بقلم: ناصر قنديل
– كانت المنطقة كلها وشعوبها وحركات المقاومة معها تحتاج إلى هذه المنازلة التي جرت فجر أمس، بين وحدات من المقاومة في جنوب لبنان وجيش الاحتلال على الحافة الأماميّة للجبهة، بعد سلسلة الضربات المتلاحقة التي أصابت جسم المقاومة وبنيتها وبيئتها وقادتها وصولاً إلى اغتيال قائدها الأعلى ورمزها السيد حسن نصرالله، لمعرفة حدود صدق الرواية الإسرائيلية عن انهيار المقاومة، ومقابلها الرواية التي قدّمها نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم عن سلامة البنية القتالية للمقاومة وروحها المعنوية ومنظومة القيادة والسيطرة لديها.
– اختار جيش الاحتلال للمنازلة الأولى أفضل وحداته، وحدة ايغوز، ليس لأن المهمة استطلاعية كما يقول بعض المحللين العسكريين السطحيين، بل لأن الوحدة التي يشكل الاستطلاع إحدى مهامها هي وحدة المهمات الخاصة أيضاً في لواء جولاني أحد أهم ألوية النخبة في جيش الاحتلال، وقد ورد في تعريفها أنها، وحدة إيغوز أو النواة، وحدة استطلاع استخبارية خاصة من الوحدات الخاصة التابعة للواء جولاني الصهيوني، وهي وحدة المشاة المتخصصة في حرب العصابات وحرب العصابات المناهضة لقوات الجيش الرسميّة، هي جزء من القيادة الشمالية للواء غولاني، وهي أيضاً اختصار لمكافحة حرب العصابات والحرب الصغرى.
– في تاريخ الحرب بين المقاومة وجيش الاحتلال، كانت ايغوز شريكاً رئيسياً في منازلته الكبرى، عندما يريد جيش الاحتلال الاطمئنان أنه أرسل أفضل وحداته المتخصّصة بالحرب الصغرى وحرب العصابات، ولعل العودة إلى يوميات حرب تموز 2006 عندما قرّر جيش الاحتلال حتمية الذهاب الى الحرب البرية، تكشف لنا أنه فعل الشيء نفسه فكلّف وحدة ايغوز بمهمات القتال على أبواب بنت جبيل ومارون الراس والعديسة، ومثلما حدد الجبهة ذاتها واختار القوة ذاتها، حصد النتيجة ذاتها.
– هذه المرة كان عديد المقاومة أضعاف ما كان عليه في حرب تموز 2006، وكانت أسلحتها وتكتيكاتها أكثر تطوراً وكفاءة ومدى، لكن معنوياتها أيضاً كانت مثل معنويات المقاومين الذين قاتلوا يومها، مضافة إليها الرغبة الجامحة بالانتقام لدماء سيد المقاومة الشهيد، ويشكل مجرد اختيار خط الجبهة من مارون الراس إلى العديسة وتكليف ايغوز بالمهمة، إشارة كافية للمقاومة عن الحالة المعنوية الهشة لقيادة وضباط وجنود جيش الاحتلال، والجبهة لها وظيفة الحصول على نصر سريع وتفادي معارك مكلفة لتحقيق الهدف، بقياس القرب والبعد عن نهر الليطاني. وهذه الجبهة تقود إلى أقرب نقاط التماس مع مجرى النهر، واختيار الوحدة يكشف درجة القلق من الفشل إذا كلفت وحدة أقل كفاءة ومهارة.
– قيادة المقاومة التي كانت تضع في حسابها هذا الاحتمال مع بدء الحديث عن عملية بريّة، وقناعتها باستحالة الاكتفاء بالضربات الجوية بينما الصواريخ تتساقط على المستوطنات ومواقع جيش الاحتلال في شمال فلسطين المحتلة، استعدّت للمنازلة دون الحاجة لاستدعاء قوات الرضوان، وهي تعلم أن الحشد الموجود في شمال فلسطين يضم ست فرق هي أهم ما في جيش الاحتلال، تتقدّمه على الحافة الأمامية ستة ألوية هي الأهم بين الفرق المحتشدة، وبينها لواء جولاني ولواء مظليين واللواء السابع مدرعات، وهذا يعني حشد 70 ألف ضابط وجنديّ منهم 15 ألفاً على الخط الأمامي، وتكليف وحدة من 600 ضابط وجنديّ بإحداث الاختراق الأول، سقط منهم قرابة الـ 100 بين قتيل وجريح، يؤكد أننا أمام مهمة حرب لا استطلاع. وبعد هذا الارتطام الأول ترتسم صورة المواجهات المقبلة، وقيادة كيان الاحتلال وجيش الاحتلال لا تستطيع التراجع عن الحرب البريّة، لكن في المرات المقبلة سوف يأتي ضباط وجنود جيش الاحتلال وهم مصابون بمتلازمة 2006 التي ثبت أنها لا تزال هي القدر الذي ينتظر جيش الاحتلال في كل مواجهة مع المقاومة، بينما سوف يظهر المقاومون بأساً أشد من بأسهم في حرب 2006، وهم أكثر عدداً وعدة ومعنوياتهم مشفوعة بغضب الانتقام.
– خيار التراجع ليس متاحاً أمام جيش الاحتلال، وقدره أن يخوض هذه المواجهة حتى النهاية، والمقاومة جاءتها الفرصة التاريخيّة الذهبيّة لإعادة التوازن الذي بدا أنه أصيب بالاختلال مع الهيمنة الجويّة والتكنولوجيّة لمخابرات الاحتلال وجيشه ومن خلفه الدعم الأميركي المفتوح، وقد أصيب الطرفان بلوثة دونالد رامسفيلد التي أدّت إلى ظهور شعوذة الحديث عن حرب بخسائر صفر تُحسَم من الجو، استناداً إلى درجة التطوّر التقني للطائرات الحربية الأميركية بما جعل رامسفيلد يقول يومها إنه أنهى زمن مفكر الحرب الأول كارل فون كلاوزفيتز، صاحب مقولة «تُحسَم الحرب عندما تطأ أقدام الجنود الأرض»، وإنه سوف يحسم حروباً دون أن تطأ أقدام الجنود الأرض، وقد أغرت حرب يوغوسلافيا العقل الأميركي بهذه النظريّة، حتى أن جيش الاحتلال اختار دان حالوتس كرئيس للأركان وهو قائد سلاح الجو وكان ذلك يحدث للمرّة الأولى، وأصيبت هذه النظرية بفشل ذريع في حرب تموز ما أجبر جيش الاحتلال على العمليّة البرية، التي فازت بها المقاومة وحققت عبرها نصرها التاريخيّ. وجاءت هذه المرة الثورة التكنولوجية المعلوماتية لتطبيقات التعقب والذكاء الصناعيّ والتعامل مع الداتا المكثفة لآلاف الأشخاص خلال ثوانٍ قليلة، لتحلّ مكان نظرية الحرب الجوية، وتصنع وهماً بديلاً هو الفوز بالحرب عبر قطع الرؤوس، والرهان على أن ذلك سيتكفل بتحقيق النصر، لكن ذلك لم يحدث وكان لا بدّ من الحرب البرية، ثم جاءت هذه النتيجة الأولى التي رأيناها كافية للقول إن كلاوزفيتز ينتصر مجدداً، وإن الحرب تُحسَم عندما تطأ أقدام الجنود الأرض، وإن هناك مقاومة تعهّدت بقطع أقدامهم بمجرد أن تطأ أرضاً يعتبرها المقاومون مقدّسة.
المصدر: البنـــاء