بقلم: محمد عيسى
حملت التصريحات الدائرة حول المفاوضات النووية في فيينا، خلال الأشهر الماضية، الكثير من التفاؤل باقتراب المباحثات بين إيران ومجموعة (4+1) من خواتميها المثمرة. لكن ها قد انقضت جولات عدة من المفاوضات وجاءت حكومات وحُلّت أخرى دون رؤية الدخان الأبيض يتصاعد من غرف فيينا المغلقة.
فيما يلي نعرض بعض العقبات أمام إبرام الاتفاق بين واشنطن وإيران والدول الكبرى، وهي عقبات قد تذلل في الأسابيع المقبلة أو قد تساهم في إفشال كل الجهود المبذولة حتى الآن.
1- معارضة في الكونغرس
لا زالت سياسة "الضغوط القصوى" التي كرّسها الرئيس السابق دونالد ترامب عقب انسحابه من الاتفاق النووي عام 2018 تلقى قبولاً عند الساسة الأميركيين رغم فشلها في تحقيق أهدافها وإرغام إيران على الموافقة على ما عرف بـ"اتفاق ترامب" أو، على الأقل، القبول بالتفاوض حول اتفاق جديد يعود بمكاسب أقل على طهران.
ولذلك سيتوجّب على جو بايدن التعامل مع هذه المعارضة التي يترأسها صقور الجمهويين في الكونغرس كرون جونسون ومايكل ماكول اللذين يطالبان وزملائهما الإدارة الأميركية بالحصول على موافقة الكونغرس لإبرام ما يجري الاتفاق عليه في فيينا، وهو أمر لن يؤدي إلى نتائج مهمة نظراً لسيطرة الديمقراطيين على الكونغرس لكنه يسهم في تعكير صفو المفاوضات وإضافة تعقيدات جديدة فضلاً عن الموجودة أصلاً.
صحيفة "بوليتيكو" الأميركية كانت قد أضاءت على المساعي الجمهورية لـ "خنق أي عودة يقودها بايدن إلى الاتفاق الإيراني"، متذرعين بالرغبة بالتوصل إلى اتفاق يسمح بـ"تقليص نفوذ إيران" في المنطقة والحد من برامجها العسكرية وذلك بالاعتماد على النفوذ الذي أتاحته العقوبات الأميركية على إيران.
يستند الجمهوريون في سجالهم لاستدراج إدارة بايدن إلى الكونغرس على "قانون مراجعة الاتفاق النووي الإيراني" الصادر عام 2015 بدعم من الحزبين، والذي ينص على إحالة أي "اتفاق جديد" يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني إلى الكونغرس لمراجعته خلال مدة قدرها شهرين، وليكون له الحق برفضها ومنع دخول الصفقة حيز التنفيذ.
قبل توقيع الاتفاق النووي عام 2015 قدمت إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما خطة العمل الشاملة المشتركة إلى الكونغرس إلى جانب التقييمات والشهادات المطلوبة، في امتثال للقانون. وعليه، فقد حظي الكونغرس بفرصة مراجعة الاتفاق والاستماع إلى مسؤولي الإدارة وشهود آخرين، وإجراء مشاورات مع السلطة التنفيذية. وبموجب هذه المباحثات جرى تمرير الاتفاق وعُمل به حتى انسحاب واشنطن الآحادي منه.
لكن الأمر لم يحسم إلى الآن: هل تنتهي مفاوضات فيينا باتفاق جديد بين إيران وأميركا والدول الضامنة أم فقط بـ"العودة" إلى الاتفاق السابق مع إحداث بعض التغييرات؟ الواضح أن الأمور لا تقترب من اتفاق جديد – في ظل رفض طهران لأي تفاوض جديد تحت الضغط والعقاب - وإنما من إعادة إحياء لاتفاق عام 2015.
2- ضغوط إسرائيلية للتعطيل
"إسرائيل ستقوم بعمل كل شيء ممكن لمنع إيران من الحصول على القنبلة النووية"، هذا ما صرّح به وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد بعد يومين من نيل حكومته الثقة. يعلم لابيد أن المطلب الإسرائيلي دائماً ما تخطى هذه الحدود، وأن الإسرائيليين لم يرضوا يوماً بضمانات عدم حيازة إيران للسلاح النووي (فاتفاق عام 2015 كان يضمن ذلك)، وإنما يريدون إدراج عناوين أخرى تتعلق بالبرامج العسكرية الصاروخية لإيران وبدور الأخيرة وحلفائها في المنطقة، وبالتالي تجميد تهديدات الحرس الثوري وفصائل المقاومة في الإقليم جنباً إلى جنب تجميد المشروع النووي الإيراني عند مستوى محدد.
كان رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو أحد أبرز معارضي الاتفاق الدولي مع إيران عام 2015، بل هاجمه في خطاب أمام الكونغرس الأميركي، خارجاً بذلك عن الأعراف الدبلوماسية ومتسبباً بتوترات بين إدارته وإدارة الرئيس أوباما. نتنياهو رأى آنذاك أن الاتفاق ينذر بخطرين: السماح لإيران بالتسلح بأسلحة نووية خلال 10 أو 15 عاماً، حتى لو التزمت بالاتفاق، وضخ مليارات الدولارات لما وصفه بـ"الإرهاب الإيراني وآلة الحرب التي تهدد إسرائيل والعالم بأكمله".
وبلغ أوج الإصرار الإسرائيلي في التعاطي مع الملف النووي الإيراني وفق استراتيجية متمايزة عن صديقتها واشنطن في تصريحات نتنياهو، مطلع حزيران/يونيو المقبل، والتي حذرت من وضع "إسرائيل" في موقع المفاضلة بين "الصديقة العزيزة الولايات المتحدة وبين إزالة تهديدها الوجودي، لأن إزالة التهديد ستتغلب".
التصريحات الإسرائيلية ترجمت عملياً من خلال مجموعة عمليات أمنية في الداخل الإيراني أو في اسنهداف أسطول السفن الإيرانية غير العسكرية في البحر الأحمر. وكان من أهم هذه العمليات اغتيال العالم الإيراني محسن فخري زاده والذي كان يرأس منظمة البحث والتطوير في وزارة الدفاع الإيرانية، وهو اغتيال أشارت طهران إلى امتلاكها "أدلة جادة" على ضلوع "إسرائيل" فيه، ووصف بأنه بداية لمرحلة جديدة تخلت فيها إيران عن بعض التزامتها النووية بما في ذلك رفع نسبة التخصيب إلى بنسبة 20%، واستخدام أجهز طرد أكثر تطوراً.
حاولت "إسرائيل" التأثير على مسار المفاوضات الإيرانية مع مجموعة (4+1) في فيينا، والتي بدأت في نيسان/أبريل الماضي، فأرسلت وفداً أمنياً رفيع المستوى ضمّ مستشار الأمن القومي ومدير الموساد السابقين إلى واشنطن حيث التقوا كبار المسؤولين الأميركيين الذين أطلعوهم على سير المفاوضات مع إيران، وكرروا على مسامعهم التزام بلادهم بحماية أمن "إسرائيل" من غير أن يحقق الوفد الإسرائيلي أي خرق جديد يتمثل بانتزاع شروط من إيران تضمن الحد من نشاطات إيران الإقليمية المهددة لـ"إسرائيل".
حكومة نفتالي بينيت ويائير لابيد هي الأخرى متمسكة بالحد من قدرة إيران العسكرية والنووية، بل إنها تتهم بنيامين نتنياهو بالتسبب بتقدم البرنامج النووي الإيراني نحو حيازة طهران قنبلة نووية، وتلومه على تفضيله "إلقاء خطابات بمساعدة أوراق بريستول والقيام بعروض علاقات عامة بدلاً من دفع أعمال حيوية"، وفق ما قال مكتب بينيت سابقاً.
الحكومة الجديدة، وبخلاف حكومة نتنياهو، خففت من التصعيد الكلامي تجاه الاتفاق النووي وبدأت بالبحث عن وسائل أخرى قد تؤدي إلى تعطيل الاتفاق النووي أو "تفجيره" في حال إقراره، وهذا ما أشار إليه الصحافي الإسرائيلي المخضرم رون بن يشاي الذي تحدث عن استعدادات في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لاحتمال مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية في المستقبل القريب وذلك باستخدام "أساليب هجوم مختلفة". لكن ذلك لا يعني أن "إسرائيل" ستنجح في وقف برنامج إيران أو تعطيل فرص الوصول إلى اتفاق.
3- "اتفاق نووي" وقضايا غير نووية
طرحت واشنطن منذ البداية مشروعها لعقد اتفاق مع إيران يشمل حلفاءها والسياسات ذات الصلة في الشرق الأوسط، إلا أن إيران رفضت التفاوض على أي أمر مستحدث قبل رفع كامل العقوبات عنها وتعويضها عن خسائرها التي لحقت بها جراء العزلة.
تريد إدراة بايدن من الاتفاق الجديد أن يكون تثبيتاً لمرحلة جديدة هادئة نسبياً مع إيران، ومطمئناً للحلفاء في الشرق الأوسط الذين لاموا إدارة سلفة أوباما بسبب حرمانهم من ثمار الاتفاق، وهي بشكل أو بآخر تريد أن تحقق نتائج أقرب لـ"انتصار دبلوماسي" على طهران يمنحها المزيد من الثقة في المنطقة.
هذا بالتحديد ما جعل مهمة الوصول إلى اتفاق مرضٍ شاقة، وأدى إلى فشل تحققه خلال الجولات الـ6 الماضية، بل ربما يؤذن بفشله مطلقاً إذا ما أصرّت واشنطن على قرن المباحثات حول النووي بقائمة كبيرة من المطالب الأخرى.
مندوب ايران لدى المنظمات الدولية في فيينا كاظم غريب آبادي تحدث، يوم الخميس الماضي، عن بعض الأسباب التي عرقلت الوصول الى الاتفاق في مفاوضات فيينا الاخيرة. واحدة من أهم هذه الأسباب، كما يوضح آبادي هو "ربط كل التفاهم بقبول بند حول المفاوضات المستقبلية بشأن القضايا الإقليمية"، الأمر الذي يوضح تمسك الولايات المتحدة بمبدأ "كل شيء أو لا شيء" واستعدادها للإطاحة بالمفاوضات النووية التي اقتربت من نهايتها إن لم يشكّل مدخلاً لتفاهمات على مسائل إقليمية أخرى.
4- إيران قد لا تظل متمسكة بالتفاوض
كان انسحاب أميركا من الاتفاق النووي عام 2018 حدثاً مؤسفاً للساسة الإيرانيين الذين راهنوا على اندماج بلادهم بالسوق الاقتصادية العالمية وعودة الاستثمارات على وقع التطمينات التي حملها الاتفاق الدولي. وبالفعل، تسببت العقوبات التي طالت مئات الشركات والمصارف والجهات بانكمش اقتصاد البلاد باطراد بدءاً من العام 2017 (بعد نمو كبير بلغ 12.5% عام 2016)، وحتى بلوغ معدل الانكماش 4.99% عام 2020.
تحتاج إيران بلا شك إلى الأموال التي يؤمنها رفع الحظر عن مدخراتها البنكية وعودة صفقاتها التجارية مع دول العالم، فضلاً عن فتح باب الاستثمار والتعاون الاقتصادي مع القطاعات الخاصة. ووفق معهد التمويل الدولي (IIF) سيساهم الاتفاق النووي المرتقب في نمو الاقتصاد بنسبة 4.4% هذا العام، وبنسبة 6.9% عم 2022 و6% عام 2023.
كما أن حكومة الرئيس المنتخب إبراهيم رئيسي ستكون محتاجة إلى ثمار الاتفاق النووي في تحقيق ما وعد به، خلال الحملة الانتخابية، من تأمين فرص عمل للشباب وحل مشكلة السكن ومشكلة الفوارق الطبقية بين المواطنين، ولهذا فإن حكومة رئيسي ستكون معنية بمواصلة التفاوض مع واشنطن من أجل الحصول إلى نتائج مرضية.
إلا أن القيادات الإيرانية بدأت ترسل رسائل متبرمة من المماطلة الأميركية في حسم خياراتها، منتقدةً برأس سلطاتها، السيد علي خامنئي، المراهنة على المفاوضات مع الغرب التي "لم تحقق أي تقدم" خاصةً وأن "الغربيين والأميركيين يتصرّفون بغدر وخبث في مفاوضاتهم".
السيد خامنئي اعتبر، في وقت سابق، أن طول المفاوضات سيكون "مضراً بالبلاد" وهو الأمر الذي كرره مسؤولون إيرانيون مؤشرين إلى ضرورة الإسراع في حسم مسار المفاوضات. لكن الأهم من أمد المفاوضات تبدو إيران متخوفة من إصرار واشنطن على تجنّب التعهد بعدم الانسحاب مرة جديدة من الاتفاق، وهو ما ينذر بتضييع المزيد من فرص التركيز على الخيارات البديلة عن الغرب، والتي دعا خامنئي مراراً إلى عدم تفويتها.
الميادين نت