تلقي المخاطر الجيوسياسية في الشرق الأوسط بظلالها على الأسواق الأميركية، خاصة التوتر بين طهران وتل أبيب، وهو ما يرفع منسوب قلق الأسواق المالية العالمية وتحول التوتر الإيراني الإسرائيلي إلى حرب بين الجانبين في وقت تبدو فيه سوق المال الأميركية ضعيفة للغاية ومعرضة لخطر التراجع الأكبر في حال نشوب حرب بين الجانبين بعد ضرب تل أبيب القنصلية الإيرانية في دمشق في مطلع إبريل/ نيسان الجاري.
ووفق تقرير في موقع "زيرو هيدج" المالي الأميركي، أدت التوترات بين إسرائيل وإيران إلى ارتفاع سعر خام برنت بنحو 30% منذ ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وهو ما يفرض ضغوطاً كبيرة على عائدات السندات الأميركية وخطط مجلس الاحتياط الفدرالي (البنك المركزي) لخفض الفائدة على الدولار. ويلفت التقرير إلى أن العائد على سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 سنوات ارتفع من 378 نقطة أساس (3.78%)، إلى 440 نقطة أساس (4.4%)، في الأسبوع الجاري.
ويذكر التقرير أن مخاوف الأسواق تتركز حول حدوث أزمة في الإمدادات النفطية التي تمر عبر مضيق هرمز الذي تسيطر عليه إيران. ويطلق على مضيق هرمز مسمى "شريان الحياة للعالم الصناعي" ويعبر منه ثلثا الإنتاج النفطي الذي يستهلكه العالم. وكان الممر المائي عبر التاريخ محط صراعات دولية، وسبق إيقاف تصدير النفط منه إلى أميركا والدول الأوروبية لدعمها إسرائيل في حرب عام 1973، وبالتالي يشكل نقطة محورية للتوترات الدولية.
وعلى الرغم من أن الأزمات السياسية دفعت دول منطقة الخليج إلى التخفيف من الاعتماد عليه، إلا أنه ظل موضوع رهان استراتيجي بين الدول الكبرى، وفي قلب التوترات والأزمات في الشرق الأوسط وبقي ورقة مهمة في لعبة المناورات السياسية والنفطية والاستراتيجية.
التوتر الإسرائيلي الإيراني
ووفق تقرير لوكالة رويترز، أمس الأربعاء، ارتفعت أسعار النفط بعد تعثر محادثات وقف إطلاق النار في غزة وتجددت حالة الضبابية بشأن أمن الإمدادات البترولية من الشرق الأوسط، وهو ما محا أثر زيادة أكبر من المتوقع في مخزونات الخام الأميركية.
وخلال تعاملات أمس صعدت العقود الآجلة لخام برنت إلى 89.67 دولاراً للبرميل. وترى مصارف من بينها "مورغان ستانلي" الأميركي أن أسعار النفط تتجه للارتفاع فوق 90 دولاراً، ولا يستبعد محللون أن ترتفع الأسعار إلى 100 دولار خلال العام الجاري وسط التوتر الإيراني الإسرائيلي واحتمالات تحول الصراع بين الجانبين إلى حرب تجر الولايات المتحدة والدول الغربية المناصرة لإسرائيل إلى حرب مفتوحة.
كما صعدت العقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط الأميركي فوق 85.4 دولاراً للبرميل. وعلى الرغم من أن ارتفاع أسعار البترول ليس كبيراً حتى الآن إلا أن قلق الأسواق وخفض روسيا للصادرات البترولية ربما يرفع المضاربة على الصفقات المستقبلية في عام الانتخابات الرئاسية الأميركية، ويتناقص الاحتياطي الاستراتيجي النفطي الأميركي بعد السحوبات المتكررة التي نفذتها إدارة الرئيس جو بايدن خلال العامين الماضيين.
وعلى صعيد آخر تقود احتمالات الحرب بين طهران وتل أبيب إلى تراجع السيولة في البورصة الأميركية بسبب مخاوف المستثمرين من تدهور أسعار أسهم "وول ستريت" في وقت يرتفع فيه العائد على السندات الأميركية.
ويشير "زيرو هيدج" إلى أن السيولة كانت أحد أكبر محركات سوق الأسهم منذ أوائل عام 2023، وخاصة منذ أواخر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. وفي عام انتخابي، أعادت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين ورئيس بنك الاحتياط الفيدرالي جيروم باول امتصاص جزء كبير من السيولة الفائضة التي عززت ارتفاع سوق الأسهم خلال الأعوام التي تلت جائحة كورونا.
وذكر الموقع أن السببين الرئيسيين وراء زيادة السيولة في السوق الأميركي هما استقرار النظام المصرفي بعد إفلاس بنك "سيليكون فالي"، والسبب الثاني قمع التقلبات في عام الانتخابات. وقد جاءت كمية كبيرة من هذه السيولة من تسهيلات "الريبو العكسي" (RRP)، وهي الأداة التي أطلقها البنك الفيدرالي في عام 2020 لتحقيق الاستقرار في النظام المالي خلال ذعر كوفيد المالي. كان بنك الاحتياط الفيدرالي قد ضخ 3.3 تريليونات دولار من السيولة في النظام في ذلك العام بشكل سريع، واستمر الضخ حتى نهاية عام 2022، وكان هناك ما يقرب من 2.5 تريليون دولار في أداة الريبو. ومنذ ذلك الحين، استخدمت وزيرة الخزانة يلين هذه الأموال للتمويل.
قلق من النمو الصيني
ويتزامن القلق من تضرر سوق الأسهم الأميركية من تصاعد التوترات الجيوسياسية مع اكتساب الاقتصاد الصيني زخماً، ما يثير القلق الأميركي أيضا ليس على صعيد الإغراق الصيني للأسواق بالسلع فحسب، والتي تضر الشركات الأميركية، وإنما أيضاً على صعيد إبقاء التضخم عند مستويات مرتفعة بفعل صعود أسعار السلع الأساسية لا سيما المعادن في ظل انتعاش الطلب الصيني.
وجرى تداول النحاس قرب أعلى مستوى خلال 15 شهراً، بعدما أثارت المخاوف بشأن العرض وآفاق الطلب الأكثر إشراقاً سلسلة من النداءات الصعودية في السوق، وفق وكالة بلومبيرغ الأميركية. وارتفعت الأسعار أكثر من 15% خلال الشهرين الماضيين، حيث يراهن المستثمرون على استهلاك أقوى في الصين مع انتعاش التصنيع. ويُستخدم النحاس في كابلات الطاقة، وتوربينات الرياح، والمركبات الكهربائية، والألواح الشمسية، وهو مادة أساسية لانتقال الطاقة.
وكتب محللو بنك "سيتي غروب" في مذكرة إن "الجولة الثانية من صعود السوق هذا القرن، سببها نمو الطلب المرتبط بإزالة الكربون"، وأضافوا أن "ارتفاع الأسعار وحده هو الذي سيحل هذا العجز". وجرى تداول المعدن عند 9419.50 دولاراً للطن في بورصة لندن للمعادن، مساء الثلاثاء. وتجاوز نشاط المصانع في الصين التوقعات في مارس/ آذار، في أحدث علامة على التعافي الاقتصادي في أكبر مستخدم للنحاس في العالم. وتشير البيانات التي تظهر زيادة الإنفاق أيضاً، إلى أن الاستهلاك المحلي يتسارع.
وارتفع سعر النحاس أكثر من خمسة أضعاف في ثلاث سنوات، مدفوعاً بالتوسع الحضري والتصنيع في الصين. وقال "سيتي غروب" إن هناك احتمالاً لارتفاع الأسعار بشكل كبير مرة أخرى في السنوات الثلاث المقبلة. كما ارتفعت أسعار المعادن الأساسية الأخرى، الثلاثاء، حيث زاد الزنك بما يصل إلى 2.4%، بعدما أصبحت المصاهر الصينية أحدث ضحية للطاقة الفائضة في أسواق المعادن في البلاد، واستقرت أسعار خام الحديد أيضاً، حيث حافظت على مستوياتها فوق 100 دولار للطن في سنغافورة.
البنوك المركزية تراقب التطورات
وتشكل أسعار السلع الأساسية تحدياً جديداً لتوقعات التضخم وسياسات أسعار الفائدة لدى البنوك المركزية. ويتخوف المستثمرون في "وول ستريت" من هذا التطور بشكل خاص مع ترقب تقرير تضخم أسعار المستهلكين لشهر مارس/ آذار. وقد أدى تقرير الوظائف الأخير إلى إعادة تقييم توقيت التخفيضات المحتملة لأسعار الفائدة من قبل مجلس الاحتياط الفيدرالي، حيث ينظر السوق الآن إلى شهر يونيو/ حزيران على أنه غير مؤكد بالنسبة لتيسير السياسة النقدية الأميركية. وفي حين لا يزال من المتوقع أن تجري البنوك المركزية في أوروبا وكندا خفضاً على أسعار الفائدة في شهر يونيو/ حزيران، إلا أن الاحتمالات متقلبة هذا الأسبوع.
ويراقب كل من البنك المركزي الأوروبي وبنك إنكلترا وبنك كندا هذه التطورات عن كثب، وذلك وفقاً لموقع "أنفست. كوم". ويُظهر قطاع التصنيع في الصين علامات على انتعاش كبير، وهو ما يدفع أسعار الطاقة والمعادن إلى الارتفاع، إلى جانب قوة الاقتصاد الأميركي. وصلت أسعار النحاس في شنغهاي إلى مستويات مرتفعة جديدة، يوم الثلاثاء، وهو ما يعكس التفاؤل بشأن قطاع التصنيع في الاقتصادات الكبرى. وتتزايد المخاوف من عودة التضخم مرة أخرى بعد الجهود المكلفة التي بذلتها البنوك المركزية خلال العام الماضي. في هذا الصدد، يقول موقع " إنفست. كوم" إن أسعار المعادن الصناعية شهدت ارتفاعاً، الثلاثاء الماضي، مدعومة بتوقعات انتعاش التصنيع العالمي.
عن العربي الجديد