2024-11-25 11:42 م

كيف فقد الفلسطينيون دولتهم ومن المسؤول عن تلاشي هذا الحلم؟

2024-06-26

نشر موقع وقفية كارنيغي للسلام العالمي مقالاً لناثان جي براون، الزميل البارز وغير المقيم في برنامج الشرق الأوسط، بعنوان “فلسطينيون بدون فلسطين؟”، قال فيه إن الفلسطينيين لا يزالون على أرضهم، لكن مؤسساتهم تدهورت بطريقة لا ينتبه إليها الدبلوماسيون.

وأضاف أن “فلسطين تبدو أنها وصلت إلى نقطة توقف كاملة، مؤسساتها ذبلت، بدلاً من التطور إلى دولة. ولكن الفلسطينيين لا يزالون حاضرين، ليس كأفراد، ولكن كجماعة وطنية. وزاد الحس بالهوية الوطنية، خلال نصف القرن الماضي، وأدت المحن، بما فيها الاحتلال، وفشل السلطة الوطنية، لجعلها أكثر قوة. ومع ذلك لا توجد دولة فلسطينية الآن، وليست هناك فرصة في الأفق لأن تظهر”.

فالاعتراف بدولة فلسطين يزيد من هذه الآمال لكنه لا يغير الواقع على الأرض الذي يمضي في الاتجاه المعاكس.

وربما تغير هذا الوضع، لكن المهمة هذه متروكة للجيل الصاعد، وهذا تكهن محبط للفلسطينيين. ولا يوجد هناك سبب يجعلنا نجادل في صحته ولا تسريعه. ولن يعاني الفلسطينيون فقط من هذا، حيث ستعاني الأجيال القادمة من الإسرائيليين منه، وستتخذ المعركة على “أرض إسرائيل” و”فلسطين التاريخية” بين النهر والبحر شكلاً ضاراً. وقد أجبر القادة في العالم للتعامل مع تداعياته بدون أدوات دبلوماسية توفرت للسابقين لهم.
ويرى براون أن فلسطين (الدولة) توقفت، لكن المشكلة ليست في غياب الدولة، أو وجود دولة فاشلة. فلو نظرنا للواقع، فإن الفلسطينيين محكومون، ويظهر الحكم في كل ملامح حياتهم، محاسبون، ويحصلون على تصاريح، ويراقبون، ويتعلمون، ويدفعون الضريبة، ويخضعون للتنظيمات، ويحصلون أحياناً على الرعاية الصحية والطعام من مؤسسات رسمية. فالفلسطينيون ليسوا في حكم من لا دولة لهم، ولكن فلسطين بدون دولة. وعدم وجود دولة بدون سيادة، لا ينفي أن الفلسطينيين يخضعون لسلسلة من البنى المشابهة للدولة. إلا أن الطرق المتعددة التي يحكم بها الفلسطينيون تنقصها الانسجام. فهناك الكثيرون منهم مواطنون في دولة إسرائيل، التي تزعم أنها دولة لليهود، وهناك فلسطينيون محكومون، ولكنهم ليسوا مواطنين. وهؤلاء تتعرض حياتهم وحركتهم وأمنهم للسيطرة الإسرائيلية. وبالنسبة لمن يعيشون في الضفة الغربية وغزة، فملامح من حياتهم تظل بعيدة عن السيطرة الإسرائيلية أو اهتمامها، مثل الخلافات بين أصحاب البيوت والأزواج، فهذه متروكة لسلطات فلسطينية مخصصة، أو مقيدة، لا تشبه إلا القليل من ملامح الدولة.

وفي الحقيقة، لا يقترب أي من هذه البنى من تشكيل كيان اسمه “فلسطين”، ولا يتعرض أي منها لمحاسبة الفلسطينيين، وبعضها لا يتعرض أبداً للمحاسبة. علاوة على هذا؛ فالمؤسسات الفلسطينية لا يمكنها، أو لا تستطيع منح المواطنة لهم، ما يترك ملايين الفلسطينيين بلا دولة على المستوى الفردي، وبدون فرصة للانتماء إلى كيان سيادي، رغم مظاهر الحكم التي يخضعون لها.

ويقول براون إن الفلسطينيين أعلنوا لأول مرة عن دولتهم في أثناء المؤتمر الوطني الفلسطيني بغزة عام 1948، لكن الإعلان لم يترك أثراً. واقتضى الأمر عدة عقود لكي يعيد اللاعبون الدوليون التفكير بفلسطين. وبدأت الأمم المتحدة بالإشارة إلى فلسطين في 1988، وأكدت على دولة فلسطين ذات سيادة على الضفة الغربية وغزة. وبعد 14 عاماً قدم الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش تحولاً لغوياً عندما أشار إلى “فلسطين” بدون تحديد مكانها. صحيح أن فلسطين موجودة من قرون، إلا أن هذا لم يعط فكرة عن دولة وطنية، (فكرة الدولة الوطنية نشأت في القرن التاسع عشر)، ولعل الاعتراف في الأمم المتحدة بفلسطين هو اعتراف بصعود الحركة الوطنية.

وكانت هذه نقطة مهمة في المسار الدولي الذي أدى  لاستخدام فلسطين كاسم والاعتراف بالفلسطينيين كهوية وطنية. وهناك محطات أدت إلى هذا، من إعلان الاستقلال الفلسطيني في عام 1948، واعتراف الجامعة العربية في 1974 بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للفلسطينيين، ثم إعلان الدولة عام 1988، واعتراف إسرائيل بالمنظمة عام 1993، ومنح فلسطين عضوية مراقب في الأمم المتحدة واعتراف 140 دولة من 193 دولة عضو، إلى جانب الحديث الدائم عن حل الدولتين، تعيش فيه فلسطين إلى جانب إسرائيل.

وشهدت العقود التي سبقت أوسلو مساراً مؤسساتياً، لبناء معالم الدولة التي تمثل رغبة الفلسطينيين بتقرير مصيرهم، حيث بنوا بعضاً من مؤسساتهم الاجتماعية والنقابات والأحزاب والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني والصحف والجامعات، وبنوا أيضاً مؤسسات دولة وأصدروا تنظيمات وقوانين وكتبوا مقررات تعليمية ورعوا مناسبات بنيوية وطوّروا سرداً وطنياً.

ومنحت اتفاقيات أوسلو، منتصف التسعينات، زخماً لهذه الجهود. وبلغت ذروة هذه الجهود في التسعينات، عندما اعتقد الفلسطينيون أن الدولة الفلسطينية التي لا تزال على الورق ستدمج في الجهود التي بنوها ببطء، وستصبح دولة حقيقية تتمتع بكل ملامح السيادة الداخلية والخارجية.

إلا أن الأشياء تداعت، وتوقف المسار المؤسساتي مع بداية القرن الحادي والعشرين، ولعبت الدبلوماسية دوراً في التستّر على هذا التراجع. وبات التناقض بين الحديث الدبلوماسي والحياة الحقيقة مثاراً للسخط، وخاصة بين الجيل الشاب. وحدث الانحطاط بشكل كبير على القمة، أي مستوى بناء دولة ذات سيادة. وما بقي هو بنى الإدارة الأساسية، التي يعود بعضها إلى الدولة العثمانية قبل 1917، والانتداب البريطاني، الذي استمر حتى 1948، والحكم الأردني، والمصري حتى 1967، وأثناء الاحتلال الإسرائيلي، وحتى الحكم الذاتي المقيد بعد 1994.

وما يهم هو أن هذه المؤسسات فقدت صلتها بمشروع بناء الدولة إلا على المستوى الخطابي. ولم يكن بناء المؤسسات، وخاصة بعد اتفاقيات أوسلو بدون عيوب، فقد كان أوتوقراطياً وفاسداً واستغلالياً. ولم يستمع المجتمع الدولي، المنشغل حينئذ بالعملية السلمية، لشكاوى الفلسطينيين. رغم أن العملية السلمية كانت وراء ترسيخ الكثير من المشاكل هذه.

 وبعيداً عن كل هذا، استمرت الجهود المتعددة، مثل إنشاء وزارات وتشريعات وانتخابات، إلى جانب خطة لإصدار عملة وطنية، وإنشاء مطار دولي، مع أن واحداً بُني في غزة، وشغل لفترة قصيرة، وتمت مناقشة آخر في قلنديا قريباً من القدس. وحضر بعض الفلسطينيين أنفسهم لجوازات لا علاقة لها بالتحكم الإسرائيلي أو الهوية.

وواحدة بعد الأخرى، تفكّكت هذه الخطوات، وأصبحت بلا قيمة، أو تم تناسيها، ولم يبق منها سوى قشرة الدولة الفلسطينية، وما بقي من مؤسسات لا يخدم إلا أهدافاً قصيرة الأمد بدون إستراتيجية على المدى البعيد. وكان هناك انفصام بين الصعود الدولي والانحدار المحلي، فحل الدولتين مثلاً بدأ كطموح محفز ومستفز في القرن العشرين، ثم تحول إلى فكرة طامحة بداية القرن الحادي والعشرين، وانتهى الحديث عنه كوهم.

ويمقت الكثير من الفلسطينيين اليوم جهود بناء الدولة بعد أوسلو. وهناك انفصام بين ما يريده المجتمع الدولي مع ما تتسامح به إسرائيل من أوسلو، أي تحويل السلطة كمتعهد أمني، ومزوّد لخدمات محددة.

وتم انتهاك كل مبادئ أوسلو عندما كانت حية، أما اليوم فقد تحولت المناطق الفلسطينية إلى جيوب تديرها بلديات. ولا يعرف هذا الواقع إلا من يعيشون فيه، وأنه يقود إلى غد يحمل وعداً أقلّ من أمس. وهناك قلة من الفلسطينيين تعرف ما يجب عمله، ويقترحون حلولاً يائسة أو مجردة. وهناك حديث عن إستراتيجية طويلة الأمد، ولكن المتوفر هو تكتيكات لا تحمل وعوداً.

وفي الوقت الذي يعترف فيه المراقبون الدوليون بتفكك فلسطين، إلا أنهم لا يفهمون عمق الانحطاط المؤسساتي. ولهذا يسارع قادة المجتمع الدولي بحلول سطحية، وكأن المشاكل الأساسية ليست مهمة، أو يجب أن تنتظر. وهناك خطوات مهمة يجب اتخاذها، لكن يجب أن تقوم على فهم المدى الذي انحطت إليه السياسة الفلسطينية. ويجب ألا تستند الجهود على “حل” “نزاع” واضح بين فاعلين بسلطة “إسرائيل” و “فلسطين” يجب أن يتوصلا لإنهاء عملية سلمية ماتت منذ زمن.

ويقترح الكاتب قراءة لما تم في عملية بناء الدولة، أو الطموح لها، من المجلس الإسلامي الأعلى، والهيئة العربية العليا، في أثناء الانتداب البريطاني وحكومة عموم فلسطين حتى منظمة التحرير، التي بنى كل منها مؤسسات طامحة تقود  لدولة فلسطينية. ومع أن بعض هذه البنى لا تزال قائمة، إلا أنها بدون روح. ولم يعد الفلسطينيون يشعرون أنهم في دولة ينتظر الإعلان عنها، وخاصة بعد بناء مؤسسات الدولة في أعقاب أوسلو، الذي مضى عليه ربع قرن. وفي الوقت الذي منحت جهود بناء الدولة أثناء وزارة سلام فياض الأمل، إلا أن الجهود لم تقم على أساس ديمقراطي. وأدت، كما توقع الكثيرون، إلى تعزيز الانقسام بين الضفة الغربية وغزة. كما أن الجيل القديم يشعر بالخيبة  في الحوارات معه، لكن جيل الشباب ليست لديه أية أوهام ليشعر أنه خسرها.

 وإلى جانب التفكك على مستوى القمة، حدث تراجع على مستوى القاعدة الاجتماعية. ويتحدث الكاتب عن الخلافات الفصائلية كعامل تفكّك في مشروع الدولة، فهناك “فتح”، التي لا تزال تستند على مشروعها التاريخي، بدون تقديم أي حلول واضحة للواقع.

وكوّنَ الكاتب انطباعاً من حواراته مع الجيل الشاب أن بعضهم موال لـ “فتح”، لكن الكثيرين منهم ورث الولاء كعلامة، أو من خلال مجموعة من القادة، وليس كأيديولوجية وبرنامج أو منظمة قابلة للحياة.

ثم هناك “حماس”، التي تعتبر منظمة قوية، مع أن الكليشيه أن “حماس” يصعب تدميرها لأنها فكرة. وهنا يكمن الخطأ لأن أفكار “حماس” ليست منسجمة، وهناك الكثير من الميول داخل الحركة التي طالما قدمت وحدتها التنظيمية على وحدتها كعقيدة وفكرة. علاوة على أن الحركة لم تقرب الفلسطينيين إلى الوجود السياسي. وتظل “حماس” قوية كحركة، وأقل تعريفاً كفكرة.

 ويعتقد الكاتب أن المشكلة ليست من هو المسؤول، ولكن كيف انهار حلم الدولة الفلسطينية، والقائمة عن المسؤولين أو الأشرار طويلة وتشمل فلسطينيين مثل محمود عباس، الذي استمر بالحديث عن العملية السلمية وحل الدولتين، وإسرائيل التي بات ساستها، وخاصة بنيامين نتنياهو، يتفاخرون بأنهم أوقفوا الدولة الفلسطينية. وأصبحت السياسة الإسرائيلية تقوم على النظر للدولة الفلسطينية كتهديد وجودي، وليس حجراً للسلام بين الشعبين. وهناك الأمريكيون والأوروبيون وغيرهم من الأشرار المتهمين بعرقلة الدولة. والمشكلة هي أن كل المتهمين هؤلاء مالوا في تعاملهم مع الدولة الفلسطينية لشخصنة، وبناء ترتيبات تنظيمية وكتابة قواعد في المساء لتبرير قرارات الصباح، وهذا واضح في مرحلة أوسلو الأولى. وهي المراحل التي برزت فيها فكرة التحول من الثورة للدولة، مع أن التوجه كان للعكس.

 ورغم ما بذل من جهود لبناء مؤسسات وتدريب كوادر وإنشاء أطر قانونية ودستورية، إلا أن كل هذه الجهود ظلت محكومة بالسياسة الإسرائيلية واهتمامات إسرائيل الأمنية إلى جانب المطالب الدولية التي تسامحت مع النزعات الاستبدادية لقادة فلسطين.

وهناك أمر مهم، وهو أن فكرة بناء دولة فلسطينية في ظل الاحتلال الإسرائيلي لم تكن إلا أملاً يائساً لا إستراتيجية. ويتحدث الكاتب هنا عن فشل العملية السلمية، وكيف تحولت فكرة فلسطين التي لا يمكن الحديث عنها إلى فكرة مبتذلة، وخاصة بين القادة الأمريكيين. وكذا النقاش الذي دار بين الإسرائيليين حول أوسلو. والحلول التي قدمها المجتمع الدولي والتي كرست عملية التدهور في مشروع الدولة، فقد ظل ياسر عرفات فلسطين، حتى لم يعد كذلك. ومن ثم جرى البحث عن بديل من خلال رئيس وزراء، عباس قبل أن يصبح رئيساً، وتبعه عدد من رؤساء الوزراء، بدءاً من فياض، الذي ركز على بناء مؤسسات الدولة.

وبحلول عام 2000 فقد الفلسطينيون الأمل بظهور الدولة، وهو ما قاد للانتفاضة الثانية. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الدولة ارتبطت بعد ذلك بالفصل العنصري، والتي كانت أفضل كلمة تصف حياة الفلسطينيين في الضفة.

ويقول الكاتب إن القيادة الفلسطينية، التي حرمت من موارد الضريبة والدعم الدبلوماسي الدولي، لم يكن لديها ما تقدمه لمواطنيها. ومضت سنوات عدة لم يلتق فيها الكاتب بمسؤول أو فلسطيني لم يعترف بفشل المشروع الوطني. ومن هنا استغلت “حماس” هذا الوضع، في 7 تشرين الأول/أكتوبر، لكي تجعل من القيادة الفلسطينية في رام الله غير مهمة بالكامل، وحتى لأمريكا التي تعاملت مع عباس كشخص لا يستغنى عنه، رغم كبر سنه واستبداده، واكتشفت واشنطن فجأة أنه عجوز مستبد. وبدأت الإدارة الأمريكية بالدعوة لسلطة وطنية “متجددة”. ولا يعرف ماذا عنت أمريكا بالمتجددة، وإن كان الفساد، فالفلسطينيون يتعاملون مع انتشار الفساد بطريقة تعني أكبر من حشو المسؤولين جيوبهم بالمال، أو الحصول على المزايا، بل وبأنه طريقة لترسيخ الاحتلال.

يقول براون إنه استخدم، خلال عقدين، في كتاباته عن فلسطين عناوين قاتمة أكثر منها متفائلة مثل: “غروب حل الدولتين”، “العملية السلمية عارية”، و”حالة دائمة من الغموض”، و”حان الوقت لخطة ب”، لكن لم يكن هناك أفضل من وصف الحالة مثل عنوان “تلاشي حل الدولتين”، ولم يعن بأن الدولة تلاشت خلف الأفق، ولكنها لم تعد هدفاً نهائياً أو إستراتيجياً للحركة الوطنية الفلسطينية. وهذا لا يعني أن فلسطين كاسم اختفت من النقاش الفلسطيني، أو أن الفلسطينيين لن يرحبوا بالدولة، بل أن قلة منهم يتوقعون ربح القرعة، وفي أي وقت قريب.

ويرى الكاتب أن الحديث عن حل الدولتين، أو الدولة الواحدة، وغير من ذلك من الحلول، لم يعد مهماً، ويجب وضعها على الرف مثل اليوتوبيا الدينية أو الجنة الأرضية، فالحديث عن دولة واحدة مقبول من الناحية النظرية، ولكنه مرفوض على أرض الواقع، وبخاصة من الذين يخشون من تأثر طابع الدولة اليهودي. وعليه؛ فإن هناك حاجة لتقوية المؤسسات الفلسطينية كي تكون قادرة على تقديم الخدمات لأجيال المستقبل. ولاحظ أن الهوية الوطنية الفلسطينية لم تعد تتمحور حول فكرة الدولة.

المصدر: القدس العربي