2024-11-27 06:29 م

الغمغمة السياسية

2021-10-11
بقلم: بثينة شعبان
 في خطابه، في الذكرى الـ 34 لانطلاق حركة "الجهاد الإسلامي"، دعا الأمين العام للحركة زياد نخالة إلى وحدة الصف الفلسطيني، والتراجع عن أوهام السلام التي اختلقها العدو الإسرائيلي، والابتعاد عن الغمغمة السياسية. وفي هذه الدعوة الأخيرة بلسمٌ لجراح متعدّدة، يعاني جرّاءها الشعبان الفلسطيني والعربي منذ عقود، لأن الغمغمة السياسية هي الحاجز الأخطر بين الحق وأصحابه وبين التاريخ الحقيقي الذي يجب أن يُدرَّس للأجيال وبين ما يدرسونه اليوم من نصوص تُولي اهتماماً لمشاعر أصحاب الشأن والقرار، بدلاً من إيلاء الاهتمام للوطن وسلامته وتعزيز أُسس قوته ومنعته.

 مرّت، منذ أيام، ذكرى حرب تشرين التحريرية، لكنْ لم تُكتب حقيقة تلك الحرب ومجرياتها، إلى حدّ اليوم، ولم يتمَّ التوصل إلى الاستنتاجات العلمية والمؤكَّدة، والتي تسمي الأشياء بأسمائها، على الرَّغم من أن اتفاقات "سيناء 2"، واتفاق كامب دافيد، وزيارة السادات للقدس المحتلة، دكّت إسفيناً في جسد العالم العربي، ما زلنا نشهد تداعياته الخطيرة ونعيش تبعاته على الأجيال، من دون أن يتمكن أحد من عكس هذا التيار، والإقلاع من جديد في اتجاه مُغاير مقاوم.

 وفي الإطار نفسه، حقّق اتفاق أوسلو للعدو الصهيوني ما لم يتمكن من تحقيقه خلال عقود، وأفشل ذاك الاتفاق عمليةَ سلام كانت مبنية على أُسس سليمة ووَفق إجماع وتنسيق عربيين، ومكّن الصهاينة من خوض معركة علاقات عامة بعشرات الدول لمصلحتهم، وفتحَ الأبواب لهم من جانب بلدان لم تكن لتعترف بالكيان الصهيوني لولا الاتفاق الفلسطيني معه. ومع ذلك، لا تنص الكتب المدرسية أو غيرها على حقيقة ما جرى ويجري، ولا تُسَمّي الأشياء بأسمائها، ولا توجِّه اللوم إلى من يستحقون. وهنا، أستذكر قول الله، عز وجل، "يا أهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُون الحقَّ بالباطل وتَكْتُمون الحقَّ وأنتم تَعْلَمون". لكنْ، هذه المرة، تشملنا هذه الآية حين نغمغم ولا نفصح عن الحقيقة. 

   أن يلبس الحق بالباطل؛ أي أن يغمغم الحق، أو أن يكتمه، وكلاهما خطرٌ على الحقيقة وقول الصدق، لأن الحقيقة هي التي تهدي إلى القرار السليم، وهي التي تختصر الطُّرُق، وتستثمر الوقت، بدلاً من هدره وإضاعته، أو ما زال البعض يعتبر أن أشخاصاً ما وسمعتهم ومكانتهم أهم من التاريخ وأهم من الأوطان؟ لا قيمة يجب أن تعلو فوق قيمة الوطن وقول كلمة الحق، من أجل مصلحة الوطن وإعلاء شأنه، لأن الكلَّ موقَّتون وعابرون، إلاّ الأوطان والحقائق الناصعة المرتبطة بها.

هناك من يعرضون بعض أحداث تاريخنا بصدق شفوياً، وحين نطلب منهم أن يسجّلوا ما قالوه، يقول البعض منهم: لن يصدّقنا أحد، لأن كل ما نقرأه مخالف للحقائق التي نعرفها بعمق ونتحدث بشأنها.

إلى متى نستمر في بيع الأوهام، ونحن نشهد واقع هذه الأمة يتراجع، سواء محلياً، أو إقليمياً، أو دولياً؟ ومتى سنمتلك الجرأة الأكيدة على أن نؤيّد ما قاله السيد زياد نخالة، وفحواه أن "المشروع الرسمي الفلسطيني"، وأُضيفُ إليه "المشروع الرسمي العربي"، هما أقصرُ من قامات الشهداء، وأقلّ كثيراً من تضحيات الأسرى والجرحى، على امتداد أرض هذا الوطن العربي الكبير، في كلّ أقطاره"؟ 

في الوقت الذي تنشغل أغلبية دول العالم بإعادة حساباتها بشأن موقعها، إقليمياً ودولياً، والدور الذي يمكن لها أن تؤدّيه أو تطوّره في أحداث تعيد تشكيل العالَم من جديد، نجد الكتلة العربية مبعثرةَ الجهود بين مع من يريد أن يَستبدل بالسيد الأميركي السيدَ العثماني، "كالمستجير من الرمضاء بالنار"، وبين من يعقد آمالاً على الأوهام، التي يسوّقها له الكيان الصهيوني، فيرتمي في حِضنه سراً أو علانية، غيرَ متّغظ من مآل الأمور في دول عقدت آمالها على العلاقة بهذا الكيان، فلم يكتفِ بالغدر بها، بل سخّر كلّ علاقاته وإمكاناته ليُقنع دولاً أخرى باتخاذ خطوات، وبناء سدود، تنغّص عليها مصدر الحياة الذي ترتوي من نسغه. وبين هذا وذاك دول عربية تمتثل لقرارات هي في العمق ضدها، بقدر ما هي ضدّ الأخ الشقيق، لأنها تكرّس الفرقة والانقسام والعزلة، في الوقت الذي يدرك أعداء العرب، قبل حكام العرب، أن فتح حدودهم والتعاون والتنسيق بينهم هي طريق الخلاص الوحيد لهم جميعاً.

البعض، في عالمنا العربي، مزهوّ بانكسار الولايات المتحدة في أفغانستان، وتراجُع الدور الغربي في الإقليم والعالم، بينما ما زال بعض مَن يراهنون على السيد الغربي يتوسّلون كلمة منه يعتقدون أنها قادرة على تغيير مصائرهم ومصائر أوطانهم. وهؤلاء يذكّرونني ببداية الحرب على سوريا، حين احتفل بعض المأجورين بدعوة أوباما الرئيسَ الأسد إلى أن يرحل، معتقدين أن كلمته قَدَرَ لن يتمكّن أحد من تغييره. وفي كِلتا الحالتين الرهان هو على الآخر: إمّا أن ينكسر، وإمّا أن يشكّل منقذاً، ولا هو بباعث الحياة في بلداننا إن انكسر، ولم ولن يشكّل منقذاً لمن لا يعمل ويضحّي، ويُسرع الخطى في بناء وطنه.

مع التسليم طبعاً بأنّ الغرب بعد أفغانستان ليس كما قبلها، وأنّ القطب الغربي يشهد حالة تفكّك وتراجع، يقابلها صعود متسارع للصين وروسيا والهند وإيران، ومنظومات تفكير تؤمن بعالم متعدّد الأقطاب، وبإعادة النظر في العلاقات الدولية، وتقف ضدّ التدخّل في شؤون الدول. وعلى الرغم من ذلك كلّه، فإنّ الوحش الغربيّ المتربّص بالعرب اليوم جاثمٌ على الضفة الأخرى من المتوسّط، حالمٌ بإعادة بناء الإمبراطورية العثمانية على أُسس تنظيم "الإخوان المسلمين" للوصول إلى أهدافه. فالخطر اليوم الذي يهدِّد سوريا والعراق وليبيا وتونس والجزائر، وحتى مصر واليمن ودول الخليج، كما يهدِّد إيران وأرمينيا وعدداً من دول آسيا الوسطى، هو الخطر العثماني الإخواني، الذي يحاول مراكمة أوراقه من خلال ألاعيبه الخبيثة، قبل أن تنكشف نِيّاته الحقيقية. والخوف هو من الانتظار إلى أن تصبح نياته واضحة للجميع، فيكون قد تمدّد واحتلّ وتمركز، واستخدم أدواته ضدّ البلدان والشعوب. 

لقد أصبح واضحاً اليوم أنّ الخطر العثماني والخطر الإسرائيلي على أمتنا صنوان. لكن الأخطر من كلّ شيء، بالنسبة إلى هذه الأمة، هو عدم وضوح الرؤية، وعدم الاقتناع بأنّ عوامل القوة أو الضعف تنبع من الداخل، ولا يمكن لأيّ قوّة، مهما عَتَت، أن تنال من بنيان صلب متماسك يُحْسن صانعوه الدفاع عنه. كما أصبح واضحاً أنّ كلّ ادعاءات العثماني بشأن الحرص على فلسطين والذَّود عنها هي ادّعاءات كاذبة من أجل ذرّ الرماد في العيون، بينما يتعاون مع الصهيوني في شبكة علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية، تمتدّ من الشرق الأوسط إلى القوقاز وآسيا الوسطى. 

مصيبتان كُبْرَيان في تاريخنا العربي هما الخيانة والغمغمة السياسية، والسبب الكامن وراء الاثنتين هو عدم الصدق مع الذات والآخر، وعدم المكاشفة الصريحة، وعدم الجرأة في إعلاء كلمة الحقّ والوطن. لا شكّ في أنّ الوقت أصبح متـأخراً جداً، وأنّ إعادة البناء تتطلّب وقتاً وجهداً وتفكيراً نيّراً وغيرَ تقليديّ. لكن، هل هناك أيّ خِيار آخر متاح من أجل مستقبل أفضل لأُمّة تهدّدها تطوّرات الأحداث في العالم بأن تُبقيَها خارج التاريخ؟

المصدر| الميادين نت