تذهب حكومة الاحتلال الإسرائيلي بعيداً في ما تُسمّى عمليات "شرعنة" البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية المحتلة، وهي واحدة من أسس الاتفاق الائتلاف الحكومي الإسرائيلي عام 2022، وتأخذ هذه المرة، على وقع المحاولات المحمومة لفرض الخطط الاستيطانية، وخاصة تلك الخاصة بالوزير بتسلئيل سموتريتش والمسماة خطة الحسم، منحى آخر بـ"شرعنة" من نوع مختلف للبؤر الاستيطانية الرعوية في الضفة الغربية، بتخصيص 16200 دونم من الأراضي المصنفة "أملاك دولة" و"أملاك الغائبين" لغرض الرعي، وهنا للمستوطنين، لا للفلسطينيين الذين يُحرمون عملياً من رعي مواشيهم في هذه الأراضي.
وبحسب هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، فإن ما يُسمّى حارس أملاك الدولة وأملاك الغائبين، وهو ضابط في الإدارة المدنية التابعة لجيش الاحتلال، يصدر بشكل متكرر أوامر لتخصيص أراضٍ تحت مسمّى "الاستخدام المؤقت" لأغراض مختلفة كتوسيع نفوذ مستوطنات مثلاً، لكنها المرة الأولى التي تردها أوامر لتخصيص أراضٍ لغرض الرعي.
ما الذي يعنيه هذا الإجراء؟
يقول مدير عام النشر والتوثيق في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الفلسطينية أمير داود، لـ"العربي الجديد"، إن سياق هذه الأوامر الجديدة هو تنفيذ للاتفاقات الائتلافية التي شُكلت وفقاً لها حكومة الاحتلال، ومنها شرعنة 70 بؤرة رعوية في الضفة الغربية، ولأن هذه البؤر لا تعتمد على السكن، بل وإن عدد من يقطنون فيها قليل جداً، فإنها بحاجة لشكل آخر من "الشرعنة".
ويؤكد داود أن ما تسمّى تسوية أوضاع البؤر الاستيطانية أو شرعنتها تتم عادة بتخصيص أراضٍ لبناء الوحدات السكنية الاستيطانية، وما يتبعها من بنية تحتية ومرافق، ولكن في هذه الحالة تم منح البؤر الاستيطانية أماكن "شرعية" للرعي، ويقول إن ما أخرج مثل هذه الإجراءات والأوامر العسكرية إلى السطح هو اشتراطات سموتريتش المتعلقة بالضفة للاستمرار في الحكومة بعد وقف إطلاق النار في قطاع غزة.
وتتوزع الأراضي التي صدرت بحقها أوامر "تخصيص لغرض الرعي" على طوباس، شمالي الضفة الغربية، أي الأغوار الشمالية بواقع 8700 دونم، وغور الفارعة في أريحا، شرقي الضفة الغربية، بواقع 426 دونماً، ودير بلوط، قضاء سلفيت، واللبن الغربي المجاورة لقضاء رام الله، وسط الضفة، بواقع 2600 دونم، وأمرين استهدفا أراضي دير جرير وكفر مالك، شرقي رام الله، بواقع أكثر من 4500 دونم.
تهجير التجمعات البدوية واستبدالها بالاستيطان الرعوي
شرق رام الله المنطقة المسماة شفا الغور، والتي تُعدّ منطقة استراتيجية كونها تشرف على الأغوار الفلسطينية وتصلها بها، تمكّن المستوطنون فيها بعد شن الاحتلال الحرب على غزة، من تهجير قرابة 18 تجمعاً بدوياً فلسطينياً من أصل تهجير 28 في عموم الضفة، بشكل أساسي من خلال عمليات إرهاب سكان التجمعات والاعتداء عليهم واقتحام بيوتهم بالسلاح، وكان يقوم بتلك الأعمال العدوانية أصحاب البؤر الاستيطانية، وبشكل خاص الرعوية. وبتخصيص الأوامر الجديدة آلاف الدونمات لرعي المستوطنين في شرقي رام الله، وتحديدا في أراضي دير جرير وكفر مالك، يواصل المستوطنون سعيهم لإحلال أنفسهم مكان الفلسطينيين البدو.
وفي السياق، يقول رئيس مجلس قروي كفر مالك ناجح رستم لـ"العربي الجديد"، إن الأراضي المستهدفة تقع عند منطقة عين سامية، وهي عين مياه رئيسية لمنطقة رام الله بأكملها، بالإضافة إلى أراض شرق الشارع الاستيطاني "ألون" الذي يفصل القرية عن أراضيها، مشيراً إلى أن الأوامر العسكرية الجديدة تأتي تتويجاً لما بدأت بفعله بؤر استيطانية ثلاث أقيمت على أراضي كفر مالك ودير جرير، من تهجير لـ3 تجمعات بدوية، وطرد مزارعين من كفر مالك كانوا يربون الأغنام في تلك المنطقة، فضلاً عن حرمان أكثر من 50 عائلة من زراعة أراضيها هناك، وجعلها محرّمة عليهم وعلى كل أهل القرية، ولم يعد يستطيع الوصول للمكان سوى موظفي مصلحة المياه العاملين في عين سامية.
ويؤكد رستم أن كل الأراضي التي كان يذهب الأهالي والبدو الفلسطينيون لرعي مواشيهم فيها أصبحت خلال العام الماضي مناطق يُمنع الوصول إليها، ومناطق لتحرك المستوطنين بمواشيهم، لكن ليس ذلك فقط، بل جرى منع المزارعين من الوصول إلى قرابة 40 ألف دونم كانت تُزرع بالقمح والشعير، وفيها عدد من مزارع الجوافة والأفوكادو والليمون والعنب، وسيثبت الأمر العسكري الجديد الواقع بقطع كل هذه المساحات الواسعة عن القرية.
وفي بلدة دير جرير، شرقي رام الله، أصبح الأهالي فيها منذ أكثر من عامين محصورين داخل المنطقة السكنية بسبب الاستيطان، كما يؤكد أيمن علوي، عضو المجلس القروي، لـ"العربي الجديد". ويستحوذ المستوطنون على أكثر من ألفي دونم بعدما أقاموا بؤرة استيطانية على جبل الشرفة، شرقي البلدة، ويمنعون الأهالي من الوصول لمساحة أكبر، ولم يتمكن الأهالي خلال عامين سابقين من قطف ثمار زيتونهم أو حراثة أرضهم، وفي المنطقة الغربية للقرية بؤرة رعوية أخرى بين دير جرير وسلواد تحرم الأهالي من الوصول إلى أراضيهم، بل أصبحت مصدراً لاعتداءات على المنازل في أطراف القرية، ليأتي القرار الأخير تثبيتاً لأمر واقع فرضه المستوطنون بحماية جيش الاحتلال، لكن حتى القرار الأخير بتخصيص الأراضي لرعي المستوطنين، وفقاً لعلوي، أتى على جزء من أراضٍ خاصة وغير مصنفة أراضي دولة أو أملاك غائبين، ولذا سيحاول المجلس تقديم اعتراض عليه، رغم عدم الثقة بمحاكم وإجراءات الاحتلال.
السيطرة على الأغوار
8700 دونم هي أكثر من نصف المساحة المعلنة أراضي مخصصة لرعي المستوطنين تقع في محافظة طوباس، أي الأغوار الشمالية، التي لطالما استهدفتها خطط الضم والسيطرة، وهناك، تستهدف الأوامر الجديدة، بحسب مسؤول ملف الاستيطان في محافظة طوباس والأغوار الشمالية معتز بشارات، مزيداً من التضييق على التجمعات البدوية، وفق قوله لـ"العربي الجديد"، ويوضح أن هذه المساحات تقع ضمن ثمانية أحواض، أي ثماني مناطق مختلفة من الأغوار الشمالية، وتتأثر بها تجمعات مثل الفارسية نبع الغزال، والفارسية حمير، والحديدية، ومكحول، وسمرة، وعين الحلوة، ووادي الفاو.
ويقول بشارات إن هذه التجمعات كانت تعاني من مضايقات من المستوطنين وملاسنات مع المستوطنين تصل أحياناً إلى حد الاشتباك بالأيدي، وكان جيش الاحتلال يعتقل المواطنين الفلسطينيين بسبب ذلك، ورغم منع الأهالي بطرق عديدة من رعي مواشيهم في الأراضي المجاورة لهم، إلا أنهم أصروا على الرعي، وواصلوا الوصول إلى الأراضي المجاورة لهم، لكن الأوامر الأخيرة ستحرمهم من ذلك.
ويقول بشارات إنه وبعد الاطلاع على الخرائط والصور الجوية ومواقع الأراضي المعلنة مراعٍي للمستوطنين، فوجئ بأنها مساحات قريبة جداً من أماكن سكن الفلسطينيين في هذه التجمعات، ما يعني جعل التجمعات وكأنها سجون يُمنع الخروج منها للرعي، في محاولة لإكمال عمليات التهجير التي حاول المستوطنون على مدار سنوات تنفيذها عبر الاعتداءات. ويتابع بشارات: "هذا إجراء يتم من خلاله إطباق السيطرة على مناطق المراعي في الأغوار الشمالية وحصار الأهالي، لأن معظمهم من أصحاب الثروة الحيوانية، وأصبحوا كأنهم داخل سجون في تجمعاتهم، حيث لا يستطيعون الخروج لأكثر من 20 متراً من داخل التجمعات، وهناك إقامة للبؤر الاستيطانية بشكل ملاصق للتجمعات الفلسطينية، ويواصل المستوطنون الاعتداءات المتكررة واقتحام المساكن والاعتداء على الأطفال والنساء والشيوخ، والضغط عليهم ومنعهم من التوجه إلى المراعي ليصبحوا محصورين هم ومواشيهم".
البؤر الرعوية أقل كلفة وأكثر كفاءة
وتُعدّ هذه الخطوة دفعة قوية لمشروع البؤر الرعوية التي تكثف نشرها في الضفة الغربية بعد العام 2015، حيث يقول أمير داود إن البؤر الرعوية موجودة منذ العام 1984، لكنها انفجرت كأداة استيطانية جديدة منذ عشر سنوات. ويوضح داود أن المشرّعين في دولة الاحتلال قالوا إن الاستيطان الرعوي والزراعي أقل كلفة وأكثر كفاءة في السيطرة على الأراضي، ويمكنه أن يسيطر على أضعاف المساحات التي يسيطر عليها الاستيطان لأغراض السكن، لكن دولة الاحتلال، بحسب داود، كانت تتنصل من هذا النوع من الاستيطان وتعتبره سلوكاً غير قانوني، فيما أصبحت حكومة الاحتلال اليوم ترعاه رعاية كاملة وتغذيه، لتصل الآن إلى تتويج هذه الرعاية بهذه الهدية الكبيرة وشرعنته بإعطائه هذه الأراضي المخصصة للرعي.
عن العربي الجديد