غزة | في ممر ضيّق محشور بين أكوام من ركام المنازل المدمّرة لتوّها، أرضيّته مفروشة بشظايا متنوعة من قذائف الدبابات التي تحاصر المكان، تستلقي امرأة في العشرينيات من عمرها، على قطعة قماش بالية غرقت بعرق ودماء ودموع الشابة التي جاءها المخاض. تحاول أسماء عروق (25 عاماً) سحب شهيقها، ودفع زفيرها، بينما يقف زوجها إلى جانبها يقبض على كفها، ويحمل في يده الأخرى مصباحاً خافت الإضاءة، لإنارة المكان المظلم سوى من وميض الغارات الإسرائيلية. يَنظر إلى والدة زوجته، ويقول لها: «اتصلت بسيارة الإسعاف، ولكن للأسف لن تتمكن من القدوم، لأن المكان محاصر»، لتجيبه والدتها: «لا مجال أمامنا، سوى أن أولدها بنفسي... هنا!».حالةٌ من القلق والتوتّر تسود المكان، مع اشتداد ألم المخاض، وصراخ أسماء ودموع والدتها إنعام، التي تأتيها أفكار من قبيل: «لا تجارب سابقة لديّ في توليد النساء... ماذا سأفعل؟ كيف ستنتهي الأمور؟». لكنها سرعان ما تتجاهل، وتقول: «إذا تركنا أسماء هكذا، ستموت. أريد مياه ساخنة، وملابس مولود، وخيطاً أو مَشبَك غسيل». امتدت ساعات الولادة المتعثّرة حتى أوشك الفجر على الانبلاج. وبينما التفّ الجميع حول أسماء، وقد أطرقوا في خشوع ما بين ذاهل وباكٍ ومشفق، تعالت شهقات الشابة فجأة، وإذا بأمّها تبثّ البشرى لمن حولها: «يا إلهي... ظهر الرأس!». وما هي إلا لحظات حتى كان صراخ المولود يملأ المكان. لحظتها ارتاحت أسارير من في المكان وتحوَّل عبوسهم إلى سعادة. قبضت أسماء على يد زوجها وأمها وهي تنظر إلى مولودها ياسر، الذي مكث محاصراً مع عائلته في حي الصفطاوي، شمالي قطاع غزة، لمدة 14 يوماً بعد ولادته.
حالُ أسماء حال الكثير من نساء غزة اللواتي وضعن مواليدهنَّ في أماكن الإيواء، وأخريات اضطررن إلى الولادة في المناطق المحاصَرة، بعدما أصبحت أقسام الولادة في جميع مستشفيات شمالي القطاع خارج الخدمة منذ الأشهر الأولى للعدوان، ولم يتبقّ منها سوى «مجمع مستشفيات الصحابة الطبي» الذي يقدّم خدماته للحوامل، فيما لم يحالف الحظّ كثيراً منهن ليصلن إليه. ويروي المدير الإداري والطبي في المجمع، نعيم عثمان أيوب، ظروفاً مأساوية، وشهادات مروعة، وإحصائيات صادمة عن تداعيات العدوان على السيدات الحوامل ومواليدهن. ووفقاً لرصد دقيق للمستشفى، اطلعت عليه «الأخبار» من خلال أيوب، فقد ارتفعت نسب حالات الإجهاض بشكل كبير، وكذلك حالات الولادة المبكرة، ما رفع أيضاً نسب المواليد الخُدّج، إلى جانب تزايد نسب التشوّهات التي لحقت بالأجنّة والمواليد، وارتفاع كبير في نسب الولادات القيصرية. كما سجل التقرير إصابة سيدات حوامل وأجنتهن بالرصاص والشظايا من جراء العدوان، وارتفاع نسب النساء المصابات بـ«تكسيات المبيض، وانفجار الرحم، والزُلال». ويؤكد أيوب أن كل ما سبق مردّه العدوان الإسرائيلي، وخاصة ما يتعلّق بالتشوّهات الخلقية التي أصابت المواليد والأجنة، جراء الغازات والغارات الإسرائيلية وسوء التغذية، من مِثل «أجنة من دون رؤوس، أجنة من دون هيكل عظمي، ومواليد فاقدين لأعضاء أو حواس».
ويتطرّق أيوب إلى الأوضاع النفسية الصعبة التي عانت منها النساء من جرّاء الحرب، قائلاً: «كنّا نجري عمليات ولادة لسيدات يبكين أثناء المخاض. ولدى الاستفسار، نتفاجأ أنهن فقدن أحد أفراد العائلة مثل (الأب، الأم، الأخوة، الزوج، الابن)، وبعضهنّ فقدن كل عائلتهن». ويضيف: «مرَّت السيدات الحوامل بأوضاع عصيبة، بعضهن كنّا نجري لهن العمليات وهنَّ مُصابات ويقطرن دماً، ولديهن كسور خطيرة في الأطراف، بل لدينا أجنّة ومواليد تعرّضوا للإصابة داخل أرحام أمهاتهم، فكنا نجري عملية الولادة ونشرع في عمليات جراحية للمواليد وأمهاتهم».
ومن أكثر الأوقات العصيبة التي مرت بها النساء الحوامل، وفقاً لأيوب، «فترة المجاعة التي اجتاحت شمالي غزة، حيث عانين من سوء التغذية بشكل هدد حياتهن وحياة الأجنة، إذ كانت السيدات تفقد حوالى 4 كيلوغرامات من وزنهن، بينما يكون متوسط الزيادة الطبيعية حوالى 12 كيلوغراماً». وما زاد من حالات الولادة المبكرة، «أصوات القذائف والقنابل التي تتسبّب بخوف مفرط لدى النساء الحوامل، وتالياً الولادة في غير أوانها. وعندها، تحدث مضاعفات خطيرة لدى الوالدة والجنين، مثل النزيف، وهو ما يضطر المستشفى إلى اتخاذ قرار بإجراء عمليات قيصرية سريعة». ويروي أيوب، في هذا الإطار، أن سيدة اضطرّت إلى إجهاض ثلاثة أجنة في شهرها السادس، جرّاء إصابتها بقصف إسرائيلي، بينما كانت تنتظر أطفالها بشغف بعد تأخر استمر طوال 16 عاماً.
وعن «مجمع الصحابة الطبي»، يوضح أيوب أن المستشفى يتمكّن شهريّاً من توليد حوالى 650 سيدة، بينهن 150 حالة ولادة قيصرية، مشيراً إلى أن المستشفى استحدث قسماً لحضانة المواليد الخُدج، يضمّ 6 حضانات. ولكنه يلفت إلى أن المستشفى يعاني من نقص حادّ في المحروقات اللازمة لتشغيله، وهو ما يؤثّر على الخدمات الصحية التي يقدّمها للنساء الحوامل، مفيداً أنه أجرى شخصياً عدداً من «القيصريات» والعمليات الحسّاسة، مستعيناً بمصباح الهاتف المحمول للإنارة داخل غرف العمليات.
المصدر: الاخبار اللبنانية