بمنطق المسافات وحسابات الجغرافيا، يبعد اليمن عن غزة نحو 3 آلاف كيلومتر، وبسبب العدوان الإسرائيلي المتصاعد، صار أقرب إلى غزة بمقياس الرصاص والمسيرات والصواريخ بعد إعلان الحوثيين دخولهم في المواجهة ودعمهم غزة من واجهتين: الأولى عسكرية، وتقوم على استهداف المدن الإسرائيلية بالمسيرات والصواريخ، والثانية اقتصادية، وتقوم على استهداف الموانئ والسفن المرتبطة بـ”إسرائيل” أو تقدم لها خدمات عبر البحر الأحمر.
جبهة جديدة في الحرب الاقتصادية
إلى جانب الحرب الدائرة في غزة، تواجه “إسرائيل” حربًا اقتصادية على أكثر من جبهة، أولها الحرب مع المقاومة الفلسطينية التي أجبرتها على استدعاء نحو 360 ألف جندي احتياط وإجلاء عشرات آلاف السكان من منازلهم في الجنوب بينما توقف الكثير من النشاط الاقتصادي هناك، أمَّا الجبهة الثانية فهي الصراع على مستوى أدنى مع “حزب الله”، الذي يتسبب في ضرر اقتصادي في الشمال.
وكانت التكلفة التي تكبدها الاقتصاد الإسرائيلي من هاتين الجبهتين كبيرة، إذ تتوقع الخزانة العامة أن ينكمش الاقتصاد بمعدل سنوي 15% في الربع الرابع، ومع منح العمال إجازة غير مدفوعة الأجر، ارتفعت معدلات البطالة إلى 9.6% في أكتوبر مقارنة بـ3.6% في الشهر السابق، ولا تزال مبيعات التجزئة منخفضة، في حين تراجعت السياحة الوافدة إلى مستويات وباء كورونا.
ومع تغيير قواعد الاشتباك في المنطقة، ودخول الحوثيين على خط الصراع، تصاعدت توترات جبهة ثالثة تمثل تهديدًا جديدًا تمامًا للاقتصاد الإسرائيلي، خاصة مع توعدهم باستهداف جميع السفن المتجهة إلى “إسرائيل” بعض النظر عن جنسيتها، وتحذيرهم جميع الشركات العالمية من التعامل مع الموانئ الإسرائيلية، وهو تهديد صريح كخنجر في خاصرة “إسرائيل” ومصالحها الاقتصادية التي تعتمد على مضيق باب المندب.
ويشكل هذا الممر البحري في البحر الأحمر أهمية بالغة للاقتصاد الإسرائيلي مع ارتفاع التجارة مع آسيا، ففي عام 2006، وصلت نحو 191 ألف حاوية بضائع إلى الموانئ الإسرائيلية من شرق آسيا، في حين وصلت 268 ألف حاوية من أوروبا الغربية، وبحلول عام 2019، كانت الأرقام 278 ألف و260 ألف على التوالي.
وتمر كل هذه البضائع تقريبًا عبر البحر الأحمر، وهو شريان رئيسي للتجارة بين البحر المتوسط والمحيط الهندي، تمر عبره 4 ملايين برميل نفط كل يوم إلى أوروبا، ونحو 25 ألف سفينة تجارية، أي ما يعادل 7% من حجم التجارة العالمية، وجذبت أهميته الحيوية تنافسًا دوليًا لإثبات الحضور فيه، حضور تعزز بعد حرب غزة وتعهدات الحوثيين بتهديد مصالح “إسرائيل” التجارية.
ومع تصعيد الحوثيين هجماتهم على السفن المرتبطة بـ”إسرائيل” في البحر الأحمر، علَّقت أكبر شركات شحن الحاويات في العالم إبحار سفنها في المناطق المضطربة، خاصة بالقرب من مضيق باب المندب، مهددة بإغلاق طريق تجاري رئيسي للواردات والصادرات الإسرائيلية من الشرق الأقصى ومرورها إلى أوروبا.
وتتصاعد المخاوف العالمية من احتمالية إعلان شركات أخرى تعليق حركة الملاحة البحرية في مضيق باب المندب، ما يعني تذبذبًا في سلاسل الإمدادات العالمية وانعكاسه على مؤشر التضخم وارتفاع تكلفة عمليات الشحن، خاصة أن الشركات التي علَّقت إبحار سفنها تشكل أكثر من 40% من سوق شحن الحاويات بحرًا حول العالم.
وهذا يمثل ضربة للاقتصاد الإسرائيلي الذي يعتمد بشكل كبير على التجارة البحرية، فوفقًا للبيانات، تصل أكثر من 98% من واردات “إسرائيل” عن طريق البحر، 40% منها من خلال البحر الأحمر عبر قناة السويس، لهذا السبب من الضروري أن تبقي الموانئ مفتوحة وتعمل بأي ثمن.
وكما أشارت وزارة الزراعة الأمريكية في تقرير عام 2022، فإن “إسرائيل” تعتمد بشكل شبه حصري على الواردات لاستهلاكها من السكر والزيوت النباتية والبذور الزيتية والأعلاف والحبوب وغيرها من المواد الخام اللازمة للصناعة الغذائية، بينما تعتمد صناعة اللحوم فيها على استيراد الحيوانات الحية، وتستورد ما يقرب من ثلاثة أضعاف ما تصدره من المنتجات الغذائية والزراعية، وتنتقل هذه البضائع عبر موانئ أشدود وحيفا.
وبالنظر إلى خريطة التجارة الإسرائيلية في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، نجد أن إجمالي الواردات الإسرائيلية من السلع بلغ 17.5 مليار شيكل، وجاء نحو 49% من الواردات من دول أوروبية و25% من دول آسيوية، مقابل 20% من صادرات السلع الإسرائيلية كانت لآسيا.
المدخل الرئيسي لهذه الصادرات والواردات هو باب المندب، وبالتالي إغلاق الطرق أمام السفن المتجهة من وإلى “إسرائيل” يعني عزلها عن آسيا، ثاني أهم شريك تجاري لها بعد أوروبا.
الموانئ الإسرائيلية خارج الخدمة
منذ انطلاق عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كانت الموانئ الإسرائيلية في مرمى النيران، وبعد يومين فقط، اضطر الإسرائيليون إلى إغلاق ميناء عسقلان الموجود ومنشأة النفط التابعة له، على بعد 10 كيلومترات من حدود قطاع غزة، وهو أكبر ميناء لاستيراد النفط في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بسبب خوفهم من تهديدات صواريخ المقاومة الفلسطينية.
اتجهت الأنظار إلى ميناء أسدود، الذي يقع على بعد 25 ميلًا فقط من تل أبيب، وهو ثاني أكبر ميناء إسرائيلي ومركز رئيسي لصادرات البوتاس والبروم، وواردات الغذاء الإسرائيلية، لكن الميناء يقع أيضًا بالقرب من حدود غزة، على بعد نحو 31 ميلًا، ومع تطاير صواريخ حماس في سماء “إسرائيل”، حرصت شركات الشحن على تجنب الوقوف في الميناء، وإرساء الناقلات وتفريغ البضائع في موانئ بديلة.
في 17 أكتوبر/تشرين الأول، كانت شركة النقل البحري التايوانية “إيفر جرين” أول شركة تقوم بتحويل سفينة تابعة لها من ميناء أسدود إلى ميناء حيفا في أقصى الشمال، مشيرة إلى “استمرار الوضع غير الآمن” وإعلان حالة “القوة القاهرة”، وإذا أعلنت المزيد من السفن هذه الحالة، فقد يؤثر ذلك على الإمدادات الغذائية لـ”إسرائيل”.
وتعرضت الموانئ الرئيسية، بما في ذلك تلك الموجودة في حيفا وأسدود، التي تتعامل مع النفط والأسمدة والمواد الكيميائية الأخرى، لقصف صاروخي خلال الحرب، وتباطأت العمليات في ميناء أسدود بسبب نقص الموظفين، حيث تم تجنيد 10% من العمال في الجيش، وعانى الميناء ضعفًا في النشاط التجاري بسبب وجوده في مرمى صواريخ المقاومة، وانخفض عدد السفن المنتظرة يوميًا في الميناء إلى أقل من 5 منذ اندلاع الحرب مقارنة بأكثر من 15 سفينة في المتوسط قبل الحرب، وفقًا لبيانات “إيفر ستريم”، وهي شركة عالمية لرسم خرائط سلسلة التوريد وتحليل المخاطر.
بهذا الشكل، حُرم الاحتلال من اثنين من أهم الموانئ الموجودة على البحر المتوسط، واضطرت السفن إلى التوجه إلى ميناء حيفا الذي يستقبل خُمس واردات الإسرائيليين من النفط، لكن استقرار هذا الميناء مرهون باستقرار الجبهة الشمالية للأراضي المحتلة مع لبنان، ويمكن لتطور الاشتباكات مع حزب الله أن يُخرج الميناء من الخدمة.
وأدَّى ارتفاع حجم التجارة البحرية، وضغطها على ميناء حيفا إلى زيادة كبيرة في قائمة الانتظار التشغيلية للسفن التي تنتظر الدخول،لكن حتى قبل هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، كانت الموانئ الإسرائيلية تعاني بالفعل من مشكلة الانتظار الطويل، ففي عام 2021، أشارت التقارير إلى أنه في بعض الحالات، اضطرت السفن إلى الانتظار لأسابيع قبل دخول الميناء مع طوابير تصل إلى 60 سفينة في نفس الوقت.
وكان للعمليات العسكرية التي ينفذها الحوثيون في البحر الأحمر ضد السفن الإسرائيلية تأثير اقتصادي كبير تسبب في توقف شبه كامل لوصول السفن إلى ميناء “إيلات” الإسرائيلي، بحسب موقع “أكسيوس” الأمريكي، وأكدت إدارة الميناء أن ضربات الحوثيين ألحقت خسائر تقدر بـ80% من مداخيل وإيرادات المركبات القادمة إلى الميناء، وهذا يعني عدم دخول أي سفينة الموانئ الإسرائيلية عبر باب المندب.
مخاطر اقتصادية
ساهم هذا الموقف بشكل ملحوظ في خنق الكيان الإسرائيلي الذي لجأ إلى طرق بديلة ربما تخفف من وطأة الهجمات الحوثية، وتحدث موقع “والا” العبري عن بدء تشغيل جسر بري من موانئ دبي إلى “إسرائيل” مرورًا بالسعودية والأردن، لكن الأردن نفى صحة ذلك، مؤكدًا أن أراضيه لن تكون ممرًا للبضائع الإسرائيلية.
ويطرح صمت بقية الدول المذكورة في التقرير أسئلة عن التواطؤ بين دول عربية والكيان المحتل، فحركة الشحن بين الإمارات و”إسرائيل” لم تتوقف منذ بداية الحرب، فيما لا تزال مواقف دول أخرى رمادية، لكن حرب غزة كفيلة بكشف حقيقتها في قابل الأيام.
وبسبب الأوضاع في بحر العرب والبحر الأحمر، تقوم شركات مثل شركة الشحن الإسرائيلية “زيم” بإعادة توجيه سفنها بعيدًا عن البحر الأحمر، وجعلها تدور في رحلات أطول حول إفريقيا، وهو التغيير الذي يضيف 13 ألف كيلومتر وما يصل إلى أسبوعين إضافيين للرحلة.
ويؤثر منع مرور السفن الإسرائيلية هناك على حركتها التجارية، ويزيد عبء التكاليف عليها، فقد أعلنت مجموعة الشحن الدنماركية “ميرسك” أنها ستفرض رسوم إضافية على شحنات الحاويات المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية، لتغطية أقساط تأمين المتزايدة اعتبارًا من العام 2024، وأوضحت أنه اعتبارًا من 8 يناير/كانون الثاني 2024 وحتى إشعار آخر، سيطبق رسم المخاطر الإضافي على البضائع المستوردة من “إسرائيل” على الحجوزات.
ومن شأن استمرار هجمات الحوثيين أن يهدد بجعل رحلات السفن التجارية من وإلى الموانئ الإسرائيلية أكثر تكلفة، فقد ارتفعت بالفعل تكلفة التأمين البحري للسفن الإسرائيلية بنسبة 250% عن غيرها من السفن التجارية، وبعض شركات التأمين لم تعد تغطي السفن الإسرائيلية، كذلك ستضيف رسوم الوقود الإضافية والأجور المزيد من الضغوط المالية على الشركات، كل هذا سيزيد من تكاليف الواردات، التي سيتم نقلها إلى المستهلك الإسرائيلي.
وتواجه السفن المبحرة إلى “إسرائيل” قفزة في علاوة مخاطر الحرب بمقدار عشرة أضعاف في الأسابيع الأخيرة، ما أضاف عشرات آلاف الدولارات إلى كل رحلة، ودفع إلى مطالبة حكومة الاحتلال بالمساعدة في ضمان استمرار وصول الواردات الحيوية.
وتعمق مخاطر التجارة الخارجية لـ”إسرائيل” القلق المتزايد من فاتورة الحرب على غزة، آخر مؤشراته إحجام المستثمرين عن المخاطرة في صفقات جديدة، فالأرقام الرسمية كشفت تراجعًا حادًا في حجم رأس المال المستثمر بنسبة 70% خلال الشهر الماضي، ليهبط من مليار دولار إلى نحو 300 مليون دولار.
ولولا ما أصاب الاحتلال الإسرائيلي من وجع لما نطق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو محدثًا زائره وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن بأن الحصار تهديد لحرية الملاحة في العالم أجمع، وكأن العالم يُختصر في مصالح تل أبيب الحيوية، بينما حياة الناس وموتهم سواء.
يضرب هذا التهويل في صميم الملاحة البحرية، وبالتالي التجارة العالمية، وغرضه الإيحاء بأن طريق السويس مقطوع بالكامل، بينما الحصار مفروض حصرًا على موانئ الاحتلال منعًا للتجارة الإسرائيلية دوليًا كما مُنع عن أهالي غزة الماء والغذاء والدواء.
تداعيات تتجاوز حدود “إسرائيل”
إن حاولت “إسرائيل” التستر على حجم الضرر، فإن الخسائر لا تخفى على مراقب بعد حظر العبور من باب المندب والبحر الأحمر مع ما يعنيه النقل البحري لعصب التجارة الخارجية، فإما وقف للصادرات والواردات مع الشرق وإما إطالة مسار السفن إلى طريق رأس الرجاء الصالح مع تكاليف كبيرة.
والواقع أن الخطورة ليست على تل أبيب وحدها، فأسواق العالم جميعها باتت تترقب ما سيجري في باب المندب، كونه شريانًا من شرايين الاقتصاد العالمي، ويأتي في المرتبة الثالثة عالميًا من حيث الأهمية بعد مضيقي ملقا وهرمز، وتمر عبره نحو 21 ألف قطعة بحرية سنويًا، أي ما يقارب 57 قطعة بحرية يوميًا.
وبلغة الأرقام، يمر عبر المضيق أكثر من 6 ملايين برميل من النفط الخام والمشتقات النفطية، معظمها في طريقها إلى أوروبا، إضافة إلى أكثر من 30% من التجارة العالمية للغاز الطبيعي، ناهيك بأكثر من 10% من إجمالي التجارة العالمية.
وليست الأسواق وحدها التي تترقب، فقناة السويس المصرية تبرز كأحد أكبر المتضررين، في وقت أجبر فيه الجفاف مشغلي قناة بنما، وهي حلقة وصل مهمة أخرى في سلاسل التوريد العالمية، على خفض عدد السفن التي يمكنها استخدام هذا الممر المائي، وتمر نحو 12% من التجارة العالمية عبر قناة السويس، و5% عبر قناة بنما.
منذ 19 نوفمبر/تشرين الثاني، جرى توجيه 55 سفينة عبر رأس الرجاء الصالح جراء التصعيد في البحر الأحمر بحسب تصريحات لرئيس قناة السويس أسامة ربيع، ومن المرجح أن يؤدي المزيد من تغيير مسارات السفن إلى الإضرار بالاقتصاد المصري، الذي عانى بالفعل من تضرر السياحة بسبب الحرب الإسرائيلية على غزة.
وتأتي حالة عدم الاستقرار بالقرب من السعودية والخليج ونفطهم، بل وحتى رؤية الرياضة المعنونة تحت 2030 ستطالها هي الأخرى رياح التغيير، خاصة مدينتها المستقبلية “نيوم” التي تتربع على رأس البحر الأحمر الذي يقف باب المندب بوابة له.
يفتح الحديث عن الممر الأمريكي الذي وُصف بـ”طريق الحرير الأمريكي”، الذي قيل إنه يأتي لتقليص أهمية قناة السويس والبحر الأحمر والمضيق، وهو الممر الذي سينطلق من جنوب أوروبا قاطعًا “إسرائيل” وأراضي الخليج وصولًا إلى الهند، وربما تتضاعف أهمية هذا الطريق الآن بعد أن بسط الحوثيون سيطرتهم على باب المندب، وجعلوه جزءًا من حرب يخشى الجميع أن تتوسع لتطال كامل المنطقة.