تزامن ميلاد الشاعر راشد حسين مع الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الاستعمار البريطاني، والتي امتدت من سنة 1936 إلى سنة 1939، وتبعها النكبة التي عاشها بكل لحظاتها الفارقة والمأساوية عندما كان 12 عامًا.
اضطر حسين لمغادرة فلسطين ولم يكمل عقده الثالث، فكانت وجهته الأولى فرنسا ثم الولايات المتحدة الأمريكية فسوريا، قبل أن يعود إلى نيويورك وفيها توفي (عام 1977) اختناقًا بحريق غامض في منزله يُجهل أسبابه إلى اليوم، وقد ترك إرثًا أدبيًّا متوهّجًا بالذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني.
طيلة حياته سكن الهمّ الفلسطيني قلب راشد حسين، فتمرد على الاحتلال بأشعاره وكلماته التي ما زال صداها حاضرًا إلى اليوم، ففيها خاطب الوجدان وحرّك المشاعر الوطنية لإنارة درب الكفاح ضد الاحتلال الإسرائيلي.
المناضل السياسي
وُلد حسين لعائلة من الفلاحين في قرية مُصْمُصْ في المثلث الشمالي أثناء الانتداب البريطاني، وفي تلك الفترة لم يكن في قريته الصغيرة مدرسة لكن كان فيها كُتّاب، تلقّى فيه حسين أول مراحل تعليمه ثم انتقل إلى مدرسة أمّ الفحم الأميرية وهي بلدة قريبة من قريته، أما تعليمه الثانوي فكان في مدينة الناصرة.
بدأ عمله في التدريس في سن الـ 19 في الناصرة، ثم اختار تعليم فقراء الريف في غرف مدرسية متداعية تفتقر إلى أبسط مقومات التدريس، بما في ذلك الكتب المدرسية الكافية، وتميزت مسيرته التدريسية بوجود صدامات كبيرة بينه وبين المشرفين اليهود على التعليم العربي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومع القسم العربي في نقابة المعلمين الوطنية.
عارض حسين الاحتلال الإسرائيلي وسياسات الإذلال والتمييز التي انتهجتها الحكومات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، كما انتقد بعض العرب الذين اعتبرهم متعاونين مع السلطات الإسرائيلية، فكتب قصيدة “هي والأرض”:”باع أرضَهُ للصهيونيين لِيدفَع مَهرَ خطيبتِهِ، فكتبَتْ لَهُ: وبِعتَ التُرابَ المقدسَ يا أنذَلَ العاشقينْ، لتدفعَ مهري؟! وتبتاع لي ثوبَ عُرسٍ ثمينْ، فماذا أقولُ لطفلك لو قالَ: هل لي وطن”؟ وماذا أقولُ لهُ إن تسائَلَ: أنتِ الثَمَن؟”.
في المقابل وجّه نداءات إلى “المواطنين اليهود” الذين ينتمون إلى أحزاب العمال، للالتزام بالمبادئ العالمية لحركاتهم ومحاربة عدم المساواة التي يتعرض لها الفلسطينيون.
نشر “ابن مُصْمُصْ” أفكاره ومواقفه المناهضة للاحتلال في العديد من الصحف والمجلات التي عمل بها، إذ عمل محررًا أدبيًّا لصحيفة “الفجر”، وهي صحيفة شهرية تصدر باللغة العربية تابعة لاتحاد عمال هستدروت، وكذلك لصحيفة “المصور” الأسبوعية.
اهتمامه بالسياسة دفعه للانضمام إلى “حزب العمال الموحد في إسرائيل”، المعروف اختصارًا “مابام”، وكان محررًا لصحيفته “المرصاد”، لكنه كان يختلف معه في العديد من المواقف خاصة الخارجية، ومنها مواقفه المناهضة للرئيس المصري جمال عبد الناصر.
لم يطل انضمام حسين للحزب الإسرائيلي إذ انسحب منه مبكّرًا، وشارك في تأسيس “حركة الأرض”، وهي حركة سياسية قومية عربية تأسّست داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة في أبريل/ نيسان 1959، بدعوة ومبادرة من الخط القومي بين فلسطينيي الـ 48 على رأسهم منصور كردوش وحبيب قهوجي، وتم اختيار الاسم للدلالة على تعلُّق الفلسطينيين بأرضهم.
تعتبر هذه المنظمة من أوائل الحركات الفلسطينية التي مارست الكفاح ضد الاحتلال الإسرائيلي، إذ طالبت بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم وأملاكهم، وكان لها دور في تعميق الوعي الوطني الفلسطيني الكفاحي، وصيانة التاريخ الفلسطيني والهوية الفلسطينية.
تعرضت “حركة الأرض” للتقييد وشلّ نشاطها، وفي الأثناء تأسّست منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964 عقب قرار صدر عن القمة العربية الأولى التي عُقدت في القاهرة، وطرحت المنظمة مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة القائمة على أُسُس ديمقراطية علمانية، وعلّلت ذلك بأن كفاحها المسلح ليس كفاحًا عرقيًّا أو مذهبيًّا ضد اليهود.
انضمَّ حسين راشد إلى المنظمة وعمل مترجمًا عبريًّا-عربيًّا في مكتبها بمدينة نيويورك، وبعدها كانت له تجربة إعلامية قصيرة في سوريا، حيث عمل مذيعًا في برنامج اللغة العبرية التابع لخدمة الإذاعة السورية، ثم عاد إلى نيويورك ليعمل مراسلًا لوكالة الأنباء الفلسطينية “وفا” لدى الأمم المتحدة.
وفي نيويورك عمل حسين على فضح الجرائم الصهيونية ضدّ أبناء وطنه، والتأكيد على عدالة القضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في العودة إلى منازلهم وأراضيهم، وتأسيس دولة مستقلة تضم جميع الأعراق والديانات.
كما شارك حسين في تأسيس مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وهي أول هيئة عربية علمية مستقلة خاصة، تهدف إلى دراسة القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي ومتابعة تطوراتهما، وإطلاع الرأي العام العربي والدولي على حقائق تلك القضية وأبعاد هذا الصراع.
شعر المقاومة
انتصر راشد حسين للمقاومة الفلسطينية سياسيًّا وأدبيًّا أيضًا، إذ نظم الشعر وكتب القصائد الثورية التي تخاطب الجماهير وتحرك الوجدان والمشاعر بقوة وزخم وهو في مرحلة دراسته الإعدادية، متخطٍّ حاجز الخوف الذي انتشر بين الفلسطينيين عقب نكبة 1948.
أغنى الشاعر الثوري بأسلوبه السهل الجميل، الأدب الفلسطيني والعربي والمشهد الإبداعي ككل بالشعر الملتزم والوطني الذي لا يعرف الهزيمة، إنما يعرف لغة التحدي والمقاومة والإباء والشموخ، إذ كتب عن الوطن والنكبة واللجوء والتهجير والخيام السود ومصادرة الأرض، ووقف ضد صنوف الظلم والعذاب والاستبداد والقهر الطبقي، وكانت الحرية حلمه.
أصدر الشاعر الثوري ديوانه الأول الذي حمل عنوان “مع الفجر” سنة 1957، ثم تبعته مجموعة ثانية بعنوان “صواريخ” في العام التالي، وفيهما أعلن رفضه للاحتلال وتمرّده عليه، ويقينه بأن النصر قادم مهما فعل الاحتلال بمعية حلفائه، فكتب: “سنفهم الصخر إن لم يفهم البشر … إن الشعوب إذا هبت ستنتصر مهما صنعتم من النيران نـخمدها … ألم تروا أننا من لفحها سمر ولو قضيتم على الثوار كلهم … تمرد الشيخ والعكاز والحجر”.
يعد راشد حسين أول شاعر ثوري بالداخل الفلسطيني ورمزًا للأدب المقاوم، حيث عبّر بقصائده الجميلة عن مشاعر الأهالي، وجسّد الواقع المرير الذي تسبّبت فيه النكبة والخذلان العربي.
كانت أشعار حسين بمثابة الذاكرة الوطنية، إذ تناولت عديد الأحداث التي عرفتها الساحة الفلسطينية، منها مجزرة كفر قاسم ومذبحة أطفال صندلة واستشهاد أبناء سخنين وقوانين الضرائب وقيود التصاريح، وغيرها الكثير.
لعل أبرز كتاباته قصيدة “أنّة لاجئ” التي تعكس واقع اللاجئين والمشردين في الخيام، وفيها يقول الشاعر:”خيامُ اللّاجئين قصور أهلي، سيرسل من هناك لك الحسابُ، بلى! ولسوف نلنه حسابًا، رهيبًا يوم تأكلك الكلابُ”، وهنا يظهر الأمل بغد أفضل وصفات التحدي التي يمتلكها حسين راشد.
نُشرت للشاعر راشد حسين عدة دواوين شعرية أخرى، منها “مع الفجر”، و”صواريخ”، و”أنا الأرض لا تحرميني المطر”، و”كلام موزون”، و”ديوان راشد حسين: الأعمال الشعرية الكاملة”، ونشرت العديد من أعمال حسين في مجلد بعنوان “عالم راشد حسين: شاعر فلسطيني في المنفى” صدر بالإنكليزية عام 1979، وضمّ مقالات ودراسات بتقديم وتحرير الناقد والمؤرّخ الفلسطيني الراحل كمال بُلّاطه، الذي أنجزه بالتعاون مع المترجمة والناقدة اللبنانية ميرين غصين.
وبعد وفاته عُثر على مسودة قصيدة لم تكتمل بين أوراقه مكتوبة بخط يده، ونُشرت لأول مرة في عام 2013، في الذكرى الـ36 لرحيله، وحملت القصيدة عنوان “حبيبتي غزة”، وفيها يقول الشاعر: “متعبٌ من خُطَبِ الأقزامِ، يا غزّة متعبْ.. وورائي البحرُ، والنّارُ أمامي، ولذا.. أمشي على قلبي، إلى النّارِ، وأشربْ..
حرص راشد حسين أيضًا على تعلم اللغة العبرية حتى يُخاطب المحتل بلغته، ويكون أثر قصائده أكبر، إذ ترجم العديد من القصائد العربية إلى العبرية والعكس، كما ترجم أعمال الشاعر الألماني بيرتولت بريخت والشاعر التركي ناظم حكمت والزعيم الكونغولي باتريس لومومبا.
حياة المنفى
يقول الناقد والروائي اللبناني إلياس خوري في دراسته “الموت الجانبي”، التي ضمّها كتابه النقدي “الذاكرة المفقودة”، عن شعر راشد حسين: “لا نقرأه كي نقرأ تطور الشعر العربي في فلسطين، ولا نقرأه فقط لأنه مات فالموت ليس جوازًا حقيقيًا إلى القراءة، نقرأه كي ندرس مرحلة كاملة، مرحلة المنفى الذي بدون أمل، مرحلة البحث عن الأمل”.
أثناء نشاطه السياسي والأدبي، تعرّض راشد حسين للملاحقة والاضطهاد من قبل الاحتلال الإسرائيلي، حيث فُصل من عمله كمدرّس بعد عام واحد فقط من تعيينه، وتم التضييق على نشاطه من أجل احتوائه ودفعه للكفّ عن مناصرة المقاومة الفلسطينية ومناهضة الاحتلال الصهيوني.
اضطر لمغادرة وطنه الذي حمله معه في فكره وإحساسه، وتنقّل بين العديد من المدن والعواصم إلى أن استقرَّ به الحال في نيويورك، لكنه لم يستسلم أو يتراجع، بل واصل الكفاح والنضال مع كل القوى الوطنية لأجل انبثاق فجر قريب.
كان حسين يأمل في العودة إلى وطنه محررًا، إلا أن المنية كانت أقرب إليه، إذ توفي في غربته بالولايات المتحدة الأمريكية، بعد احتراق شقته ليلة 1 فبراير/ شباط 1977 في ظروف غامضة ومريبة.
وكان قد كتب فيها آخر قصائده التي تشبه النبوءة عن “الموت في نيويورك” التي يقول في واحد من مقاطعها: “أصدقاؤك انتهوا، ماتوا يغازلون دولاراتهم، ماتوا بلا أسماء”.
توفي راشد حسين ولم يكمل عامه الـ 41، وقد خلّف وراءه إرثًا غنيًّا للشعب الفلسطيني، فحفظت الشعوب الحرة قصائده وتغنّت بها، وكانت بمثابة مدرسة لجيل ناشئ من الشعراء الشباب.
المصدر: نون بوست