2025-03-09 03:48 ص

الفلسطينيون والعروبة بين الرومانسية والواقعية السياسية

2025-03-05

بقلم: سوسن مهنا


مع انتهاء كل حرب إسرائيلية على غزة يعود السؤال ذاته ليطرح نفسه بإلحاح: ماذا بعد؟ إلا أن الإجابة هذه المرة تبدو أكثر تعقيداً من أي وقت مضى. فالحرب الأخيرة لم تترك قطاع غزة فقط تحت أنقاض المباني المدمرة، بل هزت أسس المعادلات السياسية والعسكرية التي حكمت المشهد لعقود.

وبينما تتسابق الأطراف المختلفة لطرح مشاريع إعادة الإعمار يبقى السؤال الجوهري: هل هناك فسحة أمل حقيقية لأهل غزة، أم أن هذه الحرب ستدخل القطاع في مرحلة جديدة من الحصار والتجاذبات الإقليمية والدولية؟

غزة: بين إعادة الإعمار وتحديات المستقبل

ما يميز هذه المرحلة أن الدمار ليس مجرد خراب مادي، بل يشمل أيضاً البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للقطاع، في ظل الحديث عن مشاريع كبرى لإعادة الإعمار، من مقترحات إسرائيلية - أميركية لتحويل غزة إلى "ريفييرا اقتصادية" إلى مشاريع إقليمية تهدف إلى إعادة تأهيل القطاع وفق رؤية سياسية جديدة، يتزايد القلق الفلسطيني من أن يكون مستقبل غزة مرهوناً بصفقات سياسية تهدد جوهر القضية. في المقابل هناك إرادة فلسطينية صلبة تأبى الانكسار، تتمثل في الحاضنة الشعبية لـ"المقاومة"، وفي محاولات تعزيز وحدة الصف الفلسطيني لمواجهة التحديات القادمة.

إذاً، هل هناك فسحة أمل؟ الأمل، وإن بدا خافتاً وسط هذا الركام، لا يزال موجوداً في قدرة الفلسطينيين على فرض إرادتهم على طاولة إعادة الإعمار، وفي إمكان بلورة مشروع عربي أو دولي يضمن عدم تحويل غزة إلى ساحة تجارب سياسية على حساب حقوق شعبها، لكن هذا الأمل سيظل مرهوناً بمدى قدرة الفلسطينيين على تجاوز الانقسامات، وبكيفية تعامل القوى الإقليمية والدولية مع معضلة غزة التي باتت أكبر من كونها مجرد ملف إنساني، بل عقدة جيوسياسية في قلب الصراع العربي - الإسرائيلي.

المراحل التي تنقلت بينها "القضية الفلسطينية"

شهدت القضية الفلسطينية تحولات جوهرية منذ منتصف القرن الـ20، بدءاً من الرومانسية الثورية التي غذت الصراع المسلح ضد إسرائيل، وصولاً إلى محاولات الواقعية السياسية التي تسعى إلى إيجاد حلول عملية للصراع، وبينما استمرت بعض الفصائل في تبني نهج "المقاومة المسلحة"، فإن السياسات العربية شهدت تغيراً واضحاً في التعامل مع هذه الفصائل، حيث باتت بعض الدول ترى في نهجها تهديداً لاستقرار المنطقة ومصالحها الوطنية.

المحاور التي من المتوقع أن تناقشها القمة العربية الطارئة في القاهرة

من هنا تأتي القمة العربية الطارئة المزمع عقدها في العاصمة المصرية القاهرة، في الرابع من مارس (آذار) الجاري (غدا)، والتي من المتوقع أن تركز على محاور رئيسة عدة تتعلق بالقضية الفلسطينية وتطوراتها الأخيرة، وأبرزها مناقشة خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لإعادة تطوير غزة، ومن المتوقع أن تبحث القمة في الرد العربي الموحد على خطة ترمب لإعادة تطوير غزة وتحويلها إلى منطقة سياحية، والتي تتضمن مقترحات لإعادة توطين سكان القطاع في دول مجاورة مثل مصر والأردن، وربما لبنان وسوريا.

أيضاً ستركز القمة على بند إعادة إعمار القطاع في ظل الدمار الواسع الذي شهده، وستبحث في سبل وآليات إعادة الإعمار، بما يضمن تحسين الأوضاع المعيشية للفلسطينيين، مع تأكيد ضرورة أن تكون هذه الجهود ضمن إطار يحفظ الحقوق الفلسطينية ولا يتعارض مع الثوابت الوطنية، وقد تدعو القمة إلى تكثيف الجهود لتحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية، باعتبارها خطوة أساسية لتعزيز الموقف الفلسطيني في مواجهة التحديات الراهنة.

وفي السياق تعد دعوة رئيس الجمهورية العربية السورية الجديد أحمد الشرع لحضور القمة خطوة مهمة نحو إعادة دمج سوريا في المنظومة العربية بعد التغيرات السياسية الأخيرة بصورة عامة تهدف القمة إلى صياغة موقف عربي موحد وقوي يدعم الحقوق الفلسطينية، ويرفض أي محاولات لفرض حلول تنتقص من هذه الحقوق، مع تأكيد أهمية التضامن العربي في هذه المرحلة الحساسة.

فهل يمكن للعمل العربي المشترك وضع حد للمغامرات العسكرية التي خاضتها الفصائل الفلسطينية في مراحل مختلفة؟ وهل يمكنه بلورة رؤية استراتيجية تحفظ مصالح الشعب الفلسطيني ضمن معايير واضحة ومستقرة؟

الرومانسية الثورية والمسار العسكري

عكست تجربة الفصائل الفلسطينية منذ الستينيات نزعة رومانسية ثورية، حيث سادت قناعة بأن الكفاح المسلح هو السبيل الوحيد لتحرير فلسطين، ومع ظهور "منظمة التحرير الفلسطينية" عام 1964، باتت هذه الفصائل جزءاً من استراتيجية عربية أوسع، حيث استخدمت في بعض الأحيان كورقة ضغط على إسرائيل والقوى الدولية، لكن هذه المغامرات العسكرية قادت إلى نتائج متباينة. وذلك وكما حدث في سبتمبر (أيلول) الأسود 1970 في الأردن، والحرب الأهلية اللبنانية (1975-1989)، حيث اصطدمت الفصائل الفلسطينية بمصالح الدول المستضيفة، مما أدى إلى تراجع الدعم العربي لها، وأيضاً التورط في صراعات إقليمية، كما جرى خلال الحرب الأهلية اللبنانية والتدخل السوري، ثم لاحقاً في الانقسام بين "فتح" و"حماس"، مما أضعف القضية الفلسطينية بدلاً من تعزيزها. ومن العوامل الأساسية التي أضعفت "القضية"، الحروب غير المحسوبة العواقب، مثل المواجهات العسكرية مع إسرائيل التي لم تحقق مكاسب استراتيجية دائمة، كما حدث في الانتفاضتين الأولى (انتفاضة الحجارة 1987) والثانية (انتفاضة الأقصى 2000)، وحروب غزة منذ عام 2008.

نحو الواقعية السياسية

شهدت العقود الأخيرة تحولاً كبيراً في النهج العربي تجاه القضية الفلسطينية، إذ أصبح الأمن والاستقرار الإقليميان أولوية على حساب دعم الفصائل المسلحة، ويمكن تلخيص التحول العربي في النقاط التالية، اتفاقات السلام، والتي بدأت في مصر مع معاهدة (كامب ديفيد 1979)، وتبعها الأردن في (وادي عربة 1994)، وصولاً إلى اتفاقات التطبيع الأخيرة مثل (اتفاقات أبراهام 2020)، هذه الاتفاقات عكست إدراكاً عربياً بأن المواجهة العسكرية المستمرة ليست مجدية.

التعامل البراغماتي مع القضية الفلسطينية، بحيث لم يعد هناك إجماع عربي على دعم "المقاومة المسلحة"، وتحولت القضية الفلسطينية إلى ملف دبلوماسي وإعلامي أكثر منه عسكري، من هنا بدأ التضييق على الفصائل الفلسطينية المسلحة، وبدأت بعض الدول العربية تنظر إلى تلك التنظيمات المسلحة كعبء أمني يهدد استقرارها، خصوصاً في ظل علاقتها وتحالفها مع محاور إقليمية مثل إيران وتركيا، من هنا فضلت الدول العربية تقديم دعم اقتصادي وتنموي للسلطة الفلسطينية بدلاً من دعم الفصائل المسلحة.

ولضمان عدم تكرار المغامرات العسكرية غير المحسوبة، يمكن للدول العربية الدفع نحو صياغة معايير واضحة تحكم العمل الفلسطيني، بحيث يتم تحقيق الحد الأقصى من المكاسب السياسية مع تقليل الخسائر العسكرية، كيف؟

ذلك عبر ضبط القرار العسكري الفلسطيني من خلال اشتراط التنسيق مع الدول العربية في أية مواجهة عسكرية لتجنب ردود الفعل الإسرائيلية التي قد تؤدي إلى كوارث إنسانية، وإعادة هيكلة "منظمة التحرير"، بحيث تكون الممثل الوحيد المعترف به دولياً، وتستعيد شرعيتها كجهة تنسق العمل الفلسطيني بعيداً من الأجندات الفصائلية الضيقة، وذلك عبر التركيز على الدبلوماسية الدولية للحصول على مكاسب سياسية، عبر الأمم المتحدة والتحالفات الدولية، بدلاً من التركيز على المواجهة المسلحة، وهذا لا يمكن أن يتم إلا عبر إيجاد بدائل اقتصادية للفلسطينيين، لأن استمرار الأزمات المعيشية يعزز مناخ التطرف والمواجهة العسكرية، لذا فإن تحسين الاقتصاد الفلسطيني سيكون عاملاً أساساً في تهدئة الأوضاع.

ولكن على رغم إمكان تطبيق هذه الحلول فإن هناك تحديات تواجه أية محاولة عربية لضبط العمل العسكري الفلسطيني، منها، النفوذ الإقليمي لإيران وتركيا، حيث تمتلكان علاقات قوية مع بعض الفصائل الفلسطينية، وقد يستخدمانها كورقة ضغط في صراعاتهما مع الدول العربية. أيضاً عدم وجود تنسيق ورؤية فلسطينية واحدة، والانقسام بين "فتح" و"حماس" يعقد أي جهود لضبط العمل العسكري، لأن كل طرف لديه حساباته الخاصة، ومن التحديات الموقف الإسرائيلي المتصلب، إذ تعتمد إسرائيل سياسة الضربات الاستباقية، مما يعزز خيار "المقاومة" بدلاً من التهدئة، بخاصة إذا استمرت في سياسة الاستيطان وتهويد القدس، كما أن بعض الدول العربية تواجه أزمات داخلية تجعلها غير قادرة على لعب دور فعال في ضبط الصراع الفلسطيني.

غياب مشروع عربي واحد

وعلى رغم إمكان طرح مشاريع عربية بديلة فإن غياب الإرادة السياسية الموحدة، والتباينات في المصالح الإقليمية، والضغوط الدولية تجعل من الصعب تشكيل مشروع عربي موحد يواجه مشروع الرئيس الأميركي ترمب أو أي مشاريع مشابهة تهدف إلى تغيير هوية غزة بعد الحرب، ومن الصعب تصور مشروع عربي موحد مناهض لمشروع ترمب لتحويل غزة إلى "ريفييرا الشرق"، ليس فقط بسبب الانقسامات العربية الداخلية، ولكن أيضاً بسبب الضغوط الإقليمية والدولية التي تؤثر في المواقف العربية تجاه القضية الفلسطينية.

ومع ذلك هناك بعض العوامل التي قد تدفع بعض الدول العربية إلى محاولة طرح رؤية بديلة، ومنها الرفض الشعبي العربي، هناك رفض واسع بين الشعوب العربية لأي مشروع يبدو وكأنه تصفية للقضية الفلسطينية أو يتجاهل الحقوق التاريخية للفلسطينيين، وهذا قد يدفع بعض الدول إلى تبني مواقف أكثر وضوحاً ضد مشاريع إعادة الإعمار التي تخدم أجندات سياسية على حساب الحقوق الفلسطينية، وأيضاً موقف الفصائل الفلسطينية، وبخاصة "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، فلن تقبل بأي مشروع يفرض واقعاً جديداً يخدم إسرائيل، وهذا سيؤثر في أية خطة عربية مطروحة، حيث سيكون هناك صراع بين محاولات إعادة الإعمار وبين ضمان عدم تحويل غزة إلى منطقة منزوعة السلاح وخاضعة لشروط إسرائيلية.

هناك دول مثل قطر وتركيا وإيران قد تحاول الدفع بمشروع إعادة إعمار يدعم صمود الفلسطينيين بدلاً من دمج غزة في مشاريع اقتصادية تخدم إسرائيل، لكن نجاح ذلك يعتمد على توازنات القوى داخل الإقليم، كما أن مصر تلعب دوراً مركزياً في غزة، وأي مشروع عربي مضاد يجب أن يأخذ بالحسبان الدور والموقف المصري، الذي قد يكون حذراً تجاه أي مشاريع تتعارض مع التفاهمات الأمنية المصرية - الإسرائيلية.

ولكن أي مشروع عربي مناهض يحتاج إلى دعم دولي، من هنا فإن الولايات المتحدة وإسرائيل لن تسمحا بسهولة بقيام مشروع لا يخدم مصالحهما، مما يعني أن أي تحرك عربي يجب أن يكون مدعوماً بقوى دولية مثل الصين أو روسيا، وهو أمر ليس مضموناً.

الخلاصة يبدو أن الدول العربية تميل إلى الواقعية السياسية أكثر من أي وقت مضى، وهو ما يجعل أي دعم غير مشروط لـ"المقاومة المسلحة" أمراً مستبعداً، لكن في المقابل، فإن ترك الفلسطينيين لمصيرهم دون إطار استراتيجي واضح قد يدفع الفصائل إلى التصرف وفق حسابات ضيقة، مما قد يجر المنطقة إلى حروب جديدة.

حق العودة والهوية

على مدى العقود الماضية سعت إسرائيل بكل الوسائل إلى تصفية حق العودة الفلسطيني، معتبرة إياه تهديداً وجودياً لمشروعها القومي، ومن المجازر والتهجير القسري عام 1948 إلى محاولات فرض حلول سياسية تنهي هذا الحق عملياً، مثل "صفقة القرن"، ولم تتوقف تل أبيب عن استهداف جوهر القضية الفلسطينية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، هل نجحت إسرائيل في القضاء على حلم العودة نهائياً؟

من الناحية العملية تعرض حق العودة لضربات قوية، ليس فقط بسبب السياسات الإسرائيلية، ولكن أيضاً نتيجة تراجع الدعم العربي والدولي لهذا الملف، والحرب الأخيرة على غزة، وما رافقها من تدمير واسع وتهجير داخلي، تعكس نموذجاً حديثاً لمحاولات التهجير المستمر، حيث تسعى إسرائيل إلى خلق واقع جديد يجعل من غزة بيئة غير صالحة للحياة، بالتالي يدفع أهلها إما للهجرة أو للقبول بحلول تبعدهم عن حلم العودة إلى أراضيهم الأصلية، كما أن الضغط على اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسوريا، وتقليص خدمات "الأونروا"، يندرج ضمن سياسة تصفية تدريجية لهذا الحق، إلا أن إنهاء حلم العودة بصورة كاملة يظل أمراً صعباً، لعدة أسباب جوهرية، منها البعد القانوني والتاريخي، وعلى رغم كل الضغوط لا يزال حق العودة مكفولاً بموجب القرار الأممي 194، وعلى رغم محاولات طمسه، لا يمكن لإسرائيل أن تلغيه بقرار أحادي الجانب.

ولم يتمكن الزمن من محو الذاكرة الفلسطينية، حيث لا تزال الأجيال المتعاقبة من اللاجئين متمسكة بحقها في العودة، حتى في ظل محاولات إعادة توطينهم أو تهجيرهم إلى أماكن أخرى. هنا لا بد من الإشارة إلى فشل البدائل المطروحة، والتي لم تنجح في فرض حلول بديلة، سواء التوطين في الدول المستضيفة أو التعويض المالي، لأن الفلسطينيين يعدون العودة جزءاً لا يتجزأ من هويتهم الوطنية.

إذاً لم تنجح إسرائيل في القضاء على حق العودة الفلسطيني بصورة كاملة، لكنها تمكنت من فرض وقائع صعبة تهدد إمكانات تحقيقه على الأرض. ومع ذلك طالما بقيت القضية الفلسطينية حية في الوجدان الشعبي والحقوقي، فإن العودة ستظل حلماً سياسياً وإنسانياً متجدداً، يتوقف تحقيقه على تطورات المشهد الفلسطيني والإقليمي والدولي.

"المشروع العربي الوحيد"

تعقيباً على هذه المعطيات حاورت "اندبندنت عربية" الأديب وعضو "الكنيست" الإسرائيلي السابق والمحامي الفلسطيني سعيد نفاع الذي اعتبر أنه "لا يوجد عمل عربي مشترك، ولم يكن مرة، اللهم إلا تصريحياً، فبيته جامعة الدول العربية ومنذ تأسيسها لم تكن إلا منتدى أطروحات تذهب بها الرياح حال إغلاق الأبواب، كما وارتباطات الدول العربية أو على الأصح بعض الأنظمة العربية في المنظومة العالمية الفاعلة وبغياب الإرادة الفاعلة، أبقت العمل العربي المشترك مجرد شعار إلا على ما ندر في مراحل أو أحداث عينية".

ويتابع المحامي نفاع، وهو من فلسطينيي 1948 ومن قرية بيت جن تحديداً، أن "الأمر الطبيعي أن ينعكس هذا على القضية العربية الملتهبة، القضية الفلسطينية. وعايش الشعب الفلسطيني المخطط الذي استهدف بلاده منذ أواخر القرن الـ19 وقدوم أول هجرة يهودية إلى فلسطين، فالقضية ليست مغامرات عسكرية أو رومانسية ثورية، بل هي عمل حتمي أبعد ما يكون عن المغامرة والرومانسية، كأداة فعل ضرورية في سبيل إحقاق الحق في غياب الأدوات الأخرى، ومنها العمل العربي المشترك المعول عليه ولو نظرياً".

ويضيف نفاع أنه "انطلاقاً من اعتقادي أنه لا وجود لعمل عربي مشترك، ولن يكون في المنظور القريب، فلا مكان لوضع معايير تحفظ مصالح الشعب الفلسطيني، ولا مكان لمشروع عربي كذلك بغياب إرادة عربية مستقلة، غياب ليس بالضرورة بفعل عوامل أو قوى خارجية، فالأسباب الذاتية الداخلية لا تقل عن الأولى تأثيراً".

ويختم بأن "المشروع العربي الوحيد الذي يمكن أن نعده مشروعاً هو المبادرة العربية - بيروت 2002، ومع هذا ظل يتيماً بسبب العجز العربي عالمياً وإقليمياً كنتاج طبيعي للعجز الداخلي الاجتماعي والسياسي، هذا إن لم يكن هذا العجز مبيتاً مع سبق الإصرار والترصد".

التغاضي عن الحق

ومن وجهة نظر أخرى يرى الأستاذ الجامعي في مادتي العلوم السياسية والإعلام، والإعلامي والصحافي اللبناني يقظان التقي أنه "يمكن التمييز في المصطلح بين نظريتين فلسفيتين في السياسة بين النظرية المثالية والنظرية الواقعية، فالاثنتان موجودتان وتدرسان ومعترف بهما، ولا يمكن إغفال الثورة إذا كانت تعبيراً عن التمرد، والحرية، ونزعة الاستقلال للشعوب، والعدالة، ومواجهة صور العنف، والمساواة الإنسانية. وتاريخ الشعوب تاريخ ثورات إنسانية واجتماعية أو سياسية وحتى دينية بهدف تطور الإنسانية".

ويتابع الأكاديمي اللبناني أن "الأديان ثورة مثالية والفلسفة ثورة والعولمة ثورة والشعر والأدب والفنون، وحتى الآن مناهج التاريخ السياسي الحديث تدرس الثورات الأميركية والفرنسية والثورات العربية، ونموذج ثورة الضباط الأحرار في مصر، وثورة الجزائر، والثورة السورية وثورة عمر المختار، وفي حكاية كل شعب ثورة، ولكنها لا تفهم إلا ببيئتها وظروفها التاريخية والسياسية والاجتماعية، والأهم في مخرجاتها، وإلا إذا كانت من نسيج الضمير الوجداني الوطني والإنساني العام وفي مدى غرسها القيم الإنسانية العامة. إذا فكرة الثورة رومانسية بطبعها أو رومنطيقية".

ويضيف الإعلامي يقظان التقي أن "الحالة العربية ليست استثناءً في ثورات الاستقلال، لكنها ثورات مثالية، ما أغرقها في متاهات جيوسياسية دفعت فيها الشعوب العربية أثماناً باهظة، وحده الزعيم العربي جمال عبدالناصر اعترف بالنكسة واستقال من الرئاسة، وعمر المختار انتهى أسيراً، وسلطان باشا الأطرش كاد يتسبب في انقراض جماعته، أبو عمار (ياسر عرفات) انتهى منفياً قبل أن يفهم اللعبة الواقعية السياسية ويعود إلى غزة، ولاحقاً رام الله لجمع شتات الشعب الفلسطيني، والشعب الفلسطيني هو الشعب الوحيد في العالم الذي لم يحصل على حق تقرير مصيره إلى الآن، والأمر يتجاوز المثالية إلى شرعة حقوق الإنسان والقرارات الدولية ذات الصلة بحقه في قيام دولته المستقلة على أرضه المحتلة، إنه صراع من أجل الحرية".

وأضاف التقي "لكن المشكلة التي طرأت في العقود الأخيرة هي في عمل المنظمات الثورية (كبلوكات أربعة)، أي العمل خارج إطار الدولة والشعوب والسيادة الشرعية الوطنية والدولية، وهذه حركات لا تلتقطها العلاقات الدولية مثل الجماعات المتشددة والميليشيات التي أنهكت الدولة العربية الحديثة، ونموذج ’داعش‘ أو الميليشيات الإيرانية، هذا ’البلوك الحديد‘ انتقل إلى الساحة الفلسطينية لأهداف وأغراض سياسية ما فوق فلسطينية، وترجمتها ’حماس‘ كفصائل ثورية في لحظة اعتبرتها مثالية لمواجهة الكيان المحتل، لكنها كلفت الشعب الفلسطيني ما لا يحتمل في مواجهة حرب إبادة إسرائيلية".

ويتابع التقي أنه "لا يمكن تكثيف واختزال النضال الفلسطيني المسلح بعبارة المثالية الرومانسية بموازاة احتلال يمثل أمرَ واقع سياسي وعبثي، ومن الظلم مقارنة حركتها بمغامرات عسكرية قادتها منظمات أخرى، لكن من الواقعية بمكان دراسة ونقد تجربتها السياسية والعسكرية ومخرجاتها الثورية المأسوية، فيما أدت إليه من كوارث ونكبة فلسطينية أكثر قسوة، نعم هذه مسؤولية العمل العربي المشترك في إرساء دولة ’ويستفاليا العربية‘ أي ’فاليا الغربية‘ هي مقاطعة ألمانية سابقة كانت مستقلة ذاتياً ضمن إطار الدولة الألمانية بروسيا جرى دمجها بعد الحرب العالمية الثانية بقرار من سلطات الاحتلال البريطانية مع أقاليم في شمال حوض الراين لتؤسس مقاطعة شمال (الراين – ويستفاليا)، على قواعد الحفاظ على أمن وخصوصية الشعوب وسيادتها ووحدتها عبر تعزيز تجربة الدولة العربية في رؤية بنيوية وحداثية، واعتبار الأمن العربي كل لا يتجزأ، وعدم التغاضي عن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بعد كل التضحيات التي قدمها، ما يعيدنا إلى نقطة الصفر، ولن يسهم في أمن واستقرار المنطقة، بل سيسهم في تفتتها إلى عصبيات وإثنيات وجماعات غير متآلفة وسيسمح لدول إقليمية أخرى غير عربية بمد يدها إلى الخرج السياسي العربي مجدداً".

المصدر: اندبندنت عربي