2025-03-10 06:10 ص

الشرق الأوسط على أكفّ العفاريت

2025-03-09

بقلم: محمد سيف الدين
يشهد جنوب سوريا تطورات متسارعة تضع المنطقة أمام معادلات جديدة، تطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل التوازنات الإقليمية. كيف تحوّلت دولنا من دول طوق كانت تمثل خط الدفاع الأول، إلى دول مطوقة عاجزة عن اتخاذ موقف حاسم أمام مشاريع تتوسع بلا قيود؟ وما السر الذي كشفه السيد نصر الله، ليصبح ذلك مفتاح اغتياله؟

في خضم هذه المتغيرات، أطلق عبد الله أوجلان دعوة مفاجئة إلى"حزب العمال الكردستاني" بإلقاء السلاح، ما يطرح تساؤلات بشأن التحوّلات في المشهد الكردي، ومدى ارتباط ذلك بالحسابات الإقليمية. أما تركيا، التي تعدّ لاعباً رئيسياً في الملف السوري، فأين موقعها وسط هذه التغيرات؟

وفي الوقت الذي يترقب فيه العالم مصير الملف النووي الإيراني خلال الأسابيع المقبلة، يبقى السؤال الأبرز: هل تتجه المنطقة نحو مواجهة جديدة، تعيد إشعال الجبهات في أكثر من ساحة؟ أسئلة مترابطةٌ أكثر مما تبدو عليه في ظاهرها.

سنحاول تفكيك هذه التساؤلات، وتحليل أبعاد المشهد الإقليمي، لفهم طبيعة التوازنات المتغيرة، والمسارات المحتملة للأحداث.

الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب السوري: توسع مريح وأهداف بعيدة
في الجنوب السوري، تتحرك "إسرائيل" بحرية تامة، مستفيدة من واقع مضطرب يمنحها هامشاً واسعاً للمناورة من دون الحاجة إلى تبريرات معقدة. تكتفي بترويج خطاب "الاحتلال الاستباقي"، مدّعية أنه درع وقائية ضد تهديدات مستقبلية محتملة. لكن التوسع الإسرائيلي هناك لا يبدو مجرد تحرك تكتيكي عابر، بل يتخذ شكل استراتيجية ممنهجة تخدم أهدافاً بعيدة المدى.

يأتي هذا التمدد في لحظة انتقالية حساسة تمر بها سوريا، إذ تتصدر أولوية تثبيت الحكم المشهد السياسي في دمشق، ما يمنح "تل أبيب" فرصة ذهبية لفرض واقع جديد على الأرض. الاحتلال الإسرائيلي، الذي يتعمّق بهدوء، يسير وفق مسار مدروس يراهن على ترسيخ وجود يصعب اقتلاعه لاحقاً.

لكن، ما هي الأهداف الحقيقية لهذا التوسع؟ وكيف يتعامل الحكام الجدد في سوريا مع هذا المشهد المعقد؟

الوقائع تشير إلى أن "إسرائيل" تسعى إلى تحقيق مكاسب استراتيجية طويلة الأمد، تبدأ من تفجير التركيبة السكانية في الجنوب السوري، وهو ما يشكّل مدخلاً لزعزعة استقرار لبنان لاحقاً. كما أن هذا التغيير الديمغرافي يعدّ إجراءً استباقياً لمنع أي تحرك مستقبلي يسعى لتحرير الأرض، إلى جانب تكريس وجود أمني وعسكري دائم يجعل دمشق رهينة للضغوط الإسرائيلية.

ولا يتوقف الطموح الإسرائيلي عند الجنوب السوري، بل يمتد إلى الحدود السورية-العراقية، حيث تسعى "تل أبيب" إلى تعزيز حضورها هناك، في تداخل مباشر مع مشهد التنافس الإسرائيلي-التركي على النفوذ داخل سوريا، خصوصاً في المناطق الكردية.

إذاً، كيف ستتبلور هذه المعادلة في ظل التطورات الإقليمية المتسارعة؟ وإلى أي مدى يمكن لـ"إسرائيل" فرض معادلات جديدة في سوريا من دون رد فعل يحدّ من طموحاتها؟

تنافس تركي-إسرائيلي وتحديات داخلية
في المشهد السوري المتغيّر، يبدو أن تركيا تمتلك حلفاء على باب "إسرائيل" (فلسطين المحتلة)، بينما تسعى "إسرائيل" بدورها إلى إنشاء حلفاء على باب تركيا. هذا التوازن الجديد ينذر بسنوات مقبلة ستكون مسرحاً لصراع نفوذ بين قوتين إقليميتين كبيرتين، حيث تتحوّل سوريا إلى مختبر استراتيجي يعاد فيه رسم خرائط القوة في المنطقة.

المعادلة تبدو سباقاً بين "ممر داوود" الإسرائيلي، الذي يسعى إلى استغلال المخاوف الأقلوية في الجنوب لترسيخ نفوذ "تل أبيب"، وبين محاولات أنقرة لإعادة تشكيل الحضور العثماني في المنطقة العربية، وهو ما يجعل سوريا ساحة مواجهة بالوكالة بين مشروعين متناقضين.

أخطاء اللحظة الانتقالية
وسط هذه التغيرات الجيوسياسية، تصدر من دمشق إشارات مقلقة قد تعكس تكراراً للأخطاء التاريخية. فبدلاً من تركيز الجهود على التصدي للتمدّد الإسرائيلي والاستفادة من الزخم العربي والإسلامي بعد سقوط النظام، يبدو أن الرئيس الانتقالي أحمد الشرع يميل إلى دغدغة مزاج داخلي انقسامي، كما ظهر في تصريحاته ذات الطابع الشعبوي، والتي قد تؤسس لمشهد حكم أحادي جديد لكن بوجوه مختلفة وحلفاء جدد.

هذا التوجه قد لا يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الانقسام الداخلي، ما يفتح الباب أمام مشاريع التقسيم، حيث يصبح الجنوب خاضعاً لسيطرة "إسرائيل" المباشرة تحت شعار "حماية الأقليات"، ويتحوّل إلى حزام أمني دائم بحكم استباقي مبرم. لكن المخطط الإسرائيلي لن يتوقف عند هذا الحد، بل قد يمتد لاحقاً إلى دمشق نفسها أو إلى البادية ومناطق النفط، في ظل استمرار تفكك الأطراف السورية بفعل الضغوط الخارجية والتوترات الداخلية.

وحتى الآن، لا تبدو هناك إرادة أو إمكانية فعلية لدى دمشق لمواجهة التوسع الإسرائيلي. بدلاً من إدارة حكم جامع يوحّد القوى الوطنية ويستثمر الزخم العربي والإسلامي في عملية ردع استباقية، تركز القيادة الجديدة على تأسيس سلطة مركزية متجانسة، وهو مسار يحتاج إلى وقت طويل، بينما تتعرض أطراف البلاد للتفكك بفعل التدخلات الخارجية والمخاوف الأقلوية.

وفي ظل استمرار الضربات الإسرائيلية للقدرات العسكرية السورية، لا يظهر أي جهد عربي أو إسلامي حقيقي، سواء دبلوماسياً أو عسكرياً، لمواجهة هذا الواقع. ومع مرور الوقت، تتآكل وحدة البلاد؛ الجنوب يخرج عن السيطرة، والشرق الكردي يبتعد نفسياً عن دمشق، والساحل يعيش حالة تنازع بين الرغبة في البقاء ضمن سوريا الموحدة والخوف من مستقبل غير محسوم. هذه النقاط تشكل ثغرات استراتيجية قد تستغلها قوى خارجية في اللحظة المناسبة لفرض أمر واقع جديد.

ما يحدث اليوم يستدعي تفكيراً استراتيجياً عميقاً من الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، أكثر من الاكتفاء بخطابات تعبّر عن نزعة انتقامية من الماضي. فالتحدي الحقيقي ليس في تسجيل نقاط على خصوم الأمس، بل في استيعاب التحولات الجارية، لأن عدم قراءة المشهد بعمق يعني تكرار الأخطاء ذاتها التي أدت إلى سقوط النظام السابق.

إن "إسرائيل" وتركيا تحركتا بذكاء لاستغلال لحظة الفراغ، ما أدى إلى انهيار التوازنات الإقليمية القديمة. وفي حال لم يتم استيعاب هذا الواقع سريعاً، فقد تجد دمشق نفسها في مأزق لا يقل خطورة عن المراحل السابقة.

وفي ظل هذا المشهد المتشابك، يظل لبنان نقطة محورية في الحسابات الإقليمية، إذ إن أي تغيير جوهري في سوريا سينعكس حتماً على المعادلات السياسية والأمنية في بيروت. فهل يصبح لبنان ساحة فرعية لصراع القوى الكبرى في سوريا؟ أم ينجح في تفادي التداعيات التي قد تعيد تشكيل خريطته السياسية والأمنية من جديد؟