بقلم: عزمي بشارة
اجتمعا، الذهول وعاصفة المشاعر الناجمة عن مباغتة المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري ليس الغرور الإسرائيلي فقط، وإنما أيضًا الإحباط العربي، فصعّبا الكتابة غير العاطفية عن "طوفان الأقصى" والعدوان الذي تلاه على غزّة. وما من شك في أن ذلك اليوم سوف يحفر في ذاكرة جيل الشباب صورةً مختلفةً عن تفوّق المحتلّ وكرامة ضحاياه تحت الاحتلال وخيارات مقاومة الظلم.
مرّت الأيام الأولى، واستفاق الاحتلال من الصدمة بشقّ النفس، وبات المسؤولون الإسرائيليون يتسابقون إلى إعلان ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية في غزة، وعزمهم على ارتكاب غيرها جهارًا، ويتنافسون في تجاهل إعلان الأمين العام للأمم المتحدة إن فرض الحصار الكامل، بما في ذلك قطع الماء والكهرباء، منافٍ للقانون الدولي الإنساني. لم يعد قطع الماء والدواء والغذاء سلاحا مقبولا في الحروب منذ العصر الوسيط، ولكن إسرائيل اعتادت وعوِّدت على أنه يحقّ لها ما لا يحقّ لغيرها.
شكّل هجوم كتائب عز الدين القسام يوم 7 أكتوبر على معسكرات وبلدات ما يُسمّى غلاف غزّة (ترجمة عن مصطلح "عوطيف عازه" العبري) منعطفًا في المواجهة بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، وذلك على مستوى التخطيط والتنفيذ والقوة والصورة. وسوف ينشغل الناس طويلًا بتحليل آثارها. لم تُنسَف، في صبيحة ذلك اليوم، تحصينات إسمنتية فحسب، بل أيضا حصون فكرية من الأفكار التنميطية المُسبقة.
سمح الإسرائيليون لأنفسهم بالاسترخاء، على الرغم من أن أكثر من مليوني إنسان من أهل البلاد الأصليين يرزحون على مرمى أبصارهم تحت وطأة حصارٍ خانقٍ وغير إنساني وغير قانوني طوال عقدين، ومع أن حكومتهم اليمينية المتطرّفة عمّقت تواطؤها مع الاعتداءات على المسجد الأقصى، حتى افتضح أمر ضلوعها في عملية تقسيم زماني للصلاة فيه، وعلى الرغم من تصعيد اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين وممتلكاتهم في الضفة الغربية ونوايا حكومتهم ضم أجزاء من الضفة الغربية. لا يحقّ لهم أو لغيرهم أن يفاجأوا أو يصدموا من رد الفعل الفلسطيني. وعملية حساب الذات الإسرائيلية في هذا الشأن جارية، لكنها لن تجيب عن هذا السؤال، أو تقود إلى الاستنتاجات الصحيحة بشأن واقع الاحتلال وعلاقة الشعب المُحتل بذلك الواقع تحت الاحتلال، بل عن أسئلةٍ مثل: من هو المسؤول عن الفشل الاستخباري؟ ولماذا لم تتوفّر قوات إسرائيلية كافية؟ ولماذا تأخرت في الوصول؟
أما المفاجأة من قدرات المقاومة في قطاع غزّة على إنتاج الوسائل والأدوات وتهريب مُركّباتها في ظل حصار خانق في قطاع ضيّق مكشوف ومراقَب وأرضه مستوية، لا جبال فيها ولا وديان، فهي لم تقتصر على الإسرائيليين، بل طاولت العرب والفلسطينيين. من لم يفاجأ هو من توفّرت لديه المعلومات. فمثلا، كل من تجاوز رومانسية التحليق بالطائرات الشراعية فوق الحصار، يتساءل عن صناعتها وصناعة غيرها والتدرّب على هذا كله، وعن عدد الأنفاق ونوعها. وبغضّ النظر عن اختلاف المواقف وتعدّد المشارب، وحتى العداوات، من حقّ الفلسطينيين، والعرب عمومًا، أن يشعروا ببعض الفخر والثقة بالنفس، بعدما تبيّن ما يمكن تحقيقُه بالدأب والاجتهاد والعزيمة والقدرة على الخيال التي أظهرها المقاومون في ظروفٍ مستحيلة كهذه.
نعود إلى موضوعنا. شنّت إسرائيل الحرب، فليس ما يجري مجرّد عملية عسكرية. وهي تعلن جهارًا أنها ترتكب جرائم ضد الإنسانية، وأنها سوف تواصل ذلك بشدّة وعلى نطاق أوسع. وهي تقوم بعملية تدمير شاملة لمدنٍ ومخيماتٍ في قطاع غزّة الذي يمكن أن يوصَف بأنه أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، وأكبر مخيم لاجئين، وأكبر معسكر اعتقال. صحيحٌ أنها تفعل ذلك محاوِلةً طمس ذاكرة مقاطع الفيديو (التي أكثرَت المقاومة من نشرها)، واستعادة هيبتها أمام شعبها وأمام العرب، سواء أكانوا خصومًا أم مطبّعين، بنشر الموت والدمار في غزّة، ولكن ثمة ما هو أبعد من هذا. ففي القصف المتواصل بعد نفاد الأهداف تعبير عن ارتباك وتردد بشأن الفعل بعد رد الفعل. فالقصف المدمّر الشامل يحجب أيضا عدم توفر خطة تتضمّن الأهداف والوسائل اللازمة لتحقيقها. ويشجع الضوء الأخضر الأميركي والأوروبي إسرائيل على المضي في ذلك من دون حساب. وإضافة إلى الارتباك بشأن الخطّة والهدف، يهدف القصف الشامل إلى دق إسفين بين فكرة المقاومة والشعب بمضاعفة تكلفة المقاومة والثمن الذي تجبيه إسرائيل من أهالي غزة.
ويعبّر القصف الشامل والتعامل مع الفلسطينيين بوصفهم حيواناتٍ بشريةً في قفص كبير، والتهديد بحرمانهم من الماء والغذاء، عن عنصرية سافرة، فحين وصف وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت الفلسطينيين بـ"الحيوانات البشرية"، لم يفلت التعبير في نوبة غضب، بل هو يعتقد ذلك فعلًا، ويتصرّف على أساس هذا الاعتقاد. وقد سنحت الفرصة للتعبير "شرعيًّا" عن هذا الاعتقاد على خلفية الصدمة والغيظ غير المكتوم والتضامن الغربي غير المشروط مع إسرائيل كأنها تعرّضت إلى "11 سبتمبر" جديد.
فماذا بعد؟ إذا استمرّت حرب الإبادة والقصف الهمجي في تدمير عمران غزّة، وصولا إلى التصريح بأن "المهمة أنجزت"، وإذا خرج بعد ذلك قائد قوات القسّام على الناس مؤكدا أن الحركة قائمة حيّة ترزق، وأن المقاومة سوف تتواصل، سيكون بإمكانه أيضا إعلان فشل العدوان والبناء على ما حصل في 7 أكتوبر. أليس هذا بالضبط ما حصل في لبنان عام 2006 بضحايا أقلّ بكثير من الإسرائيليين؟ سوف تُشكَّل لجنة تحقيق رسمية، وسيُحاسب نتنياهو وحكومته على غفلتهما وغفلة أجهزة الاستخبارات. وسوف تشتعل الاحتجاجات المطالبة بمحاسبة حكومةٍ يمينيةٍ بلا عسكريين غطّت في النوم في أثناء الحراسة؛ وسوف يُقال إن "السيوف الحديدية" أخفقت، لأن إسرائيل بعد عملية طوفان الأقصى والردّ "المُزلزل" عليها عادت إلى المربّع الأول.
يدّعي بعضًهم أن الاجتياح البرّي لإنهاء سيطرة حركة حماس على قطاع غزّة هو الحلّ لـ"معضلة غزة". لكن كيف؟ لم تكن لدى الأجهزة الإسرائيلية فكرة عن قدرات المقاومة وما تخطّطه قبل يوم 7 أكتوبر، فهل تعرف ماذا ينتظرها إذا قامت بالاجتياح البرّي أو بعمليات كوماندوز متقدّمة داخل قطاع غزّة في مناطق تشكّ فيها بوجود بنيةٍ تحتيةٍ أو توجد فيها قيادات المقاومة؟ الجواب هو لا. ولذلك من يتّخذ هذا القرار يُقدم على مجازفةٍ كبرى، قد تُكلّفه حياته السياسية وحياة جنودٍ كثيرين. من هنا تجري المفاوضات لتشكيل إما حكومة طوارئ أو حكومة وحدة وطنية، ليتحمّل الجميع مسؤولية القرار الذي قد تُقدم عليه حكومةٌ كهذه. وقد يقود الأمر في النهاية إلى عملية على الأرض لم يحدد نوعها.
ليس في جعبة القيادة الإسرائيلية مخرج من المأزق حتى الآن. وإذا لم تنجح بإنجاز أهدافها في عمليةٍ خاطفةٍ لا يسمع عنها الناس إلّا بعد انتهائها، وهذا غير مرجّح، فسوف تستمرّ الجريمة الجاري تنفيذها بغطاءٍ أميركي - أوروبي. والانطباع هو أن إسرائيل لن تقبل بانتهاء الحرب والعودة إلى المربّع الأول، وهي في هذه المرحلة مثل وحش جريح وخطير، يجب فعل كل شيء لتقييد يديه من القيام بحرب إبادةٍ وتهجير.
تبقّت ملاحظتان. الأولى: يتصرّف الساسة ووسائل الإعلام الرئيسة في الغرب وكأنه لا وجود لفلسطينيين أو عرب مدنيين. إنهم حيواناتٌ بشرية، أو حتى بشر تشملهم الإنسانية، سمِّهم ما شئت! لكنهم ليسوا مدنيين، فالمدنيون الأبرياء هم الإسرائيليون. لا تُظهِر شاشات وسائل الإعلام الغربية الرئيسية معاناة المدنيين الفلسطينيين وخسائرهم، ولا تذكر مؤسّساتها الحاكمة في أوروبا والولايات المتحدة، فضلًا عن روسيا والصين اللتين لا تتشدّقان بحقوق الإنسان ولا تمارسانها، إصابات النساء والأطفال الفلسطينيين في أثناء هذه الغارات، فضلا عن التعامل معهم بوصفهم أفرادًا لكل منهم عالمه؟ والحديث حتى الآن، وأقول حتى الآن، عما يقارب الألف من الشهداء من المدنيين الفلسطينيين. وإذا سُمح لإسرائيل أن تواصل ما ترتكبه من مجازر، فقد يصل العدد إلى الآلاف. المدنيون هم فقط أولئك الذين كانوا يحتفلون ليلة ذلك السبت بالقرب من معسكر اعتقال كبير اسمُه غزة.
(هامش: هذا، مع تأكيدي على فداحة خطأ قتل المقاومة المدنيين أو أسرهم. إن إطلاق سراح المدنيين الذين لا أدري كيف ولماذا أسرتهم المقاومة، أو ربما غير المقاومة، ضرورة قصوى. فالشائعات عن هذا الأمر كثيرة ومضرّة، ولدى المقاومة ما يكفي من الضبّاط والجنود الأسرى لأغراض التفاوض. ووجود المدنيين، ومن بينهم أجانب، لا يزيد من قدرتها على التفاوض، بل يقلّل منها. ولا يساهم في وقف الغارات. ففي هذه المرحلة، لا يهمّ إسرائيل كثيرا قُتِل الأسرى أم عاشوا، بل هي تفضّل أن يٌقتل الأسرى خلال الحرب، وسوف تحمِّل هي وحلفاؤها "حماس" المسؤولية. ومن الأفضل الا يكون المدنيون في عهدتها، فهذا عبءٌ أخلاقيٌّ وسياسيٌّ وضررٌ استراتيجي. أدرك أن من ينتشل الأطفال الذين قضوا في همجية القصف الإسرائيلي من تحت الأنقاض ليس في مزاجٍ للخوض في هذا الموضوع، ولكن القيادة الاستراتيجية تدرك كنه الأعباء الاستراتيجية).
الملاحظة الثانية: ليس بوسع الفرد أن يتجاوز ذلك الانطباع الأولي أن الاصطفاف الرسمي الغربي إلى جانب إسرائيل من دون اعتبار لـ"تفاصيل صغيرة"، مثل الاحتلال والحصار والاستيطان والاعتداء على المقدّسات، يكاد أن يكون غريزيًّا ضمن "نحن" واحدة في مقابل "هم" (العرب، المسلمون، الشرقيون...)، وكأن "نحن" مشتركة أوروبية أميركية إسرائيلية تعرّضت إلى هجوم مباغت يوم 7 أكتوبر. ومن هنا أيضًا المقارنة مع "11 سبتمبر" مع أنه لا يوجد أي وجه للمقارنة، فحركة حماس لم تقم، منذ تأسيسها، بعملية مسلحة واحدة خارج فلسطين، وعلى أرض أخرى غير أرضها. كما أن الفلسطينيين الذين حلقوا بالطائرات الشراعية فوق الحصار وهدموا الجدران دخلوا إلى مناطق لجأ آباؤهم منها إلى قطاع غزّة، وهم يعرفون الأسماء العربية لهذه البلدات. كما أنهم يتعرّضون لحصارٍ غير إنسانيٍ وغارات إسرائيليةٍ موسمية منذ عقود. هذه المقارنة مستفزّة للغاية، وكذلك اضطرارُنا للتذكير بواقع الاحتلال، وكأن هذ التذكير تبريرٌ ودفاع عن النفس، والبدء في كل مرّة من نقطة الصفر في المحاججة، وكأننا لا نعيش في العالم نفسه.
لكي يعيش الإسرائيلي العادي حياة عادية لا بد أن يتجاهل واقع الاحتلال، وأن يقمع إدراكَه واقع طرد شعب من أرضه عام 1948 وواقع الاحتلال عام 1967. وإذا لم يفعل ذلك، سوف يكون عليه أن يودّع عادية الحياة اليومية. فواقع الاستعمار الاستيطاني والاحتلال هو حالة استثنائية ليست من العاديّة في شيء، وإدراك ذلك ينغّص عليه عيشه، فيناضل ضد الاحتلال، أو يهاجر، أو يعيش في حالة صراع، أو يتطرّف أكثر لكي يبرّر الواقع لنفسه وغيرها من الاحتمالات. لكن لا مبرّر لتجاهل صحفي أميركي أو أوروبي واقع الاحتلال حين يطالبنا بسذاجةٍ غير بريئةٍ أن ندين "الإرهاب الفلسطيني"، وكأنه في البدء كان "الإرهاب". يُصاب الإنسان بالسأم من الخوض في حوار طرشان غير بريء.