2024-11-26 12:02 ص

ما بعد خطاب محمود عباس في تركيا: شروط الفاعلية والاستثمار

2024-08-26

أثارت تصريحات الرئيس محمود عباس، من على منصة البرلمان التركي، حول قراره الذهاب رفقة قيادة منظمة التحرير إلى قطاع غزّة، موجةً من ردود الفعل المتباينة، لكنها وبكل الأحوال حركت المياه الراكدة، وأعادت من جديدٍ النقاش حول الممكن والمتاح، ومساحات الفعل التي يمكن استثمارها، في ظلّ انسداد الأفق السياسي، وحالة الاستعصاء أمام الحرب المفتوحة على قطاع غزّة.

حمل تصريح محمود عباس أهمّيته من توقيته، ومكانه، ورسائله، إذ كان في سياق اتجاه أبي مازن شرقاً، في زيارتين لروسيا وتركيا، سبقهما إعلان بكين، واتّفاقٌ جديدٌ على مسارٍ دقيقٍ ومحددٍ لإنهاء الانقسام، عبر حكومة وحدةٍ وطنيةٍ، ويأسٌ فلسطينيٌ رسميٌ من أيّ دورٍ أميركيٍ فاعلٍ، سواء في إنهاء الحرب على قطاع غزّة، أو في المساعدة بدفع مسار ٍسياسيٍ للأمام، قد يفضي لدولةٍ وإنجازٍ لمشروعٍ وطنيٍ فلسطينيٍ.

مباشرةً بعد عودته إلى رام الله، تقدم أبو مازن بطلبٍ لإسرائيل لتنسيق إجراءات وصوله إلى القطاع، وهو يعلم مسبقاً رفض تل أبيب القاطع تنسيق مثل هذه الزيارة حتّى لو قدم الطلب قبل الحرب. إذ نجحت إسرائيل خلال العقدين الفائتين بتثبيت قواعد لعلاقةٍ مشوهةٍ بين الضفّة والقطاع، أفضت إلى اعتبار زيارة أيّ مسؤولٍ من رام الله إلى غزّة حدثاً غير طبيعيٍ، وهذا ما بني بكلّ تأكيدٍ على الانقسام الفلسطيني. قال بنيامين نتنياهو مفاخراً أنّه صاحب إنجاز منع قيام الدولة الفلسطينية، عبر وقوفه حاجزاً يحول بين الفلسطينيين ووحدتهم، وهذا ما شدد عليه مسؤولون إسرائيليون عدّة برفضهم "فتحستان" تماماً كما "حماستان".

يمثّل الرفض الإسرائيلي الاختبار الحقيقي لقرار الرئيس محمود عباس، ومنظّمة التحرير والسلطة من خلفه، فهل هذا القرار كان مجرد غضبٍ إذ رآه عديدون متأخرًا، أم تحولٌ استراتيجيٌ سيتم البناء عليه؟ خصوصاً أن الخطاب قد دعا الأمم المتّحدة لدعم هذه الخطوة. وهل هذه الخطوة، تحولٌ باتجاه إنهاء الانقسام، وبالتالي تنسيقٌ معمقٌ مع حماس وفواعل القطاع؟ أم خطوةٌ ضمن ترتيبات اليوم التالي تقوم على غزّة بلا حماس؟

ترتيبات منظّمة التحرير والسلطة الفلسطينية خلال الأسابيع القادمة هي من ستقول كلّ شيءٍ، فمن جهةٍ، تسود في أوساط القيادة في رام الله قناعةً شبه تامةٍ، بأن استمرار قواعد اللعبة على ما هي عليه، تحديداً في العلاقة مع تل أبيب وواشنطن، عبثٌ لا طائل منه، ومن جهةٍ أخرى هناك قناعةٌ بأن الوصول إلى دولةٍ فلسطينيةٍ على القواعد المنشأة لأوسلو خطٌ أحمر إسرائيليٌ، بل إن إسرائيل ترمي وبشكل واضح ومعلن لالتهام هوامش عمل السلطة في الضفّة الغربية، المنكمشة أصلاً. بالمقابل، ومنذ بداية هذه الحرب، واجهت السلطة ومنظّمة التحرير غضباً وانتقاداتٍ من الشارع لموقفها، الذي وصف بالسلبي تجاه الحرب على القطاع، إذ اتهمت بتجفيف الشارع بعد قمع تظاهرة "مجزرة المعمداني"، واعتبرت متخاذلةً ولم تفعّل العديد من أدواتها بهذا الاتجاه، لكن المواقف الرسمية بهذا الشق عكست حالة اضطرابٍ، فتراوحت بين مواقفٍ تحمل حماس مسئولية ما حدث، خاصّةً أنّها لم تقدم على التشاور واتخاذ قرار الحرب بالإجماع، وبين تلك التي أعلنت دعمها المطلق للمقاومة.

في حقيقة الأمر، هذه الاضطرابات ليست محصورةً بالمؤسسات الرسمية وممثليها، بل هي جزءٌ من أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية، التي عجزت حتّى اللحظة، وبعد أكثر من عشرة أشهرٍ على هذه الحرب، عن أن تخرج بقالبٍ سياسيٍ جامعٍ ومستجيبٍ، فما تزال "سياحة المصالحة" تراوح ذات النطاقات، تعلن الأطراف كلّها، وأهمّها فتح وحماس، عن السعي الحثيث للوحدة الوطنية والالتزام بحكومة وحدةٍ، وبرنامج سياسيٍ موحدٍ، وإطارٍ قياديٍ مؤقتٍ جامعٍ، وتمهيدٍ لانتخاباتٍ عامةٍ، لكن ما يعطل كلّ هذه الجهود ثلاثة أزماتٍ يجب تجاوزها للذهاب خطوةً إلى الأمام.

الأزمة الأولى، هي أزمة الحكم، إذ أفرزت طبيعة الحقل السياسي الفلسطيني ثنائيةً قطبيةً غير ديمقراطيةٍ، فترى فتح أنّها الأجدر بالحكم، وهي صاحبة المشروع السياسي، وبناء المؤسسات والممهدة لذلك عبر منظّمة التحرير وإدارتها منذ العام 1968. في المقابل، ترى حماس أنّها صاحبة شرعية المقاومة، ولا يمكن أن تمنح القوّة للسلطة الفلسطينية التي تمثّل فتح. وحتّى مع التقدم في جولات المصالحة هنا أو هناك، تشبثت حماس بالاحتفاظ بالأمن في غزّة، وقبلت بالشراكة على مستوى المؤسسات المدنية والخدمية والسياسية، وهذا ما رأته فتح محاولةً من حماس للتخلص من أعباء الحكم، وتوترات العلاقة مع الشارع، بسبب الخدمات، وهي هديةٌ مجانيةٌ لا ترغب بتقديمها لحماس، كونها ترى أنّ هذه محاولةٌ لنسخ تجربة حزب الله، التي تدير فيها الدولة، ويحكم الحزب.

الأزمة الثانية، هي أزمة البناء السياسي، فلم تعد الفصائلية الفلسطينية بنسختها الحالية قادرةً على المضي قدماً بالتصدي لتحديات المشروع الوطني، فإذا كانت الفصائلية الأولى "الوطنية" قد تمكنت من تجديد دماء منظّمة التحرير وتثويرها عام 1968، والفصائلية الثانية "الإسلامية" قد أبقت خيار المقاومة قائماً بعد اتّفاقية أوسلو، فإن الفصائلية برمتها وصلة لحالة الانسداد، وعدم القدرة على التفاعل مع الشارع وحساسياته، فبعيداً عن حماس وفتح لم يعد للفصائل الأخرى أيّ وزنٍ حقيقيٍ في الشارع، ولم تتمكن خلال السنوات الماضية من تشكيل ضغطٍ مفضي لإنهاء الانقسام، أما الفصيلان الكبيران، فهما أمام أزمة مشروعٍ سياسيٍ ملتبسٍ لكلٍّ منهما، يعيش تناقضاتٍ خلقت وستخلق أزماتٍ داخليةً متصاعدةً، وهذا ما يضع حماس على سبيل المثال أمام معضلةٍ ستتصاعد مع النهايات السياسية لهذه الحرب، في تكرارٍ لتجربة منظّمة التحرير إبان خروجها من بيروت.

الأزمة الثالثة، أزمة المشروع وتحالفاته، وهنا نقصد المشروع الوطني الجامع المتفق عليه، الذي كان يعرف في حقبة حيوية منظّمة التحرير بتوافقات الحدّ الأدنى، والذي يسمح لكلّ لاعبٍ سياسيٍ بمرونته اللازمة في إطار رؤيةٍ جامعةٍ. اليوم تغيب هذه العقلية في ظلّ انسداد المسار السياسي، وسقوط كلّ محاولات إنقاذ مقاربة "حلّ الدولتين" السائدة في الخطاب والسلوك السياسي الدولي، منذ نهاية الحرب الباردة على الأقل، ومع وجود برنامجٍ نقيضٍ تماماً يقدم المقاومة مشروعاً، تعززت علاقاته الإقليمية المستقلة وأصبح جزءاً من مشروعٍ واسعٍ على مستوى المنطقة.

إنّ تخطي الأزمات الثلاث، شرطٌ لتحول الخطاب إلى نقطة انتقالٍ استراتيجيٍ، فما صدر من توضيحٍ لاحقٍ اتصل بتعزيز مجموعةٍ من قواعد العمل السياسي السائدة والناظمة لبرنامج الرئيس منذ سنواتٍ، ومنها تعزيز الجهد السياسي للحصول على الدولة كاملة العضوية في الأمم المتّحدة، والتأكيد أنّ الحكومة يجب أن تتمكّن من ممارسة مهامها على أراضي الدولة الفلسطينية كافّة، بما فيها ما يتصل بملفي الإغاثة وإعادة الإعمار في غزّة، والتأكيد على استعادة الوحدة تحت إطار المنظّمة.

رغم أهمّية خطوة الرئيس "أبي مازن"، التي قد تتلوها خطواتٌ أخرى تعزيزيةٌ، مثل التوجه إلى رفح والضغط من هناك رفقة مسؤولين أممين، وربّما رؤساء، إلّا أنّ نقطة التحول، التي يمكن أن تمهد لتخطي الأزمات الثلاث، وتقود إلى البناء الوطني السليم، تكمن في شروط التأسيس لسياسةٍ وطنيةٍ توافقيةٍ وانتقاليةٍ، من خلال تشكيل وفدٍ موحدٍ للمفاوضات المتصلة بشقين: شق الصفقة والهدنة، وشق اليوم التالي، وتفعيل الإطار القيادي الموحد، وتفعيل مخرجات اتّفاق بكين، وهذا يشكل العودة لسياسة توافقات الحدّ الأدنى، التي تسمح بالعمل الوطني المشترك.

المصدر: العربي الجديد