2024-11-26 07:57 ص

طموح جيواستراتيجي: الحسابات الإسرائيلية في البحر الأحمر

2023-04-29

بعد مرور ثلاثة أيام على اندلاع القتال المسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في السودان، استجابت وزارة الخارجية الإسرائيلية بالقول إن “إسرائيل تريد استقرار وأمن السودان”، كما دعت الأطراف بوقف إطلاق النار. 

وأشارت وسائل الاعلام الإسرائيلية مثل “يسرائيل هايوم” وصحيفة “يديعوت احرونوت” إلى أن هناك وفود إسرائيلية تشارك في مساعي تهدئة ووساطة بين الأطراف المتقاتلة في السودان.

قبل اندلاع الأزمة، دخل السودان في دائرة تطبيع جديد يسمى بالتطبيع الابراهيمي. نجحت إسرائيل في توقيع اتفاق ابراهيمي مع الامارات والبحرين اللتان تطلان على الخليج العربي، والمغرب التي تطل على مضيق جبل طارق أقصى نقطة في البحر المتوسط، وتعمل إسرائيل على ترسيخ الاتفاق الموقع مع السودان الذي يطل على البحر الأحمر.

لذلك يدور البحث حول الحسابات الجيواستراتيجية الإسرائيلية في البحر الأحمر، وعلاقتها بالتطور الحاصل في السودان مؤخرا.

الطموح الجيواستراتيجي الإسرائيلي في البحر الأحمر
لم يعد يقتصر البحر الأحمر بكونه ممرا ملاحيا تجاريا في منطقة الشرق الأوسط، بل تعداه ليكون ممرا استراتيجيا يربط البحر المتوسط بالمحيط الهندي. ومسرحا مهما لعمليات القيادة المركزية للجيش الأمريكي “سنتكوم” الذي يتألف نطاق عملياته: “الشرق الأوسط، آسيا الوسطى، جنوب آسيا.” 

ترغب إسرائيل في تتبع هذا المسار الجيوسياسي الجديد أي الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وجنوب آسيا من خلال عقد علاقات جديدة مع دول تلك المنطقة. وهو ما يفسر (أ) ظهور المنتدى الرباعي الذي يعرف بـ I2U2 والذي يضم الامارات والهند وإسرائيل والولايات المتحدة. (ب) كما يفسر التقارب بين إسرائيل ودول آسيا الوسطى آخرها دولة تركمنستان. (ج) كما يفسر المساعي الإسرائيلية بعقد اتفاق تطبيع مع الدول الآسيوية المسلمة في جنوب آسيا. 

يتخلل هذا السياق، مشهد صراعي يجمع إسرائيل وإيران في إطار من حروب الظل بين الطرفين، جعل البحر الأحمر مسرحا لهذا النوع من الحروب. إذ اشتكت إسرائيل على لسان وزير الدفاع بيني جانتس أن إيران تعتزم إنشاء قيادة عسكرية لها في البحر الأحمر لتهديد دول المنطقة، وتعرضت السفن الإسرائيلية وكذلك الأمريكية إلى هجوم إيراني سواء كانت السفن تجارية أو حاملات نفط. 

تتخطى أهمية البحر الأحمر لدى إسرائيل البعد الأمني، واعتباره خاصرة استراتيجية لأمنها القومي الذي يتعرض لحوادث خلل قد يعرضها لهجوم صاروخي في إطار حروب الظل مع إيران. بل تقفز أهمية البحر باعتباره إقليما قد يشهد تطور العلاقات الاقتصادية بين إسرائيل والدول الخليجية الطامحة لاستقطاب كبرى الشركات العالمية في مجال التكنولوجيا الفائقة.

توضح الخريطة السابقة خط الاتصالات البحري (كابل بحري) الخاص بشركة جوجل “خط بلو رامان” وهو عبارة عن جزئين اثنين الأول هو “بلو” الذي يربط إيطاليا واليونان وإسرائيل من جهة شرق المتوسط والثاني هو “رامان” الذي يربط إسرائيل بالأردن والسعودية من جهة منطقة (نيوم) ثم سلطنة عمان لينتهي في الهند (التي دخلت في اتفاق سياسي يسمى هندو-ابراهيمي) مع إسرائيل والإمارات والولايات المتحدة، سيتم إعلان الانتهاء من هذا الخط في عام 2024.

تجدر الإشارة إلى أن مصر (حسب البيانات الرسمية) ستعلن في عام 2023 عن إطلاق خطة المسار الدائري الافريقي الهجين (Hybrid African Ring Path (HARP)) وهو نظام جديد تحت سطح البحر يرسم ملامح القارة الأفريقية، ويشكل شكل قيثارة. وسيوفر هذا المشروع خدمات اتصال سلسة للقارة الأفريقية من خلال دمج المشروعات الحالية والمخططة للشركة المصرية للاتصالات، باعتبار مصر مركزا عالميا يمر من خلاله شبكة واسعة من الكابلات البحرية.

في حال نجاح إسرائيل في استقطاب شبكة وافرة من الكابلات البحرية لكبار الشركات التكنولوجية متعددة الجنسيات لتصبح رقما مهما (لا يصل إلى منافسة مصر حتى الآن خاصة بعد تخفيف رسوم المرور) في نقاط التمركز الإقليمية لشبكة الكابلات البحرية في الشرق الأوسط (خاصة أنه يأتي بدعم جهات فاعلة إقليمية وعالمية قوية)، بشرط:

 (أ) أن يتم دمج إسرائيل في شبكة علاقات خليجية قوية من بينها المملكة السعودية (التي تطمح هي الأخرى لخطط رقمنة والتحول إلى مركز إقليمي في الشرق الأوسط). وهو ما يفسر حرص إسرائيل على التطبيع مع الدولة الخليجية الأكبر في شبه الجزيرة العربية.

(ب) حماية البنية التحتية التكنولوجية المتمثلة في الكابلات البحرية التي تمر في البحر الأحمر، وكذلك البنية التحتية الكهربائية (في حال الوصول إلى مشاريع ربط كهربية إسرائيلية-خليجية)، من أي هجمات معادية وعلى رأسها إيران؛ وهو ما يعد أحد الأسباب التي دفعت الرياض للتطبيع مع إيران هو الحفاظ على البنية التحتية التكنولوجية السعودية مستقبلا.

ومن أجل أن تنجح إسرائيل في حماية مصالحها في البحر الأحمر إما كانت بنية تحتية، أو ممرات ملاحة تجارية، أو النفاذ إلى أسواق جديدة في المنطقة، فكان لزاما أن تجد لنفسها نقاط تمركز جديدة تتناسب مع مقدراتها الحالية. من بين هذه النقاط الجديدة هي شرق السودان؛ وهو ما يفسر سبب اهتمام إسرائيل بالوضع العسكري لمنطقة الشرق السودان والموقف من إقامة قواعد عسكرية جديدة خاصة القاعدة الروسية.

من ناحية أخرى، تحتاج إسرائيل إلى تأمين خطوط ملاحية جديدة لها في البحر الأحمر من أجل اختراق أسواق أفريقية وآسيوية جديدة من خلال البحر الأحمر.

ومن أجل تحقيق الأمن التجاري لهذا الطموح الإسرائيلي، يتطلب ذلك (أ) تنويع سلاسل التوريد. (ب) تنوع طرق الإبحار والملاحة. (ج) ضمان الربط البحري بين الموانئ الإسرائيلية المطلة على البحر المتوسط وميناء إيلات المطل على البحر الأحمر. (د) ضمان الربط البحري بين ميناء إيلات والموانئ الإقليمية المطلة على البحر الأحمر. 

تفسر النقطتان الأخيرتان فيما سبق على سعي الحكومات الإسرائيلية إقامة خطوط سكك حديد وطرق برية بين ميناء أشدود وميناء إيلات، فرغم غياب جدواه الاقتصادية إلا أنه ينبع من جدوى سياسية وأمنية مهمة لدى الجانب الإسرائيلي.

ولكن يتبقى لإسرائيل قياس الوضع الأمني في البحر الأحمر، باعتباره منفذ تجاري جديد لإسرائيل ليس في أوقات الأزمات فحسب، بل منطقة استراتيجية هامة في السياسة الخارجية لإسرائيل وتخطيطها الاستراتيجي.

مفهوم السيطرة البحرية لدى إسرائيل
يتطلب تحقيق الطموح الجيواستراتيجي الإسرائيلي في البحر الأحمر مجموعة من الضمانات العسكرية، وهو ما يستدعي السؤال حول المقدر العسكري الإسرائيلي حاليا.

يواجه الجيش الإسرائيلي مجموعة ضخمة من التحديات، سواء على مستوى التحديات الأمنية المتعلقة بتعدد جبهات الحرب التي تطوق إسرائيل تقريبا، إذ تعرضت السفن الإسرائيلية لهجمات إيرانية في باب المندب وخليج عمان. أو على مستوى التحديات الفنية العسكرية مثل: (أ) عدد القطع العسكرية البحرية التي تملكها إسرائيل. (ب) تقتصر القدرات اللوجستية للجيش الإسرائيلي على استمرار العمليات داخل إسرائيل نفسها أو في المناطق المجاورة مباشرة. 

أولا: سلاح البحرية الإسرائيلية (القطع العسكرية)
تمتلك إسرائيل خمس غواصات (عدد 3 قطع من طراز دولفين، و2 من طراز تنين الأكثر تطورا).
تمتلك إسرائيل سبع فرقاطات (عدد 2 من طراز ساعر 5 مزودة ببطارية دفاع جوي باراك-1، وقطعة واحدة من طراز ساعار 5 مزودة ببطارية دفاع جوي باراك-8 الأكثر تطورا من سابقتها، و4 قطعة بحرية من طراز ساعار 6 الأكثر تطورا المزودة ببطارية سي-دوم المعدلة من نسخة القبة الحديدية).
تمتلك إسرائيل عدد 8 قطع فرقاطات من طراز ساعار 4.5 مزودة ببطاريات دفاع جوي من طراز باراك-1.
يحتل سلاح البحرية الإسرائيلية المركز 44 عالميا.
ثانيا: تطور مفهوم التفوق البحري
تمتلك إسرائيل حدودا طويلة تطل على البحر المتوسط، بما يفسر اعتبار التجارة البحرية في الاقتصاد الإسرائيلي ذات أهمية استراتيجية كبيرة، دفع الجيش الإسرائيلي بالتركيز على تطوير السلاح البحري.

ولكن واجه هذا التطور عقبات عدة كانت أهمها التطور الذي شهدته مذكرة التفاهم الموقعة بين إسرائيل والولايات المتحدة في 2016، والتي قلصت احقية إسرائيل في استغلال التمويل الأمريكي للصناعات العسكرية الإسرائيلية بتشغيل شركات التطوير العسكري الإسرائيلية.

لم تتأذى شركات التطوير العسكرية الإسرائيلية الكبرى مثل أبيت، وشركة IAI كثيرا من تلك المتغير الأخير، بقدر ما تضررت الشركات الإسرائيلية متوسطة الحجم والعمالة. صادف أن تلك الشركات المتضررة تختص بالصناعات المتعلقة بالأسطول البحري الإسرائيلي، مما دفع الجيش الإسرائيلي للضغط على الحكومة الإسرائيلية باستمرار التباحث مع البنتاجون من أجل تطوير الصناعات العسكرية البحرية، انتهى هذا الضغط في نجاح تطوير وتعديل القبة الحديدية وصناعة نسخة بحرية يمكن تنصيبها على السفن الإسرائيلية خاصة الفرقاطة ساعار 6.

ولكن، لم يمنع ذلك الجيش الإسرائيلي من استمرار تطوير مفهوم التفوق البحري في المنطقة خاصة في منطقة البحر الأحمر التي يعد إقليما مهما لترسيخ الاندماج الإسرائيلي مع الدول الخليجية.

دخل على التفكير الاستراتيجي في العسكرية الإسرائيلية عدم مفاهيم استراتيجية في إطار القوة البحرية، كان أولها “الضربة البحرية”: ولكن احتاج هذا المفهوم استثمار إسرائيلي ضخم في تعظيم قوة سلاح البحرية. ثم استبدل إلى مفهوم “مراقبة البحار” ولكنه يتطلب الحضور الدائم في أعالي البحار على غرار مفهوم “قيادة البحار” الذي تتبناه الولايات المتحدة في البحار الاستراتيجية من خلال عدة أساطيل.

ثم انتهى إلى اعتقاد إسرائيل (من خلال رصد مقالات المسؤولين العسكريين الحاليين في الجيش الإسرائيلي) بأهمية مفهوم “السيطرة البحرية”، ولكن بأساليب وتكتيكات جديدة تختلف عن التعريف الكلاسيكي للمفهوم قبل حرب أكتوبر 1973، إذ لا يعني التفوق البحري الحضور العسكري الدائم في البحار، بل باتباع تكتيكات جديدة.

حسب الأدبيات المتعلقة باستراتيجيات التفوق البحري العسكري، يمكن تمييز خمس أنواع من السيطرة البحرية، وهي (أ) السيطرة المطلقة. (ب) السيطرة على العمل البحري. (ج) السيطرة على البحر المتنازع عليه. (د) السيطرة الفعلية على العدو في البحر. (ه) السيطرة المطلقة على العدو في البحر. 

ثالثا: تكتيكات إسرائيل في البحر الأحمر
أعلن الجيش الإسرائيلي أنه يستعد لسيناريو تدهور الأوضاع الأمنية البحرية، في ظل الوجود الإيراني بالبحر الأحمر (23 إبريل 2023). ولاحقا كانت قد رفعت إسرائيل درجة التأهب العسكري في البحر الأحمر.

تدرك إسرائيل أنها بحاجة إلى أدوات عسكرية غير تقليدية بغرض الوصول إلى سيطرة فعلية على حركة العدو في مسرح البحر الأحمر، وحماية مصالحها فيه. لذا لجأت إلى ثلاثة تكتيكات رئيسية حتى وقتنا هذا، وهي:

تطوير أسلحة نوعية
تبنت إسرائيل التطبيقات العسكرية للذكاء الاصطناعي في البحر الأحمر، عبر تطوير سفن وغواصات مسيرة، يمكنها تنفيذ مهام متعددة سواء كانت هجومية، أو للتجسس.

انضمت إسرائيل إلى القيادة المركزية التابعة للجيش الأمريكي “سنتكوم”، وهو ما منح إسرائيل فرصة التعرض والاحتكاك للتكنولوجيا العسكرية الأمريكية، وخاصة تلك الملحقة بالقوة 59 التابعة للاسطول الخامس.

تعد القوة الامريكية الجديدة (القوة 59) هي فرقة ابتكار عسكرية مسؤولة عن تطوير قدرات ذكاء اصطناعي، مثل صناعة السفن المسيرة (روبوتات بحرية عسكرية)، وتم إطلاق أول قطعتين عسكريتين هما “ديفيل راي تي-38 T-38 Devil Ray” و”سيل درون اكسبلورر”.

من ناحية أخرى، في نوفمبر 2021، وقعت مجموعة “إيدج” الإماراتية اتفاقية استراتيجية مع شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية، المتخصصة في الفضاء والطيران، لتطوير سفن متقدمة مسيرة. وتدور الاتفاقية حول التصميم المشترك لسلسلة من السفن المسيرة القابلة للتعديل من فئة 170-m وتعد الأفضل في فئتها ويمكن استخدامها للنطاق الكامل من التطبيقات العسكرية والتجارية.

وبينما تتولى شركة أبو ظبي لبناء السفن إنشاء المنصة، والعمل على دمج أنظمة التحكم والحمولة وتطوير المفهوم العملياتي، ستطور الشركة الإسرائيلية نظام التحكم المستقل وتدمج حمولات المهام المختلفة في وحدات نظام التحكم وفقاً لمتطلبات تلك المهمات.

المناورات
أجرت إسرائيل بين عامي 2021 و2022 ست مناورات بحرية مهمة في نطاق البحر الأحمر، سواء مع الولايات المتحدة أو مع دول عربية وأوروبية أخرى. كان أهمها مناورة الدرع الرقمي بين الجيشين الإسرائيلي والأمريكي (سبتمبر 2022) ويعد التدريب هو الأول من نوعه الذي يجمع قطع بحرية إسرائيلية وقطع بحرية مُسيرة غير مأهولة تتبع القوة 59 من الأسطول الخامس الأمريكي. ويمثل التدريب متغيرًا جديدًا في العلاقات العسكرية الإسرائيلية الأمريكية التي تنعكس في تفاعلات الإقليم خاصة في البحر الأحمر.

تستهدف إسرائيل من خلال تكثيف وتيرة المناورات في البحر الأحمر وخاصة مع الجانب الأمريكي، عدة أهداف أساسية وهي:

بسبب فقدان القدرة اللوجستية على استمرار عمليات إسرائيلية في مناطق بعيدة، فكان الهدف من المناورات هو تعزيز القدرة اللوجستية في مناطق العمليات البعيدة سواء التزود بالوقود أو الدعم العسكري.
دمج التطبيقات العسكرية للذكاء الاصطناعي مع العمليات العسكرية التقليدية.
توسيع مديات العمل العسكري، ودمج سيناريوهات مختلفة تحاكي ضرب أهداف العدو بالطائرات والصواريخ والسفن.
ترسيخ حضور عسكري نوعي
تستهدف إسرائيل من خلال اتفاقات التطبيع الابراهيمي (خاصة مع الامارات) إقامة شبكة قواعد لوجستية في البحر الأحمر وخليج عدن. فحسب ما جاء في موقع “ساوث فرونت” الأمريكي المتخصص في البحث العسكري والاستخباراتي في سبتمبر 2020، أن الإمارات وإسرائيل تعتزمان إقامة منشآت عسكرية واستخباراتية جديدة في جزيرة سقطرى.

كما أكد موقع “انتل لاب” الأمريكي المتخصص في المعلومات الاستخباراتية اعتماد الامارات على خبراء إسرائيليين لإنشاء قواعد عسكرية في اليمن من جهة خليج عدن في عمل استراتيجي موجه ضد إيران.

تشير القراءات الاستراتيجية الإسرائيلية الصادرة من مسؤولين كبار في الجيش الإسرائيلي إلى ضرورة إنشاء قاعد لوجستية في البحر الأحمر من جهة السودان. وهو ما يفسر سعي إسرائيل لتسريع عجلة التطبيع مع السودان. 

التطبيع مع السودان: مرحلة مجمدة
وقع رئيس المجلس السيادي في السودان عبد الفتاح برهان مع رئيس الحكومة عبد الله حمدوك وثيقة اتفاق تطبيع مع إسرائيل في أكتوبر 2020، ليصبح السودان رابع دولة ضمن دول التطبيع الابراهيمي بعد الامارات والبحرين والمغرب.

ولكن ظلت هذه الوثيقة حبيسة الأدراج، غير مفعلة، لدواع سياسية واجتماعية معقدة في الداخل السوداني، دفعت الشارع السوداني للاعتراض على التطبيع مع إسرائيل بشرط حل القضية الفلسطينية. 

ولكن عبر القنوات السرية، استمرت الاتصالات مفتوحة بين إسرائيل والمسؤولين السودانيين سواء من جهة عبد الفتاح برهان، أو من جهة محمد دقلو قائد قوات الدعم السريع. يستدل على ذلك من خلال (أ) زيارة وزير خارجية إسرائيل “إيلي كوهين” إلى الخرطوم ولقائه البرهان بغرض تفعيل اتفاق التطبيع في إطار من الشراكة الاقتصادية في مجالات الطاقة والزراعة كأولوية أولى. ويعود سبب ذلك إلى إدراك إسرائيل أن اختراق المجتمع السوداني واستمالة موافقته على التطبيع يبدأ من المنفعة الاقتصادية والتأثير في مستوى معيشته.

(ب) فيما زار محمد دقلو إسرائيل والتقى مع ضباط من جهاز الموساد الإسرائيلي أكثر من مرة؛ للحصول على اعتراف إسرائيلي يكسب بها شرعية تسمح له بطرق أبواب العاصمة الأمريكية، ولكنه لم يلبث أن بدأ المناورة بزيارته العاصمة موسكو والشروع في تقارب سياسي واقتصادي وأمني مع روسيا، يشير فيه إلى الموافقة على إنشاء قاعدة عسكرية روسية على البحر الأحمر.

حسب القراءات الإسرائيلية الأولية، تقول إنه يبدو إن التطبيع الإسرائيلي مع السودان دخل مرحلة التجمد مرة أخرى؛ بسبب الصراع الأهلي الدائر بين البرهان ودقلو.

تزخر التقديرات بقراءة المصالح الإسرائيلية في السودان، مثل: (أ) تحييد بلد عربي كان طرف رئيسي في خدمة مصالح حركة حماس في مقاومته لإسرائيل، يزيد في ذلك تنامي التعاون والتنسيق مع إيران وخدمة نشاطه في شرق أفريقيا أو البحر الأحمر. (ب) زيادة التعاون التجاري والاقتصادي في مجالات الطاقة، والزراعة، وإقامة مشاريع تربط السودان بإثيوبيا (البلد الحبيس). (ج) اعتبار السودان بوابة استراتيجية لدول الصحراء مثل تشاد، والنيجر، ومالي، التي تود إسرائيل إقامة علاقات كاملة معها.

تراهن إسرائيل على المكون العسكري في السودان، لاعتبارات عديدة أهمها: (أ) التفهم بضرورة التقارب مع إسرائيل وتضمين علاقات عسكرية وأمنية مشتركة؛ بهدف تقوية الجيش وتحييد الأخطار الأمنية غير التقليدية. (ب) عدم رغبة المكون المدني في السودان على عقد علاقات طبيعية شاملة مع إسرائيل دون تقديم حل نهائي للقضية الفلسطينية. 

ينقسم المكون العسكري في السودان إلى جناح عبد الفتاح البرهان القائد الأول للجيش السوداني، وجناح محمد حماد دقلو قائد قوات الدعم السريع. يتميز الأخير بعدة اعتبارات مهمة لدى إسرائيل، وهي: (أ) اقترابه من المكون المدني عنه مقارنة مع عبد الفتاح برهان. (ب) اقترابه من ملف تنمية شرق السودان الإقليم المطل على البحر الأحمر.

لذلك تسعى إسرائيل من خلال المكون العسكري السوداني بجناحيه الاثنين تسريع التطبيع والبدء في إقامة نقاط تمركز عسكرية إسرائيلية على البحر الأحمر.

تقييم المساعي الإسرائيلية
لا تقف إسرائيل أمام مسار خالي من العقبات في ملف ترسيخ الحضور الجيواستراتيجي في البحر الأحمر، يمكن تقييم أهم العقبات فيما يلي:

أولا: القضية الفلسطينية وسياسات الحكومة اليمينية

تعتمد إسرائيل على السائقين العرب في خطوط النقل البرية والسكك الحديدية، وهو ما يعرض الاقتصاد الإسرائيلي لخطر احتمال حدوث إضراب عمالي بين هذه الشريحة في أوقات الازمات الخاصة بتوتر فلسطيني-إسرائيلي، أو متعلق بسياسات يمينية ذات تأثير سلبي على قطاع البدو الفلسطيني في صحراء النقب الذي تقع فيه مشاريع النقل واللوجستيات المستقبلة الرابطة بين أشدود وايلات.
تعرض مشاريع الربط اللوجستي بين شمال وجنوب إسرائيل للهجمات الصاروخية المحتملة من الفصائل الفلسطينية في أوقات الطوارئ.
تأخر اندماج إسرائيل في التشكيلات العسكرية الإقليمية، مثل عدم انضمام إسرائيل إلى القوة البحرية المعروفة ايجازا باسم “سي تي أف 153” تعمل تحت مظلة القيادة الوسطى في الجيش الأميركي في نطاق البحر الأحمر.
تعرض البنية التحتية الإسرائيلية من بينها الموانئ لهجمات سيبرانية متفرقة، مما يتسبب في خسارتها اقتصاديا.
حدوث اضطرابات مجتمعية حادة بين الإسرائيليين نتيجة السياسات اليمينية لحكومة نتانياهو، والتي تفجر موجات من الإضرابات والتأثيرات السلبية على الاقتصاد مثل هروب الاستثمارات في مجالين اثنين حيويين هما: قطاع البنية التحتية، والتكنولوجيا الفائقة.
ثانيا: غموض العلاقة بين إسرائيل والمكون المدني في السودان

أصبحت تتبنى الولايات المتحدة في إطار إعادة تموضعها في الشرق الأوسط على المكونات المدنية في دول الإقليم. وهو ما يفسر سرعة الولايات المتحدة إيفاد إسرائيل بضرورة فتح اتصال مع المكون المدني في السودان وعدم اقتصار العلاقة على المكون العسكري فقط (عبد الفتاح البرهان، ومحمد حميدتي).
يتبدى رفض شعبي واسع داخل السودان إزاء حدوث أي تقارب سياسي أو المضي في علاقات طبيعية مع إسرائيل في الوقت الراهن. وهو ما يفسر تبني إسرائيل في تلك المرحلة على المقاربة الاقتصادية في علاقتها بالسودان التي تعتمد على الزراعة كأولوية أولى.
المسارات المحتملة للحكومة الإسرائيلية
يمكن تقدير أبرز المسارات الممكنة والمحتملة من قبل الحكومة الإسرائيلية الحالية، وهي:

استمرار الحرص الإسرائيلي على إنجاح عرض الوساطة بين جناحي المكون العسكري المتحارب في السودان.
سعي إسرائيل لعقد اتصال سري مع المكون المدني في السودان قد تبدأ مع الجماعات السياسية في شرق السودان، من أجل الضغط على المكونين العسكريين المتحاربين. كذلك التمهيد لكسب قبول شعبي سوداني تجاه التطبيع مع إسرائيل.
من المحتمل أن تسعى إسرائيل لعقد اتصالات إسرائيلية-خليجية-أمريكية من أجل استئناف تفاهمات حول إقامة تشكيل أمني إقليمي في البحر الأحمر. 
سعي إسرائيل لعقد تنسيق مشترك مع الامارات للبدء في مرحلة وساطة بين الجناحين العسكريين المتحاربين في السودان.
ختاما، يمكن القول إن السودان يمثل نقطة استراتيجية مهمة في حسابات إسرائيل الجيواستراتيجية في الإقليم وبالتحديد في البحر الأحمر؛ لعدة اعتبارات من أهمها صياغة تحركات عسكرية إسرائيلية في البحر الأحمر، وإقامة مشاريع اقتصادية ضخمة تُمكّن إسرائيل لأن تتحول مركزا إقليميا مهما.

المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية