2024-11-26 09:43 م

دول الإقليم والتطبيع مع الاحتلال... السياقات الراهنة والتداعيات المحتملة

عبرت الولايات المتّحدة عن قلقها الكبير من تداعيات "طوفان الأقصى" على مسار التطبيع الإقليمي مع الاحتلال الصهيوني مرارًا وتكرارًا، إذ مثّلت العملية ضربةً موجعةً له على أكثر من صعيدٍ، أولها؛ التأكيد على خطأ الرهان على إمكانية إقصاء القضية الفلسطينية من الحسابات الإقليمية والدولية، وثانيها؛ أثبتت ضعف الاحتلال وحاجته إلى الحماية والدعم الدائمين والمستمرين، من حلفائه ومن النظام الإقليمي أيضًا، وثالثها؛ أعادت التأكيد على موقف شعوب الإقليم من الاحتلال عامةً، ومن حقّ شعب فلسطين الأصلي في مقاومته بكلّ السبل الممكنة.

انطلاقًا من ذلك كلّه سعت الولايات المتّحدة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول إلى تدارك تداعيات "طوفان الأقصى" على مسار التطبيع مع الاحتلال، عبر جولاتٍ دبلوماسيةٍ مكوكيةٍ قادها وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن، طاف فيها على أهمّ دول الإقليم، السعودية ومصر والأردن والإمارات والبحرين وتركيا وسواها، واستهدف عبرها حث دول الإقليمي المطبعة على الالتزام باتّفاقيات التطبيع رغم الجرائم الصهيونية، ودفع الدول التي لم تطبع بعد للتطبيع بأسرع وقتٍ ممكنٍ، كما عمل على توطيد أسس التطبيع الإقليمي وتوسيعه ليشمل جميع الجوانب الممكنة.

التطبيع إلى أين؟
ربّما لم يحقق "طوفان الأقصى" نجاحاتٍ باهرةً على الصعيد الإقليمي، لكنه نجح، إلى حدٍّ ما، في تعطيل قطار التطبيع، خصوصًا إذا أمعنا النظر في الموقف السعودي واللبناني وبدرجةٍ أقلّ الإيراني، إذ أعلنت السعودية مرارًا وتكرارًا عن استعدادها للتطبيع مع الاحتلال، لكنها شددت في مواقفها الأخيرة؛ بعد السابع من أكتوبر، على أهمّية القضية الفلسطينية، وعلى ضرورة كبح آلة القتل الصهيونية، وحلّ القضية الفلسطينية، وهو ما يؤشر إلى ترددٍ/ تريثٍ سعوديٍ لا يعكس تغييرًا في استراتيجية المملكة تجاه الاحتلال ذاته حتّى الآن، بقدر ما يعكس قلقها من تداعيات التطبيع داخليًا وإقليميًا، وعلى طموحاتها الإقليمية ومصالحها، ويضع شكوكًا بشأن قدرة الاحتلال على خدمة تلك المصالح والطموحات، خصوصًا عسكريًا وأمنيًا.

لبنانيًا؛ غاب الحديث عن سعي الأطراف الدولية والإقليمية لتوقيع اتّفاق ترسيم الحدود البرية اللبنانية- الصهيونية منذ السابع من أكتوبر، وهو ما يؤشر إلى التعقيدات التي وضعها "طوفان الأقصى" أمام هذا المسار، فضلاً عن التعقيدات التي فرضها تصاعد التوتر على خط الاشتباك اللبناني- الصهيوني، في ظلّ دور حزب الله العسكري الحالي، الذي وصفه الحزب بــ"الجبهة الداعمة"، كما في ظلّ تعدد القوى المشاركة في هذا التصعيد لبنانيًا وفلسطينيًا، رغم دورها المحدود نسبيًا. ذلك كلّه يجعل من مضي لبنان في مسار التطبيع مع الاحتلال أمرًا شائكًا، إن لم نقل مستبعدًا، في المديين القريب والمتوسط.

إيرانيًا؛ لم تخلُ الأجواء السابقة لــ"طوفان الأقصى" من مؤشراتٍ متضاربة بشأن العلاقة الإيرانية- الصهيونية، فمن ناحيةٍ أولى شهدت تلك الفترة تقاربًا متسارعًا بين إيران وحلفائها من جهةٍ، والاحتلال وحلفائه الإقليمين من جهةٍ أخرى، كما في ترسيم الحدود البحرية اللبنانية- الصهيونية، والتقارب السوري مع كلٍّ من الإمارات والأردن، والتقارب السعودي مع الحوثيين، والتقارب الإيراني مع كلٍّ من السعودية وبدرجة أقلّ الإمارات، فضلاً عن بعض تسريبات الإعلام الغربي، غير مؤكدةٍ، عن لقاءاتٍ إيرانيةٍ صهيونيةٍ استخباريةٍ في بعض عواصم الدول الغربية.

من ناحيةٍ ثانية، ساد تلك الفترة حديثٌ شبه علنيٍ بشأن أهداف اتّفاقيات أبراهام، وخصوصًا بشأن بناء تحالفٍ إقليميٍ أمنيٍ بقيادة الاحتلال يتصدى لدور إيران الإقليمي واعتداءاتها وطموحاتها المباشرة وغير المباشرة. لكن لم تحدد معالم هذا التحالف بدقةٍ، كما لم تجرؤ الدول المطبعة على الإقرار به، لأسبابٍ عديدةٍ لن نخوض فيها الآن، فبعضهم تحدث عن تحالفٍ دفاعيٍ فقط، أي لا يسعى إلى مواجهة إيران وتغيير نظامها، وهو أقرب للرغبات الأميركية، في حين تحدث آخرون عن تحالفٍ هجوميٍ يهدف إلى تقويض نظام الحكم الإيراني، أو على الأقلّ القضاء على قدراته العسكرية الهجومية كاملةً، وهو أقرب لتوجهات الاحتلال وقادته.

بكل الأحوال باتت احتمالات المواجهة المباشرة اليوم أكبر من التهدئة، رغم حرص إيران والولايات المتّحدة، حتّى الآن، على تجنبها، وهو ما يوحي بصعوبة مشاركة إيران في أيّ مسارٍ تطبيعيٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ، بل قد يؤدي "طوفان الأقصى" إلى زيادة دور إيران ووزنها وفاعليتها إقليميًا، الأمر الذي سوف يمتد إلى حلفاء إيران الإقليمين أيضًا.

على صعيد الدول المطبعة، نلحظ تباطؤًا في مسار بعض مشروعات التطبيع، خصوصًا المشاريع البيئية، في حين لم تتأثر باقي مشاريع التطبيع. كما دخل مسار التطبيع السوداني بطور جمودٍ نسبيٍ، بسبب مشاكله الداخلية، وربّما يصح الوصف ذاته على مسار التطبيع المغربي.

بناء على ذلك كلّه وبعد "طوفان الأقصى" بات مسار التطبيع محصورًا بدولٍ محددةٍ، معظمها من الدول المطبعة أصلاً، مع احتمال، غير مرجحٍ في القريب العاجل، زيادة عدد الدول المطبعة زيادةً محدودةً، أما الدول المحسوبة على المحور الإيراني فمن المستبعد انضمامها لمسار التطبيع علنًا أو سرًا قريبًا. أخيرًا؛ وحدت العملية الاصطفاف الشعبي إقليميًا، وأدت إلى عودة النضال الشعبي بتفاوتٍ نسبيٍّ من دولةٍ إلى أخرى؛ أكثرها شعوب الأردن والعراق والجزائر، كما ركز النضال الشعبي كثيرًا على رفض التطبيع مع الاحتلال، كما دعا إلى مقاطعته ومقاطعة داعميه من الدول والشركات، وهو ما انتشر سريعًا في شتى دول الإقليم كانتشار النار في الهشيم.

تداعيات التطبيع المحتملة
يعود مسار التطبيع الإقليمي مع الاحتلال إلى عام 1978، حين وقعت مصر على أول اتّفاق سلام إقليميٍ معه، في ذلك الوقت انحصرت تداعيات التطبيع الإقليمي على انسحاب مصر من الصراع العربي- الصهيوني (بسبب الموقف العربي الرافض والمندد)، والذي كانت له تداعياتٌ كبيرةٌ ومؤثرةٌ سلبيةٌ على معادلات الصراع، وعلى المقاومة الفلسطينية. بعد ذلك استؤنف مسار التطبيع مع اتّفاق وادي عربة الأردني عام 1994، الذي أعقب اتّفاق أوسلو 1993 مع منظّمة التحرير الفلسطينية. فتح مسار التطبيع الأردني أبوابًا إقليميةً عديدةً أمام الاحتلال، إذ سهل تدفق سلع الاحتلال نحو الإقليم، علنًا وسرًا، كما أدخل الاحتلال في بعض الترتيبات الأمنية السرية؛ أحيانًا بطريقةٍ غير مباشرةٍ، كما مهد الطريق أمام المشاريع التعاونية، خصوصًا الاقتصادية منها، وأخيرًا مكن الاحتلال من المشاركة في بعض المشاريع الاستراتيجية والحيوية التي تمس أمن دول المنطقة مجتمعةً أو فرادى (الطاقة والمياه والأمن).

سرع اتّفاق أوسلو تطور العمل المقاوم المسلح داخل فلسطين، على الرغم من دور السلطة الفلسطينية الأمني في حماية الاحتلال. في مقابل ذلك، أضر الاتّفاق بالقضية الفلسطينية على أكثر من صعيدٍ، الانقسام والنضال والرواية الفلسطينية، كما جمل صورة الاحتلال وساعد في نشر صورته الزائفة، أضعف دور وكالة "أونروا" وحرفه نسبيًا، مهد الطريق أمام تنازلاتٍ كبرى على صعيد وحدة الشعب والأرض والقضية، كما على حقّ العودة وتقرير المصير، وعلى صعيد الأماكن المقدسة بما فيها مدينة القدس، وأخيرًا على صعيد إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة. كذلك ساهم اتّفاق أوسلو في ولوج الاحتلال إلى الساحة الإقليمية عبر البوابة الأردنية بدايةً، وعبر المال الإماراتي لاحقًا.

اتّفاقيات أبراهام؛ حيدت اتّفاقيات أبراهام القضية الفلسطينية، بل همشتها وتجاهلتها كلّيًا، وهو ما ساعد الاحتلال على الاستفراد بشعب فلسطين الأصلي وأرضه، كما حولت الاحتلال إلى حليفٍ إقليميٍ بارزٍ للدول المنخرطة فيها، وأخيرًا مهدت الطريق أمام قيادة الاحتلال لتحالفٍ أمنيٍ وعسكريٍ إقليميٍ واسعٍ يضع على رأس أولويّاته مصالح الاحتلال ورغباته. بذلك منحت اتّفاقات أبراهام الاحتلال فرصةً كان ينتظرها بفارغ الصبر، تمكنه من إنشاء مشاريع حيويةٍ واستراتيجيةٍ واقتصاديةٍ لا قدرة له على إنشائها وحده، لأسبابٍ جغرافية أو مالية أو لوجستية، كمشاريع الإنذار المبكر، والمشاريع الخضراء، ومشاريع استصلاح الأراضي واستثمارها إقليميًا. إذ أدى التقاء الأموال الإماراتية مع البوابة الأردنية إلى تدفق استثماراتٍ صهيونيةٍ بتمويلٍ إماراتيٍ. بذلك تحررت أميركا من أعباء كثيرةٍ مرتبطةٍ بحماية الاحتلال ودعمه اقتصاديًا ولوجستيًا، الأمر الذي ترافق مع الحديث الأميركي عن ضرورة تقليص وجودها في الشرق الأوسط.

أدركت أميركا بعد "طوفان الأقصى" حاجة الاحتلال إلى دعمها العسكري المباشر، لذا سارعت إلى دعمه ماليًا وعسكريًا، الأمر الذي كشف عن ضعف تأثير اتّفاقيات التطبيع الإقليمي على الصعيد الأمني، فالتهديد الأمني الأخطر الذي يواجه الاحتلال يتمثّل في شعب فلسطين الأصلي، وتحديدًا شعبها داخل فلسطين، الأمر الذي يحد من تأثير منظومة الإنذار المبكر، والتنسيق/ التعاون الأمني إقليميًا. في مقابل ذلك، أثبت التطبيع الإقليمي نجاعةً فاعلةً في حماية الاحتلال من التهديدات الخارجية، عبر منظومة الإنذار المبكر، والتنسيق الأمني، والاتّفاقيات الأمنية التي منحته القدرة على التصدي للتهديدات المحتملة خارج حدود فلسطين التاريخية (كما في التصدي للصواريخ الإيرانية وطائراتها من دون طيار)، كما ساعدت الاحتلال في إطباقٍ حصارٍ لاإنسانيٍ إجراميٍ على قطاع غزّة، فضلاً عن دورها في قطع منافذ عدّة من منافذ دعم المقاومة الفلسطينية وتمويلها.

كما منح التطبيع الإقليمي الاحتلال طوق نجاةٍ بعد السابع من أكتوبر، إذ ساعد في الحدّ من تأثير طوق جماعة الحوثيين البحري، إذ استعاض الاحتلال عنه بالجسر البري الأردني، الذي مد الاحتلال بقسمٍ كبيرٍ من احتياجاته الحيوية والغذائية، وربّما العسكرية والتكنولوجية والأمنية، كما تصاعدت الأصوات الصهيونية المطالبة بضرورة تبنّي الاحتلال استراتيجيةٍ إقليميةٍ تلبي أمن الاحتلال الغذائي، عبر تكثيف المشاريع الزراعية والصناعية الإقليمية عددًا وحجمًا، بهدف تقليص حاجة الاحتلال لاستيرادها بحرًا، ما يقلل كلفتها وزمن نقلها.

أفاق التطبيع المستقبلية
يصعب التكهن منذ الآن بأفاق التطبيع الإقليمي المستقبلية، فالأمر مرتبطٌ بعوامل عديدةٍ فلسطينيًا وإقليميًا ودوليًا. فعلى الصعيد الفلسطيني قد يؤدي نجاح مخططات الاحتلال وأميركا في القضاء على المقاومة الفلسطينية إلى تسارع قطار التطبيع كمًا ونوعًا، في حين قد يؤدي فشل تلك المخططات إلى كبح جماح التطبيع الإقليمي لأسباب عديدةٍ، أهمّها ضعف الاحتلال والشك في قدراته الأمنية والعسكرية، كما في تصاعد التوترات الأمنية داخل فلسطين المحتلة ونسبيًا خارجها، وتبدل أولويّات الاحتلال الاستراتيجية لتطويق هزائمه داخل فلسطين، فضلاً عن تصاعد أزمات الاحتلال الداخلية، وتحديدًا الانقسام المجتمعي.

إقليميًا؛ إطالة اعتداءات الاحتلال وصمود المقاومة الفلسطينية وتطور أدائها داخل فلسطين، في قطاع غزّة والضفّة الغربية، سوف يساهمان في استمرار الغضب الشعبي إقليميًا وتناميه، كما قد يؤديان إلى تصاعد الحركات الاحتجاجية المنددة بمسار التطبيع والاحتلال والداعمة للفلسطينيين ومقاومتهم، وهو ما قد يصطدم مع النظم المطبعة آجلاً أم عاجلاً، الأمر الذي يفتح الباب أمام طوي صفحة التطبيع كلّيًا أو جزئيًا.

دوليًا؛ يواجه الاحتلال أزماتٍ كبرى غير مسبوقةٍ، حتّى في زمن الانتفاضة الأولى، على المستوى الدولي شعبيًا ورسميًا، ما قد يؤدي إلى وضع الاحتلال في قفص الاتهام قانونيًا وسياسيًا واقتصاديًا؛ نلحظ بوادر لذلك لم تتحول بعد إلى مساراتٍ واضحةٍ وفاعلةٍ، الأمر الذي قد يؤدي إلى نبذ الاحتلال دوليًا، ولو على المستوى الشعبي فقط، رغم كلّ الجهود الأميركية والغربية المبذولة لمنع هذا الاحتمال، وهو ما سوف يؤثر لا محالة على مسار التطبيع الإقليمي مستقبلاً.

المصدر : القدس العربب