سلول”، وطابور “المنافقين” الذين “إذا حورب الإسلام سكتوا وإذا أخطأ أهله ظهروا”، وهم الذين وصفهم المسيري رحمه الله في إحدى محاضراته قبل ثلاثين سنة، في سياق حديثه عن الصهيونية، وقال: “سيأتي زمن ليس بالبعيد يظهر فيه صهاينة عربا، أشد عصبية للصهيونية اليهودية من اليهود أنفسهم، وسيخدمون الصهيونية أكثر من الصهاينة أنفسهم”، وكأن الرجل كان يقرأ المستقبل من كتاب مفتوح بين يديه…الآن نحن نعيش هذا الزمن، زمن العرب الصهاينة الذين ينتصرون لليهودية الصهيونية أكثر من اليهود”.
ولقد تابعنا في تلفزة عربية، لا أسميها حياءً، تصريحا لصهيوني جاءوا به لإدانة “حماس” فإذا به يقول ببساطة عن رئيس عربي بأنه أكثر منه صهيونية.
من هنا فإن كلمة التقزز هي أبسط ما يمكن أن يوصف به ذلك التحالف الإجرامي الذي لا يكتفي بممارسة الصمت المخزي تجاه قتل الصحفيين، وتخريب المنشآت الطبية، بل وقتل المسعفين، بشهادة منظمة الصحة العالمية، بل يُعتّم على ذلك كله بالادعاء إن إسرائيل تدافع عن نفسها.
ولا أملك، بحكم مهنتي الأصلية، إلا تفهم وضعية الشيخوخة التي يُعاني منها الرئيس بايدن، وهي وضعية كان الجنرال شارل دوغول يصفها بأنها وضعية حطام سفينة غارقة LA VIEIESSE EST UN NAUFRAGE.
ولم يعُدْ سرأ أن أشباح كينيدي وجونسون وحتى ترامب تطارد الرئيس المسكين.
والحقيقة التي يفرّ من الاعتراف بها عجوز واشنطن، بحكم وضعية الشيخوخة، يسجلها أستاذنا فؤاد البطاينة وهو يقول إن “المعركة يجب أن تصنع فرقاً في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، وفرقاً كبيراً في تفكير المواطن العربي والحاكم العربي والعسكري العربي، وفي تفكير الصهيونية الأمريكية والخزرية، إنها حرب تجلي الحقيقة أمام العالم أن الشعب الفلسطيني شعب حضاري ومتجذّر بفلسطين ومحارب وتاريخه تاريخ انتصارات وقهر ودحر للغزاة (..) وهو يضطلع بحرب متكاملة التخطيط والأسلحة بحرا وبراً وجوّا بعقلية استخبارية فذة عسكرية لم يألفها عرب اليوم، واستهدف فيها مواقع عسكرية كشفت مشاهدها عن إذلال جنود الصهاينة المختبئين في دباباتهم”.
هذا هو ما يُفسّر الجنون الأمريكو- صهيوني، والذي يشبه ما أصابهم في الأيام الأولى لحرب أكتوبر 1973، وبغض النظر عن أن عنصر المفاجأة هنا كان مُذلا ومهينا لهم أكثر من الهجومات نفسها، وأهمية هذه الحقيقة هي التذكير بأن هذا الجنون سيتزايد ليصبح حرب إبادة حقيقية تحرق الأخضر واليابس، وهو ما تحذر منه الأستاذة ميسان المصري قائلة:
إن كل ما نسمعه من الكيان الصهيوني هو محاولة “إيجاد مبرر لإبادة جماعية يرتكبها في غزة وتحويلها إلى موقف سيارات، حسب ادعاءه، بعد صعوبة توطين الغزاويين في صحراء سيناء .”.
ولقد استعملت كلمة …المفاجأة، برغم أن مصادر أمريكية “تدّعي” أن بلدا عربيا نبّه إسرائيل إلى تحركات عنيفة متوقعة من المقاومة الفلسطينية وذلك قبل السابع من أكتوبر بثلاثة أيام.
وإذا صحّ هذا فإنه يبرز إلى أي مدى بلغت عنجهية الكيان الصهيوني ومدى احتقاره للطرف الفلسطيني، ربما على ضوء تعاملاتٍ له مع بعض القيادات العربية.
أين أمة “مُحمّد” من كل هذا ؟
المؤكد أن الإذلال التاريخي والحضاري الذي سوف يصيب القيادات العربية على المدى المتوسط والبعيد نتيجة لمواقف تنقصها شهامة العربي لن يقل سوءًا عما يصيب الكيان الصهيوني في المدى القريب، وأمام القيادات العربية فرصة تاريخية لتفادي المهانة، باستذكار الكلمات التي قالها “غوار” في “كاسك يا وطن” منذ أكثر من خمسين عاما….
ناقصنا شوية كرامة…..
وسيحكم التاريخ على القيادات العربية والإسلامية حكما لا يقل احتقارا عن حكمه على ملوك الطوائف في الأندلس، في حين أن موقف الكرامة المطلوب من تلك القيادات، والذي لن يُكلفهم الكثير، سيعني الكثير، إنسانيا ووطنيا وتاريخيا.
وليس مطلوبا إرسال فرق عسكرية لدعم المقاومة، وليس مطلوبا إرسال الطائرات لحماية سماء غزة، ولا البوارج لحماية شواطئها، وإنما هو مجرد طلب مؤدب جدير بالكرم العربي الحاتمي !! يصدر من عدّة عواصم عربية شامخة يقول لقادة الكيان: سفراؤكم غير مرغوب فيهم … الآن على الأقل، حفظا على سلامتهم (هكذا).
وهو مجرد إعلان يصدر من عواصم عربية أخرى، وبأسلوب مؤدب أيضا ولكنه واضح لا لبس فيه، بأنه لا أمل في أن يرتفع العلم الأزرق في سمائنا، طالما لم ينل الشعب الفلسطيني كل حقوقه.
هل يجرؤون، أم أنه “ما لجرح بميت إيلام”، وأمة محمد أصبحت أمة “مهنّد” (مع الاعتذار للممثل التركي المرموق).
كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق
آراء ومقالات
-
نبيه البرجي
2024-11-23ليلة وقف النار... ليلة القدر
-
محمد لافي
2024-11-18حظر "الأونروا" والخطة الإسرائيلية لليوم التالي للحرب
-
بثينة شعبان
2024-11-18استكمال المــهــمــة!!!
-
نبيه البرجي
2024-11-16سقط وفي قلبه صورة نصرالله
-
د. خيام الزعبي
2024-11-15الأسد.. رسالة دعم لفلسطين ولبنان في وجه العدوان
-
حسن نافعة
2024-11-15هل تتحول القمم العربية والإسلامية إلى سرادقات للعزاء؟
-
عريب الرنتاوي
2024-11-15حماس والدوحة... هدأةٌ مؤقتةٌ للزوبعة قبل ثورانها من جديد