بقلم: ابراهيم علوش
شكّلت عملية "طوفان الأقصى" فجيعةً مؤلمةً للعدو الصهيوني وداعميه لمّا يستيقظوا من وجعها بعد، كما شكلت مفاجأة مدهشة لكل مواطن عربي شريف، فقدحت شعلة الأمل في إمكانية تحرير فلسطين، ببساطة، لأنها أظهرت:
أ – أن قهر العدو وإغراق منظوماته العسكرية والأمنية بالطوفان أسهل بكثير مما توهم كثيرون على مدى عقود.
ب – أن غزة الصغيرة المحاصرة والمخنوقة خنقاً منذ عام 2007 اجترحت بإمكانات ضئيلة معجزة عسكرية إبداعياً، فما بالك لو تحررت طاقات 10% فحسب من الأمة العربية التي يبلغ تعدادها نحو 500 مليون نسمة؟!
ج – أن الإرادة المقاوِمة أثبتت أن بالإمكان، لا تسديد فاتورة الجرائم الصهيونية في السنوات الأخيرة دفعةً واحدةً فحسب، بل أيضاً تقويض منظومة الأمن الصهيونية في مستعمرات غلاف غزة برمشة عين، وبالتالي بالإمكان تحرير فلسطين كاملة.
قبل عملية "طوفان الأقصى"، ربما قال البعض إن ما سلف كلامٌ إنشائيٌ محض. أما بعدها، فلا بد من أن تنعقد حتماً ألسنة المطبعين والتسوويين الذين بنوا جل خطابهم السياسي على فرضية استحالة هزيمة الكيان الصهيوني عسكرياً على أرض فلسطين التاريخية، ولا سيما الأرض المحتلة عام 1948.
وكان بعض دعاة التعايش والتسوية مع العدو الصهيوني يزعمون أن دافعيته للقتال في لبنان مثلاً أضعف بكثير من دافعيته للقتال في فلسطين.
وبناءً عليه، قالوا إن ما جرى في لبنان عام 2000 لا يصحّ إسقاطه على فلسطين المحتلة، كما صرح وقتها عبر الفضائيات مثلاً عضو "عربي" في كنيست الاحتلال سابقاً كان قد احتضنه محور المقاومة قبل أن يقلب له ظهر المجن عشية الربيع العبري ويتحول إلى "شيخ علماني".
وعلى الرغم من تهافت مثل ذلك الخطاب منطقياً، لأن الهزيمة الساحقة للقوى العسكرية الأساسية للمحتل في أي ميدان تعني تحرير فلسطين، كما عنت موقعة حطين تحرير القدس، فإن ما كرس فكرة استحالة هزيمة الكيان الصهيوني على "أرضه"، أي أرضنا العربية المحتلة، هو الحصانة الوهمية التي منحها التبني الدولي، ومن ثم الرسمي العربي المطبع، ومن ثم الرسمي الفلسطيني، لمشروعية ذلك الكيان و"حقه في الوجود"، وليس أي قوة ذاتية خارقة من أي نوع.
لا أزعم طبعاً أن عملية "طوفان الأقصى" هزمت القوى العسكرية الأساسية للكيان الصهيوني، بل أظهرت أن هزيمتها أسهل مما روج كثيرون، لكنّ إظهار إمكانية هزيمة الكيان الصهيوني ومحوه من الوجود لا يكفي بذاته كي تتحقق تلك الإمكانية، إذ لا بد من اقترانه ببناء قوى مؤمنة بضرورة محوه من الوجود من جهة، وبوجود حواضن أو عمق استراتيجي لتلك القوى من جهةٍ أخرى تمدها بالزخم وعناصر القوة، فأين نقف الآن من تلك المعادلة في حين أن غزة محاصرة؟
يتصاعد حالياً عدوانٌ صهيونيٌ إجراميٌ على قطاع غزة، بعدما حقق شبابه نصراً مبهراً يعز نظيره من دون أن نرى لغزة حتى الآن من تقدَّم لنصرتها في الميدان، ما عدا تعاطف الشارع العربي والفلسطيني الذي لم يقصّر يوماً في تأييد كل نقطة صدام مع الاحتلالات، لكن كيف يمكن أن يتحول مثل ذلك التأييد إلى عمل نضالي ملموس يصب في مشروع التحرير ويخفف الحصار عن المقاومة على الأقل؟
يطرح هذا تلقائياً مشكلة الوضع العربي في المحيط الجغرافي المباشر لغزة وكل فلسطين، المقيد بحدود التجزئة القطرية وبالحسابات المبتسرة للأنظمة والقوى والتيارات والشخصيات المتسربلة فيها.
إنها مشكلة المنظومة الرسمية العربية، وعلى رأسها منظومة السلطة الفلسطينية طبعاً، المرتهنة لقيود اتفاقية أوسلو وأخواتها؛ منظومة التنسيق الأمني ضد المقاومة، وهي الرخصة المزعومة للتطبيع الرسمي العربي بذريعة "نقبل بما يقبل به الفلسطينيون"، في حين أن من يرنو إلى الجانب المظلم المخزي يطبّع، ومن يشده إشراق الجوانب المضيئة من فلسطين والفلسطينيين يعتنق جمرة المقاومة، وأن عينَ المرء مرآةُ قلبه، تشدّ الساقطين للسقوط، والمقاومين للمقاومة، والانتهازيين للتذبذب بينهما.
إن مأساتنا فينا، في تركيبة المنظومة التي تحكمنا كشعبٍ عربي، وليس المقصود نظاماً بعينه هنا أو مجموعة أنظمة، بل تفكيك الإرادة والمسؤولية والموارد العربية في منظومة تجزئة، الأمر الذي يجعلها مرتعاً للهزيمة والاستسلام، وحتى الخيانة.
وما دامت الحال هكذا، فإن مأساة غزة لن تكون إلا امتداداً لمأساة العراق وليبيا وسوريا ولبنان واليمن ولكل مآسينا، وإن فلسطين ستبقى عنواناً لمأساة الأمة العربية بأسرها.
لعل أحدث مثال على ذلك هو الموقف المعيب لجامعة الدول العربية بعد انعقادها على مستوى وزراء الخارجية في 11/10/2023، في خضم المذبحة التي تتعرض لها غزة بشراً وحجراً، فإذ بها تدين "قتل المدنيين من الطرفين" وتطالب بـ"إطلاق سراح المدنيين..."، في إشارة إلى الجنود والمستوطنين المحتجزين في غزة، وهو ما تحفظت عليه 4 دول عربية طبعاً، لكن السقف الرسمي العربي كان قد رسم عند مستوى منخفضٍ بصورةٍ لا تصدق ولا تجمله التحفظات، وكان الحد الأدنى المطلوب كموقف رسمي عربي، كي لا يكون غطاء سياسياً للمجازر في غزة، هو وقف التطبيع مع العدو الصهيوني، ولن نطالبهم بأكثر من هذا.
نقطة البداية الضرورية لكل مقاربة للشأن الفلسطيني
لا يستقيم الحديث عن أي شأن يتصل بالقضية الفلسطينية من دون العودة إلى المربع الأول: ما هي القضية الفلسطينية؟
إنها، بأبسط تعبير ممكن، قضية أرض احتلت احتلالاً استعمارياً إحلالياً سعى إلى محو هويتها وتهويدها، فعانى شعبها ويلات الاحتلال والقتل والتهجير واللجوء والتآمر السياسي ابتداءً منذ القرن الـ19 حتى يومنا هذا.
إن هذه الحقيقة البسيطة والبديهية كثيراً ما يجري تجاهلها عند تناول الشأن الفلسطيني، فإذا كانت قضية فلسطين هي قضية استعمار استيطاني إحلالي، فإن حلها البسيط والبديهي يكون التحرير، الأمر الذي يعني شيئاً واحداً فقط: تفكيك المشروع الصهيوني في فلسطين جيشاً ومجتمعاً وكياناً سياسياً من أجل استعادة عروبة الأرض.
إن تجاوز تلك الحقيقة المركزية: الاستعمار الاستيطاني الإحلالي، أي مشروع التهويد، وبالتالي ضرورة التحرير الكامل لاستعادة عروبة فلسطين أرضاً وشعباً وهوية، هو منشأ كل انحراف سياسي فيما يتصل بالقضية الفلسطينية، من "حل الدويلة" إلى "حل الدولة الواحدة" إلى طائفة "الحلول الإنسانوية للنزاع" التي يقود جميعها إلى التخلي عن نهج المقاومة والتحرير.
رب قائل: وما صلة ذلك بما يجري في غزة الآن، ولا سيما طوفان الأقصى؟ الجواب هو أن من يعد فلسطين كلها محتلة، وكلها عربية، ويرى محتليها مستعمرين لا "مدنيين"، لن يجد غضاضةً في عملية "طوفان الأقصى"، بل سيجدها عملاً رائعاً وخطوة نحو التحرير، فهي عودة مشرفة إلى الأرض التي يحتلها الغرباء (مقارنةً بأخذ "فيزا" من الاحتلال مثلاً). أما من استبطن "حق" الكيان الصهيوني بالوجود، وراح يتعامل مع المستعمرين المستوطنين كـ"مدنيين"، ومع الاحتلال كـ"دولة طبيعية"، فمن الطبيعي أن يتعامل مع عملية "طوفان الأقصى" كعدوان.
من الأهمية بمكان هنا الانطلاق من أن استراتيجية العمل المقاوم ليست رداً على جرائم الاحتلال وممارساته وعنصريته فحسب، بل على الاحتلال ذاته، أي أنها ليست رد فعل يمكن التلاعب فيه. أما الجرائم اليومية والإجراءات التعسفية والممارسات العنصرية، فليست سوى منتجات ثانوية وعرضية للاحتلال تفيد سياسياً فقط في تذكيرنا بحقيقة وجوده، فهل نكف عن المقاومة ونتخلى عن مشروع التحرير لو خفف الاحتلال من جرائمه اليومية مثلاً؟!
وإذا لم نعد إلى ذلك المربع الأول، فإن كل عمل مقاوم يصبح عرضة للإدانة أو حتى للتوظيف في مشروع تسووي، كما فعلت "وثيقة الأسرى" مثلاً عام 2006 عندما حاولت حصر المقاومة في الأرض المحتلة عام 1967.
إشكالية المقاربة الليبرالية للقضية الفلسطينية
يمكن بناء قضية اجتثاث الكيان الصهيوني وتفكيكه على أسس قومية أو إسلامية أو يسارية. أما الاختراق الأيديولوجي الذي يؤسس للتطبيع عقائدياً، فهو الفكر الليبرالي الذي ينطلق من أولوية الإنسان-الفرد المنبت عن الروابط القومية والحضارية، إلا إذا كان ينتمي إلى "أقلية"، فإن إبراز الهوية "الأقلوية" يصبح هو المشروع الليبرالي، حتى لو كانت تلك "الأقلية" هي المثلية أو "المتحولين جنسياً"، وإن أهم أقلية في العالم عندهم هي اليهود طبعاً.
مجدداً، رب قائل: وما علاقة ذلك بما يجري الآن في غزة أو بطوفان الأقصى؟ والجواب هو أن الانطلاق من أولوية الفرد وحقه في الحياة والحرية والتملك، لا من أولوية الجماعة القومية أو الحضارية (أو الطبقة في المفهوم اليساري) وحقوقها، يتركنا عزلاً في مواجهة من يتناولون المستعمر المستوطن كإنسان-فرد يجري "التعدي" على حريته وحقه في الحياة من طرف المقاومين، الأمر الذي يفسر كثيراً من تعاطف الغرب والمتغربين مع المستعمر المستوطن وكيانه الذي يعدونه، من منظور ليبرالي، "أرقى حضارياً" من أي نموذج موجود في الوطن العربي والعالم الإسلامي (حتى بعد الصراع في الكيان حول مسألة التعديلات القضائية).
وتلاحظ كلما جادلت غربيين أو متغربين بشأن القضية الفلسطينية أنهم يطرحون عليك "حججاً" يظنونها "قاصمة" مثل: ماذا عن أجيال الأفراد اليهود الذين ولدوا في فلسطين؟ ماذا ستفعلون بهم؟ وماذا عن مشكلة "غياب الحرية والديمقراطية" في المجتمع العربي؟ أليست أولى باهتمامكم؟ وما أهمية الأرض في زمن "القرية الكونية" حتى يتذابح الناس عليها؟ أليس من الأجدى الضغط على الدول العربية التي يعيش فيها الأفراد اللاجئون كي توطنهم فيها؟ إن مشكلتكم مع الدول العربية إذاً...
يمكن الرد بأننا لم نقصّر في استقبال اليهود في فلسطين أو غيرها عندما أتونا لاجئين وفرادى، وأن الغزو شيء مختلف تماماً، ويمكن وضع كثير من الردود على الأسئلة أعلاه، لكن المسألة الجوهرية فيها أنها أسئلة تنطلق من أولوية الفرد، اليهودي الفرد، واللاجئ الفرد، والمواطن الفرد... وأنها تتجاهل عمداً حقوق الجماعات، الأغلبيات تحديداً، والأمة العربية، وجماعة المسلمين، أو الطبقة العاملة إن شئت، وهي مفاهيم يعدها الليبراليون سرديات تعسفية وشمولية، لكن جوهر الإشكال مع العقل الليبرالي هي مسألة أولوية حقوق الفرد على حقوق الجماعة أم العكس؟
من منظور قومي على الأقل، ما لم يتخلله اختراق ليبرالي، يعدّ كل يهودي على أرض فلسطين جزءاً من المشروع الصهيوني موضوعياً، بغض النظر عن توجهه السياسي أو خطابه، لكنّ رؤية المشروع الصهيوني مشروعاً شمولياً تظل عصية على الليبراليين.
باختصار، لا يتوقف من ينطلق من أولوية حقوق الجماعة، الشعب الفلسطيني أو الأمة العربية مثلاً، لحظةً عند "مشكلة" حق فرد ولد في فلسطين، بل يتوقف كثيراً عند الحق الجمعي لنصف الشعب الفلسطيني الذي ولد خارجها، فالمسألة وطنياً هنا هي مشروع صهيوني مقابل مشروع مقاومة وتحرير.
والأهم، عند القوميين على الأقل، أن تحرير فلسطين وكل أرض عربية ينبثق من حق الأمة العربية التاريخي فيها، الأجيال السابقة والحالية واللاحقة، بما يتجاوز حق أي فرد، لكن مثل هذا الخطاب يعد "شمولياً" عند أصحاب المنطق الفردي، فبئس زمن صرنا نضطر فيه إلى الدفاع عن عمليات المقاومين ضد المستعمرين المستوطنين عند بعض أبناء جلدتنا!
لماذا احتلت فلسطين؟
كثيراً ما يغيب سؤال: "لماذا احتلت فلسطين؟" أيضاً عن الحوارات المتصلة بالشأن الفلسطيني، على الرغم من أنه من أسئلة المربع الأول الذي يدخلنا تغييبه فوراً في مسارات تسووية وتفريطية عربياً وفلسطينياً.
تبلورت استراتيجية تأسيس الكيان الصهيوني في النصف الأول من القرن الـ19 على خلفية تمدد إبراهيم باشا، ابن محمد علي باشا، من مصر والسودان باتجاه الجزيرة العربية وبلاد الشام. وكان رائد تلك الاستراتيجية هو السياسي البريطاني هنري جون تمبل، المعروف باسم بالمرستون، الذي مضى في تنفيذها بغرض محدد هو منع وحدة الجناح الآسيوي والجناح الأفريقي للأمة العربية.
لا نتناول هنا أول من جاء بالفكرة بالمناسبة، بل أول من وضع استراتيجية لتنفيذها. وإن العبرة هنا أن احتلال فلسطين جاء موجهاً ضد الأمة العربية، لا ضد الفلسطينيين وحدهم، وبالتالي فإن تحرير فلسطين هو مسؤولية الأمة العربية كلها.
لا يمنع ذلك طبعاً من أن يكون لفلسطين بعد إسلامي أو أممي، أو أن يكون لمحور المقاومة أو للتضامن الأممي دوران كبيران، وكل ذلك يصب في الاتجاه نفسه، ويعزز بعضه بعضاً، لكن المسؤولية الرئيسية في التعامل مع الاحتلال الصهيوني يفترض أن تقع على عاتق الأمة العربية، لأن المشروع الصهيوني يستهدفها بالأساس، وتجاوز تلك النقطة يعفي الدول العربية وحكامها من المسؤولية تجاه فلسطين، ولا يجوز أن نقبل بذلك أو أن نمرره مرور الكرام.
لكن الذين أرادوا التنصل من القضية الفلسطينية (في قمة الرباط عام 1974) اخترعوا مقولة "الممثل الشرعي الوحيد" كي ينسلوا إلى معاهدات الصلح والاستسلام، ومن ثم بدأ ذلك "الممثل الشرعي الوحيد" يصيح: "يا وحدنا"، وبالتالي لا خيار إلا المضي باتجاه اتفاقية أوسلو التي أصبحت بدورها ذريعةً للمزيد من معاهدات الصلح والاستسلام وللتطبيع واسع النطاق مع العدو الصهيوني، وصولاً إلى الاتفاقيات "الإبراهيمية".
لم تكن مصادفة أن تسبق اتفاقيةُ سايكس-بيكو عام 1916 وعدَ بلفور عام 1917، لأن تقسيم الوطن العربي باتفاقية سايكس-بيكو وبغيرها يعني تفكيك الإرادة والموارد والقوى العربية، وما كان من الممكن منح فلسطين لليهود لو كانت الأمة العربية موحدة أو شبه موحدة.
نعيش الآن في منظومة تجزئة إذاً، فمن يحمل مشروع التحرير يحمله وحده، ويدفع ثمنه وحده، وتستفيد منه الأمة العربية بأسرها، وهذا يعيد إنتاج مفهوم "السلع العامة" (Public Goods) في علم الاقتصاد، مثل الأمن والدفاع والقضاء، أو مكافحة الوباء أو التلوث، إذ لا توجد طريقة لجعل المستفيدين يشاركون في تحمل العبء العام إلا من خلال هيئة مركزية، دولة أو حركة تحرر مثلاً، تعبئ قوى المجتمع لتحقيق الهدف العام. وما لم يتحقق ذلك، يتراجع كثيرون عن تحمل ذلك العبء وحدهم.
مرة أخرى، ما علاقة كل ذلك بغزة و"طوفان الأقصى" اليوم؟ والجواب هو أن الدور الوظيفي للكيان الصهيوني في الوطن العربي هو الذي يفسر اندفاع حاملات الطائرات الأميركية، والغرب برمته، إلى الدفاع عن العدو الصهيوني عندما شعروا بأنه تعرض لضربة مؤلمة، وهو ذاته الدور الوظيفي الذي رسمه بالمرستون في النصف الأول من القرن التاسع عشر، والعبرة أن الميدان الفلسطيني هو بؤرة الصراع مع الهيمنة الغربية أو مع الإمبريالية إن شئتم. لذلك، تمثل فلسطين وتراً حساساً لدى المواطنين العرب حتى بعدما تخلت عنها الأنظمة.
وما دامت الأنظمة لا تريد تحمل مسؤوليتها إزاء التحدي القومي الوجودي في فلسطين، فإن الشعب العربي هو الأولى بتحملها من خلال انتفاضة، غير ربيعية بالتعريف، هدفها مناهضة التطبيع ودعم حركات المقاومة ضد الاحتلال والهيمنة الإمبريالية؛ انتفاضة شعبية عربية لا تطرح إسقاط الأنظمة ولا إعادة إنتاج الثورات الملونة، بل تعيد توجيه البوصلة: الشعب يريد تحرير فلسطين.
أخيراً، ثمة تساؤلٌ مطروحٌ بقوة في بعض الدوائر: ماذا عن إمكانية تجيير المقاومة لمصلحة المشروع الإخواني في الإقليم؟ ثم في دوائر أخرى: ماذا عن إمكانية تجييرها للمشروع الإيراني في الإقليم؟
يمكن الرد بأن من لا يريد لطرفٍ ما أن يجير المقاومة، فليتفضّل إلى ميدانها الواسع كي يمارسها بنفسه، ولكن الوقت ليس وقت مماحكات. وفي زمن القتال، فإن كل مقاوم من أي فصيل، أو من خارج أي فصيل، هو جزءٌ من جيشٍ واحد، وعندما يتوقف القتال يصبح المجال واسعاً للتداول في الخلافات السياسية.
لكنْ نلاحظ أن الإعلام الغربي والصهيوني والعربي المناهض للمقاومة يركز كل خطابه الإعلامي حالياً على حماس، في حين أن الهدف هو كل فصائل المقاومة في غزة، وغزة ذاتها. وكما جرى التركيز إعلامياً على صدام حسين لتدمير العراق، وعلى معمر القذافي لتدمير ليبيا، يجري التركيز الآن على حماس لتدمير غزة.
إن التركيز على حماس في الإعلام المعادي يهدف إلى عزلها عن فصائل المقاومة الأخرى وعن الغزيين وعن الشارع العربي، في محاولة لإظهار أنها وحدها المستهدفة، كما أنه لعبٌ على وتر "التجيير السياسي" الذي يجفل منه الناس.
وبصفتي مواطناً عربياً عادياً مناهضاً للمشروع الإخواني في الإقليم، ومؤيداً لكل أشكال المقاومة حتى النخاع، فإنني أود أن أقدم اقتراحاً صغيراً لمن يهمه الأمر: لا يجوز أن ينزلق خطاب المقاومة ووسائل الإعلام المقاوِمة إلى مصطلحات الإعلام المعادي. ولا بد من تسليط الضوء على المقاومة والمقاومين، وأن يجري التحدث باسم المقاومة الفلسطينية ككل أو باسم أذرعها العسكرية (القسام، سرايا القدس، كتائب أبو علي مصطفى، إلخ...). أما تقديم العمل المقاوم باسم القيادات السياسية للفصائل، فهو يعيدنا إلى صراعات "الربيع العربي"، والقرار لكم.
المصدر: الميادين