بقلم: عبدالخالق فاروق
وسط دموع الفرح والأحزان ولقاء الأحبة، أطلق في السادسة مساء يوم الجمعة الموافق 24 تشرين الثاني/نوفمبر سراح عشرات من الأطفال والنساء والفتيات الفلسطينيين الأسرى في السجون الإسرائيلية الموحشة والقاسية، في إطار صفقة متبادلة بين قوات المقاومة الفلسطينية - وفي طليعتها حركة حماس - والحكومة العنصرية الفاشية في فلسطين المحتلة، تقضي بالإفراج التدريجي (وخلال فترة الهدنة القصيرة جداً) عن 150 أسيراً فلسطينياً من الأطفال والنساء في السجون والمعتقلات الصهيونية مقابل إطلاق المقاومة الفلسطينية في غزة 50 محتجزاً ورهينة من النساء والأطفال دون 18 سنة، بعضهم من مزدوجي الجنسية.
وبالمثل، فقد تتكرر صفقات التبادل بين الأسرى الإسرائيليين من العسكريين المعتقلين لدى قوات المقاومة الفلسطينية -وعددهم يزيد على 240 فرداً -وبين الأسرى الفلسطينيين القابعين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية منذ عشرات السنين، وعددهم يزيد على خمسة آلاف أسير.
وهنا، قد يتساءل البعض بحساب العقل الجامد والمجرد: هل تتساوى هذه النتيجة مع حجم الخسائر البشعة التي تجرعها الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية طوال الفترة التي سبقت إعلان سريان الهدنة أو التهدئة المؤقتة لمدة أربعة أيام، والتي قدرت في غزة وحدها بأكثر من 15500 شهيد من بينهم أكثر من 6000 طفل، ونحو 3928 امرأه وفتاة، ونحو 205 من الأطباء والطواقم الطبية، و64 صحفياً، بخلاف هؤلاء المفقودين تحت ركام البيوت المدمرة، والذين هم في حكم الشهداء، والبالغ عددهم أكثر من سبعة آلاف إنسان من بينهم 4700 طفل.
علاوة على أكثر من 35 ألف جريح ومصاب (إصابات الكثيرين منهم قاتلة)، وتدمير كامل المنظومة الصحية في قطاع غزة، وخراب 35 مستشفى وأكثر من 120 مركزاً صحياً، وتدمير أكثر من 46 ألف وحدة سكنية تدميراً كلياً، علاوة على تدمير نحو 243 ألف وحدة سكنية تدميراً جزئياً، بحيث أصبح أكثر من ثلثي قطاع غزة أرضاً محروقة بالمعنى العسكري المتعارف عليه، فلم تعد صالحة للإقامة والسكن، وتهجير أكثر من 800 ألف مواطن غزاوي من شمال القطاع إلى مناطق الوسط والجنوب، في عملية ممنهجة لتهجير كل سكان القطاع البالغ عددهم 2.4 مليون نسمة إلى خارجها، وتحديداً إلى سيناء.
لقد أُلقِي على سكان غزة ومبانيها نحو 40 ألف طن متفجرات خلال 45 يوماً، وهو ما يفوق القوة التفجيرية لقنبلتَي هيروشيما وناغازاكي الذريتين اللتين ألقتهما الولايات المتحدة على اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية.
وإذا أضفنا إلى هذه الخسائر البشرية حملات المداهمات والاعتقالات والقتل التي تقوم بها قوات الاحتلال الفاشي في الضفة الغربية (والتي بلغت خلال الفترة من 7 تشرين الأول / أكتوبر حتى عشية التهدئة المؤقتة في الرابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر أكثر من 204 شهداء، واعتقال أكثر من ثلاثة آلاف ومئتي شاب وفتاة من المناضلين والمقاومين فإن الصورة تبدو قاتمة وموحشة.
والحقيقة أنه بالحساب المجرد ومفاهيم الربح والخسارة تبدو المعادلة مختلة من الوهلة الأولى، والخسائر هائلة، بيد أن هناك أبعاداً أخرى أكثر عمقاً، وأبعد مدى، سواء على الصعيد النفسي لشعب محتل ومسجون من كل الاتجاهات، أو على الصعيد السياسي.
الأبعاد النفسية لتحرير الأسرى الفلسطينيين
يمكننا أن نحدد هذه الأبعاد على النحو الآتي:
1-لدينا شعب طرد من أرضه، وحل محله مستوطنون يهود جيء بهم من أقاصي الدنيا وأركانها الأربعة، شتات من البشر من أوكرانيا وروسيا وألمانيا وأميركا وأوروبا وصولاً إلى الفلاشا من إثيوبيا، سيطروا على الأرض بالقوة تارة، وبالتلاعب والتزوير تارة ثانية، وبالتواطؤ البريطاني والأميركي تارة ثالثة، وتآمر هاشمي سعودي تارة رابعة ؛ فأزيح الشعب الفلسطيني الأصلي وشرد وهجر من أرضه، وتعرض لمذابح دموية في أكثر من مكان.
2-هذا الشعب الذي هجر وطرد من أرضه منذ عام 1948 عاش في الفيافي والملاجئ في دول الجوار (مصر – الأردن – لبنان – العراق – سوريا)، وتعرض بدوره إلى مضايقات أمنية تارة، ومراقبات استخبارية تارة ثانية، ومحاولات لطمس هويته تارة ثالثة.
3-وحينما بدأت الحركة الوطنية الفلسطينية تنمو وتتحرك خارج أطر الأنظمة العربية المضيافة (كمنظمة التحرير الفلسطينية وإطارها الحقوقي، وبقية المنظمات الفلسطينية الراديكالية) حينما بدأت تتحرك باتجاه الكفاح المسلح منذ أواخر الخمسينيات صعوداً إلى مرحلة العاصفة؛ تعرضت للتنكيل والمطاردة من الكيان الصهيوني تارة، ومن بعض أنظمة الحكم العربية تارة أخرى.
وهكذا، ظل نصيب المجاهدين والمناضلين الفلسطينيين لسنوات طويلة إما الاستشهاد والموت، أو البقاء في السجون والمعتقلات الصهيونية غالباً، والعربية أحياناً.
4-وفي السجون والمعتقلات الإسرائيلية، بكل ما يصاحبها عادة من تعذيب وتنكيل وإهانة وإحساس عارم بالظلم، وانعدام العدالة بالمعنى القانوني، لم يكن هناك من خلاص سوى البحث عن وسائل للخلاص بعيداً من نظام ما يسمى العدالة الإسرائيلية الذي فقد الثقة والاعتبار لدى الفلسطينيين جميعاً بسبب سلوكه وطابعه العنصري المتحيز لليهود ضد العرب والفلسطينيين، سواء القاطنين في حدود ما قبل 1948 أو حدود 1967.
5-ولأن نظام الاعتقال الإداري المعمول به في النظام الأمني والبوليسي الإسرائيلي هو بلا سقف زمني ولا قواعد قانونية معروفة، فلم يعد للفلسطينيين من أمل للتحرر من قبضة هذا النظام البوليسي سوى عمليات التبادل التي تجري بعد كل عملية فدائية فلسطينية أو لبنانية عربية لأسر جنود إسرائيليين ومبادلتهم بالأسرى العرب والفلسطينيين.
6-وبسبب وجود مئات من الأسيرات الفلسطينيات (الكثير منهن بلا جريمة حقيقية، وبأحكام سجن عالية، منهن الأمهات والزوجات والطالبات وربات البيوت، وتجري معاملتهن بطريقة تعسفية) فقد أصبح من المهمات الوطنية لحركات المقاومة وفصائلها إخراجهن بكل الوسائل الممكنة، فليس هناك سلطة وطنية تقوم بمهمات وطنية حقيقية في هذا المجال، ولذا أصبح التبادل هو الطريقة الوحيدة تقريباً لإخراجهن من هذه المقابر الحية.
7-وبالنظر إلى وجود مئات – إن لم يكن آلاف – من المناضلين الفلسطينيين من أصحاب أحكام المؤبد، ظل كثيرون منهم في هذه المهالك الوحشية لأكثر من ثلاثين عاماً من دون أمل في الخروج والانعتاق، فقد أصبح مطلب العمل الفدائي والتبادل هو مطلب الحركة الوطنية الفلسطينية طوال سنوات.
8-بالإضافة إلى كل، هذا فإن بقاء كثير من الأطفال والشباب وغيرهم تحت الضغوط القاسية في السجون الإسرائيلية لمدد طويلة يضعهم تحت ضغط وظروف محاولات التجنيد، وتحويلهم إلى جواسيس، ما يرتب واجباً وطنياً لفصائل المقاومة بضرورة الإسراع في العمل على أسر جنود إسرائيليين، والقيام بعمليات تبادل لحمايتهم من هذه الظروف الضاغطة.
9- ومع فقدان الثقة والاعتبار لقدرة منظمات حقوق الإنسان ومنظمات العفو الدولية والأمم المتحدة في إيجاد منفذ للعدالة للمعتقلين والأسرى الفلسطينيين في مواجهة عسف السلطات الإسرائيلية وجورها وفاشيتها-التي أصبحت أكثر تطرفاً وعنصرية في السنوات الخمس الأخيرة -لم يعد أمام الفلسطينيين وحركات المقاومة سوى نزع الشوك بأيديهم وسلاحهم.
10-علاوة على ذلك، فإن "صراع الإرادات"-كجزء من الصراع الأشمل والممتد بين سلطات الاحتلال الإسرائيلي من ناحية، والحركة الوطنية الفلسطينية بصورة عامة، وحركات المقاومة المسلحة بشكل خاص من ناحية أخرى -يقتضي كسر إرادة المحتل، وإحياء الأمل لدى المعتقلين وغير المعتقلين الفلسطينيين بأن وراءهم قوة قادرة على انتزاعهم من أنياب هذا المحتل ولو طال الزمن.
الأبعاد السياسية لتحرير الأسرى الفلسطينيين
إلى جانب الأبعاد النفسية التي تجعل من عملية إطلاق الأسرى الفلسطينيين وتحريرهم ضرورة نفسية حتمية من أجل استعادة التوازن النفسي للشعب الفلسطيني المناضل طوال مئة عام، فإن هناك أبعاداً سياسية واستراتيجية حيوية لإجراء عمليات الأسر المضاد والتبادل.
ويمكننا أن نشير إلى النتائج والتداعيات السياسية التالية في عمليات الأسر المضاد والتبادل:
1- أن هذه العملية العسكرية والأمنية الفلسطينية هي بمنزلة ترياق الحياة للحركة الوطنية الفلسطينية عموماً وفصائل المقاومة العسكرية خصوصاً، نظراً لما تمثله من تحدٍ لغطرسة القوة الإسرائيلية وغرورها، سواء على الصعيد الاستخباري والعسكري، أو على المستوى السياسي والاستراتيجي.
2-هذه العمليات الفلسطينية للأسر المضاد والتبادل تمنح الشعب الفلسطيني كله الثقة والأمل والاعتبار في مواجهة عمليات التنكيل والتعذيب والإهانة القومية التي تمارسها التيارات الصهيونية اليمينية المتطرفة من أمثال بن غفير وسموتريتش ونتنياهو ومن قبلهم الحاخام المقتول مائير كاهانا، وحالياً الحاخامات يتسحاق يوسف وعوفديا يوسف وآريه درعي، وكل هذا التيار الصاعد في الخريطة السياسية والاجتماعية في الكيان الصهيوني.
2- تتولى هذه العمليات الفلسطينية للأسر المضاد رفع مستوى التناول السياسي والإعلامي للقضية والمأساة الفلسطينية على المستوى الإقليمي وعلى الصعيد الدولي، فيعاد الحديث كما يجري حالياً عن ضرورة حل الدولتين، والبحث عن حل سلمي للقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، صحيح أن هناك أطرافاً إقليمية تقتات على الدم والمأساة الفلسطينية من خلال دور الوسطاء، وخصوصاً الوسيطين المصري والقطري، مع وجود تباين بين الموقفين ولو كان ضئيلاً، حيث يعاد من خلال أدوارهم الوسيطة تقديم أوراق اعتمادهم السياسي لدى الإدارة الأميركية، وهو ما يعبّر عنه بالاتصالات الدائمة من الرئيس الأميركي ووزير خارجيته وتقديم الثناء والشكر هنا وهناك لأداء هذه الأدوار.
بيد أنه الشر الذي لا بد منه، حيث ينطبق عليها المثل والحكمة الشعبية المصرية (ليس هناك ورد من دون شوك).
3- تقوم عمليات الأسر الفلسطيني المضاد بإعادة فرز القوى الوطنية في الساحة الفلسطينية، فهي تضع سلطة محمود عباس (وشلته المشكوك في ولائها الوطني وتعاونها الأمني والاستخباري مع العدو، ومن لا يزال يطرح حكاية مسار التسوية السلمية) في ركن قصي لا يشاهده أحد، ولا يقيم له أحد وزناً.
لكل هذه الاعتبارات، فإنه لم يعد هناك من أمل للخلاص من هذا الأسر الوحشي سوى بالتحرر من خلال عمليات التبادل، حتى لو كان الثمن فادحاً والخسائر جسيمة، وهنا يمتزج الفرح وزغاريد الحرية بلوعة الحزن على الشهداء والخراب، إنها تراجيديا المأساة الفلسطينية، وهي تراجيديا من نوع فريد في التاريخ الإنساني على مر العصور.
عن الميداين نت