إسرائيل اليوم ليست مجرد كيان سياسي في قلب الشرق الأوسط، بل هي محور صراع عالمي يتجاوز الحدود الجغرافية. تأسيسها كان جزءًا من مخطط أمريكي يستهدف الهيمنة، الاستعمار، والتخلص من "المسألة اليهودية" في الغرب. ومع تعمق الصراع، يتضح أن مستقبل إسرائيل مرهون بتوازنات قوى أكبر من قدراتها. فهل يصبح الفلسطينيون، بتحالفاتهم الجديدة، مفتاحًا لتغيير معادلات النظام العالمي؟
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم يكن المشروع الصهيوني في نظر الولايات المتحدة الأمريكية مجرد قاعدة استعمارية متقدمة في قلب الشرق الأوسط، أو حتى حليفًا استراتيجيًا يضمن السيطرة على المنطقة العربية. بل كان، في جوهره، حلاً مُحكَمًا للتخلص من "المشكلة اليهودية" التي ظلّت تؤرق الضمير الغربي لقرون. من خلال إنشاء إسرائيل، لم تسعَ الولايات المتحدة إلى توطين اليهود في أرض جديدة فحسب، بل رأت في ذلك فرصة للتخلص من العبء اليهودي في أوروبا، وبناء مستعمرة تكون حاجزًا بين العرب وتطلعاتهم، ورأس حربة للاستعمار الغربي في المنطقة. وبهذا تحقق الولايات المتحدة ثلاثة أهداف متداخلة: الاستعمار، الهيمنة، والتحرر من "اليهودية" كقضية داخلية غربية.
لكن، ماذا يمكن أن تقدم الولايات المتحدة الأمريكية من أجل حماية هذا المشروع الذي يمثّل محور استراتيجيتها في المنطقة؟ هنا يكمن السؤال الذي يجيب عليه سلوكها المتواصل في دعم إسرائيل بكل الوسائل الممكنة. فإسرائيل ليست مجرد كيان سياسي أو عسكري بالنسبة لأمريكا، بل هي تجسيد لمصالح الغرب بأسره في المنطقة، وانتصار الفلسطينيين أو القوى المناهضة للمشروع الصهيوني لن يكون مجرد انتصار محلي، بل سيكون انتصارًا على النظام العالمي الذي تمسك واشنطن بخيوطه، والذي يقوم على هيمنة أحادية القطب.
الفلسطينيون وحدهم، في ظل هذه المعادلة، لن يستطيعوا تغيير الواقع بشكل جذري إذا ظلوا محصورين في إطار صراع محلي. فما يجب أن ندركه هو أن إسرائيل لم تكن لتتصرف بهذا الجنون والتطرف في قتل الأسرى الفلسطينيين والامتناع عن استعادة جنودها الأسرى، إلا لشعورها بخطر وجودي حقيقي. لم يكن هذا السلوك المعتاد لإسرائيل، التي عُرفت بقدرتها على المساومة واستعادة أسراها بأي ثمن. لكن الآن، تجد إسرائيل نفسها في وضع مختلف تمامًا، حيث ترى أن مصيرها ومستقبلها على المحك، وأن الظروف المحيطة بها تتجه نحو المزيد من التعقيد والخطر، ما يدفعها إلى اتخاذ قرارات قد تبدو جنونية ولكنها تعكس حالة من الهلع الوجودي.
قتل الأسرى بدلاً من استعادة الجنود، ليس مجرد سلوك عدواني إضافي في سجل إسرائيل، بل هو مؤشر على أن هذه الدولة وصلت إلى مرحلة تعتبر فيها الحفاظ على وجودها أهم من حياة الإسرائيليين أنفسهم. فإسرائيل، التي كانت تبني سياساتها على أساس الهيمنة المطلقة والقوة العسكرية، تجد نفسها الآن في مواجهة عدو لم يعد محصورًا في نطاق جغرافي ضيق، بل هو جزء من شبكة واسعة من التحالفات والمواقف المقاومة التي تربط أمن المنطقة بأمن الفلسطينيين.
إن المفتاح الحقيقي لاستقرار وأمن الشرق الأوسط بات بيد الفلسطينيين، وليس بيد إسرائيل أو حلفائها. وقد نجح الفلسطينيون، بصمودهم وإصرارهم على حقوقهم، في فرض معادلة جديدة في الصراع، حيث لم يعد من الممكن تحقيق الاستقرار دون تحقيق العدالة للفلسطينيين. لقد أصبح واضحًا أن المشاريع الأمريكية في الشرق الأوسط، وخاصة تلك التي تسعى إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، لن تُكلل بالنجاح ما لم تُحَلّ القضية الفلسطينية بشكل يرضي تطلعات الشعب الفلسطيني.
هذه الحقيقة، التي تتغاضى عنها السياسات الأمريكية والإسرائيلية، هي ما يدفع المنطقة نحو مزيد من التصعيد. فإسرائيل، التي كانت تتصور أنها قادرة على فرض إرادتها بالقوة العسكرية وحدها، تجد الآن أن هذه القوة لم تعد كافية لضمان مستقبلها. وأمريكا، التي بنت استراتيجيتها على تطبيع علاقات إسرائيل مع العالم العربي دون حل القضية الفلسطينية، بدأت تدرك أن هذه الاستراتيجية قد فشلت، وأن استمرارها في دعم إسرائيل على حساب حقوق الفلسطينيين لن يؤدي إلا إلى مزيد من عدم الاستقرار في المنطقة.
لكن هذا التحول لم يأت من فراغ. فصمود الشعب الفلسطيني، المدعوم بتحالفات المقاومة في المنطقة، هو ما أحدث هذا التغيير. لقد بات واضحًا أن أي حل لا يضمن للفلسطينيين حقوقهم كاملة لن يحقق الاستقرار في الشرق الأوسط، بل سيؤدي إلى مزيد من الصراع. إن وعي الشعوب، الذي بدأ يتشكل مؤخرًا، يدرك أن القضية الفلسطينية ليست مجرد نزاع محلي، بل هي قضية جوهرية تتعلق بالعدالة والكرامة الإنسانية، وأن حلها هو المفتاح لاستقرار وأمن المنطقة بأسرها.
إسرائيل، في ظل هذه المعادلة الجديدة، تجد نفسها مضطرة إلى إعادة التفكير في سياساتها. لكن هذا التفكير لن يكون كافيًا إذا لم ترافقه تغييرات جوهرية في الموقف الدولي، وخاصة في موقف الولايات المتحدة. فقد أصبح واضحًا أن دعم أمريكا المطلق لإسرائيل، دون اعتبار لحقوق الفلسطينيين، لن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمة. وعلى أمريكا أن تدرك أن بقاء إسرائيل ككيان مستقر وآمن لن يتحقق إلا من خلال تحقيق العدالة للفلسطينيين، وليس من خلال مزيد من القمع والاحتلال.
الفلسطينيون، الذين أظهروا إصرارًا لا يتزعزع على حقوقهم، أثبتوا أنهم ليسوا وحدهم في هذا الصراع. فالقضية الفلسطينية أصبحت اليوم محورًا لتحالفات جديدة تتشكل في المنطقة، وتربط أمنها واستقرارها بمصير الفلسطينيين. هذه التحالفات، التي تضم قوى مقاومة عربية وإسلامية، تمثل تحديًا حقيقيًا للنظام العالمي الذي تسعى أمريكا إلى فرضه في الشرق الأوسط. وإذا استمرت الولايات المتحدة في تجاهل هذه الحقائق، فإنها لن تفقد فقط السيطرة على المنطقة، بل قد تجد نفسها في مواجهة واقع جديد لا تستطيع التعامل معه بالوسائل القديمة.
في النهاية، يمكن القول إن المعركة في فلسطين لم تعد مجرد معركة بين الفلسطينيين وإسرائيل، بل أصبحت معركة بين العدالة والهيمنة، بين الحق والظلم. وما لم يتم التوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية، فإن المنطقة ستظل محكومة بالصراع وعدم الاستقرار، وستظل إسرائيل تواجه خطر الوجود، ليس فقط من المقاومة الفلسطينية، بل من الشعوب والأحرار في جميع أنحاء العالم الذين أدركوا أن فلسطين هي قضية إنسانية عادلة تستحق الدعم والنضال.
بيسان عدوان | موقع الهدف