سلمان بونعمان
فاجأت المقاومة الفلسطينية، يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، الاحتلال الإسرائيلي والعالم بأسره، وهي تُقدم على خطوة عسكرية جديدة غير مسبوقة في تاريخ الصراع مع الاحتلال، إذ توغّلت بشكل نوعي واقتحمت برًّا وبحرًا وجوًّا مستوطنات غلاف غزة التي أُقيمت قبل 75 عامًا، ناقلة بذلك المعركة إلى أرض العدو، ومعلنة حركة “طوفان الأقصى” المبدعة من خلال أزيد من 50 نقطة اشتباك مباشر، تمكنت فيها من قتل وأسر وجرح الآلاف، وهو إنجاز بقي عزيزًا لعقود.
الاجتياح البري على قرى ومدن الغلاف والزحف على القواعد العسكرية وصولًا إلى قيادتها، وشلّ حركة الاتصالات وأجهزة الاستشعار والتشويش على القبة الحديدية واستعمال أدوات مبدعة وتقنيات متطورة، وإعداد أمني محترف وتخطيط استراتيجي دقيق، كل ذلك يذكرنا بملحمة العبور العبقرية للجيش المصري في 6 أكتوبر/ تشرين الأول من حرب 1973، وتدمير خط بارليف الذي كانت “إسرائيل” تتبجّح بعدم قدرة أي جيش في العالم على عبوره، بالأحرى تفكيكه.
زرع “طوفان الأقصى” الثقة في الذات والاعتزاز بالقدرة على الانتصار، وأعاد الاعتبار لقيم الكرامة والشجاعة ومعاني العزة لدى الأمة بأسرها، فقد بددت هذه العملية البطولية الأوهام الآتية:
وهم قوة المحتل وقدرته الخارقة على الاستباق الأمني والتجسس العسكري على مخططات المقاومة وإجهاضها قبل التنفيذ، وفي ذلك تبديد لوهم الاستخبارات القوية عالميًّا وإقليميًّا وتحطيم أسطورة الموساد.
وهم الجدران العازلة والسياجات الأمنية المحصّنة والقواعد العسكرية المتماسكة القادرة على كشف تحركات المقاومة وتدميرها قبل وصولها إلى الهدف.
وهم أسطورة الجيش الذي لا يقهر، فقد أثبتت المقاومة أن الكيان الصهيوني ليس وحشًا خرافيًّا مطلق القدرات، إذ يمكن إلحاق الأذى به وتلقينه دروسًا مؤلمة، وصولًا إلى إذلال سمعة الجيش الإسرائيلي والانتصار الساحق عليه في لحظات الاشتباك المباشر.
وهم الأمن الشامل والمطلق في جيوب الاستيطان والاستقرار النفسي والاجتماعي والاقتصادي في هذه التجمعات.
وهم التخلص من القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع مع المشروع الصهيوني، وتكريس التطبيع بديلًا للحقوق العادلة للشعب الفلسطيني.
وهم الأمن من المحاسبة، والاستمرار في استباحة المقدسات وتدنيس المسجد الأقصى، وتوسيع الاستيطان وتعذيب الأسرى دون أي عقاب أو رد فعل قوي ومؤلم من المقاومة.
وهم تأبيد الانهزام العربي واستعصاء فعل المقاومة وفقدان الجدوى منها في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الأمة، ولذا أكّد النموذج الانتفاضي المسلح أنه يمكن لمجموعات صغيرة مؤمنة وفرق مدرّبة وكتائب مسلحة، تحقيق نصر ساحق وسط سلسلة من الهزائم والانكسارات المتتالية مع المشروع الصهيوني.
نموذج انتفاضي جديد
تدشّن المقاومة في حركة “طوفان الأقصى” نمطًا انتفاضيًّا جديدًا يقوم على الصدمة المقرونة بالإبداع والتفكير خارج المتوقع، فهو اقتحام يختار الزمن والسياق بدقة، ويراكم الخبرة ويتعلم من الدروس، كما أنه يقرأ عقل العدو ونفسيته وآليات اشتغاله، مع قدرة هائلة على تكثيف وعي الأحداث وقراءة الوقائع، فضلًا عن الصبر والنَّفَس الطويل والإعداد الصامت إلى حين وقوع الانفجار الانتفاضي.
ويفتح هذا النمط الانتفاضي البديع الباب أمام طريقة تفكير جديدة غير مسبوقة في المواجهة مع المشروع الصهيوني منذ نكبة 1948، ما يشي بانطلاق مرحلة جديدة من تاريخ الأمة العربية والإسلامية، مرحلة انبعاث واستنهاض في مواجهة سياسات الحصار والإبادة والتهجير والاحتلال والتطبيع، فالمقاومة صنعت مشهدًا مغايرًا سيشكّل منعطفًا مفصليًّا في التاريخ السياسي والعسكري للمنطقة بل للأمة بأكملها.
ينطلق النموذج الانتفاضي من عقيدة راسخة، بأنه يواجه كيانًا محتلًّا هشًّا نفسيًّا واجتماعيًّا وأمنيًّا ومؤسساتيًّا وحتى سياسيًّا، لذلك يقف المنتفضُ المقتحمُ على أرضية صلبة مؤمنة بتجذره التاريخي والحضاري، فالشعوب تكسب معركتها حين تؤمن بها، وتتسامى على واقع الاستسلام والاعتراف بالمحتل.
وفي ضوء ذلك، يمتاز النموذج الانتفاضي الجديد بالخصائص الآتية:
1- إن غاية النموذج الانتفاضي الفلسطيني في مقاومته للطغيان الصهيوني انتزاع حريته، بوصفها أساس وجوده وهويته العربية والإسلامية وأرضه المقدسة.
2- يتسم النموذج الانتفاضي المقاوم بالصلابة الروحية والحضارية في مواجهة كيان نازي عنصري توسعي، وسياسات متصهينة تهدف إلى تدمير إرادة المقاومة المسلحة وغير المسلحة ضد المحتل.
3- النموذج الانتفاضي المقاوم اختيار حضاري تحرري، يجمع بين النضال المسلح والممانعة المدنية السلمية والتدافع السياسي، يغذي وينعش المخيال الجماعي ويمنحه القدرة الإبداعية على التفكير في أشكال متجددة من المقاومة والصمود.
4- يتسامى النموذج الانتفاضي عن واقع الحصار والقهر، وفي الوقت نفسه يتصل بالهوية الجماعية والذاكرة المشتركة والقيم الجامعة، مقاومًا كافة أشكال الإحباط والاستسلام والتطبيع.
إن فعل الانتفاض متجذر في التربة المقدسية وفي عمق الإنسان الفلسطيني الذي راكم خبرة طويلة تتوارثها الأجيال، منذ انتفاضة أو هبّة النبي موسى (1920)، وهبّة يافا (1921)، ثم ثورة البراق (1929)، وانتفاضة عام 1933، حتى قيام حركة عز الدين القسام واستشهاده (1935)، فالثورة العربية الكبرى (1936-1939)، مرورًا بحرب 1947-1949، والكفاح المسلح وانتفاضات الأرض المحتلة منذ عام 1967 إلى مرحلة الانتفاضة الكبرى عام 1987، ثم انتفاضة الأقصى (2000)، وحروب أعوام 2006 و2008 و2012 و2014، فانتفاضة القدس (2015) ومعركة سيف القدس (2021)، وصولًا إلى طوفان الأقصى.
كل ذلك يعكس تطور الحالة الانتفاضية وحركة المقاومة بعد كل عدوان واستهداف لها، حيث تتجدد معه قدراتها وآليات اشتغالها واستراتيجياتها، فهذه القدرة التوليدية للنموذج الانتفاضي جعلته يتغلب على كل إجراءات الاحتلال وسياساته وقيوده الساعية إلى إجهاض فعل الانتفاض نفسه، من خلال ابتكار وسائل متنوعة وبدائل غير مسبوقة للمواجهة والمقاومة والممانعة.
لا ينحصر النموذج الانتفاضي في البيئة الجغرافية لمدينة غزة فقط، رغم أنها القلب النابض للنموذج، والقادح الذي يفجّر المشهد ويوجّهه ويقود حركة الانتفاض الشامل، بل يتكيف ويأخذ أبعادًا متجددة في باقي البيئات الفلسطينية الأخرى، كالضفة والقدس، وكذا في بيئة اللاجئين والمخيمات، ومن ورائهم الفضاء العربي والإسلامي.
وبهذا المعنى تكون الحالة الانتفاضية متعددة الأبعاد والأدوات، قد تكون في حالة تراكم واحتقان كامن يتبلور ببطء وبشكل تدريجي ومتفاوت في “الصيغة المقاومة” خارج غزة، وقد تأخذ شكل نمط انتفاضي مختلط وجديد في غزة، تتجسّد ذروته في حركة الاقتحام والزحف على المستوطنات والاشتباك المباشر، وهو نمط إبداعي جديد أعلى من نموذج حرب العصابات كما عُرف تاريخيًّا، وأقل من أسلوب الجيوش النظامية.
إننا أمام نموذج انتفاضي مقاوم ومتجدد، يجمع بين المركزية المنضبطة واللامركزية المرنة والخلّاقة، فحركة “الاقتحام الانتفاضي” تدل على طاقة ساكنة كامنة في الإرادة الإنسانية، سرعان ما تنبعث بعد جمود وتتجدد في كل أزمة وانسداد، حيث تولّد دينامية موزعة ورخوة ومتفاوتة الصلابة والوتيرة، بين العصيان والمواجهة والتحدي والمفاجأة.
فهي تتمتع بقدرة تحتية مستمرة، إنها قدرة على التعاضد الاجتماعي والتماسك الأسري والصمود المعنوي والتعبئة الشعبية، بوصفها رؤية مركّبة للمجتمع والجماعة والفرد في إدارة المعركة، وهذا سر قوة النموذج الانتفاضي الفلسطيني المندمج في حاضنته الاجتماعية وقيمه الروحية.
وتميزت حركية النموذج الانتفاضي الجديد في معركة “طوفان الأقصى” بجملة من الأبعاد:
القدرة المستمرة على تطوير الأسلحة وتصنيعها بتوظيف كل الإمكانات المتاحة.
المراجعة الدائمة والتصحيح الذاتي للأخطاء وإدراك موازين القوى الإقليمية والدولية.
الفعل الاستخباراتي والأمني الدقيق والصامت الممزوج بالتخطيط الاستراتيجي بعيد المدى.
الإعداد العقدي والروحي والتدريب العسكري المحترف لرجال المقاومة وشبابها.
التوظيف المبدع للحرب الإلكترونية والرقمية في تعطيل نظم الحماية والاستشعار عند العدو.
الحرب الإعلامية والدعاية النفسية لحدث الاقتحام وتعريف العالم بكل تفاصيله ومستوياته.
المزج بين تكتيكات حرب العصابات وآليات اشتغال الجيش النظامي.
الجمع بين انضباط الجيش النظامي ومرونة حرب العصابات.
التركيب الخلّاق بين نموذج مقاومة عبد الكريم الخطابي التحررية والمقاومة الفيتنامية ونمط الحروب الجديدة ضمن إطار جديد متجاوز لها، يستحضر خصوصية الوضع في غزة وطبيعة الصراع ونوعية الإمكانات المتاحة وتعدد المداخل والوسائل.
قانون الإرادات
كيف أمكن للمقاومة أن تنجز ذلك وهي التي لا تملك ميزان قوى يسعفها بتحقيق ما حققته؟ إن مقولة القوى المادية والأسلحة الثقيلة لا تفسّر كل شيء في المواجهات المسلحة، بل حتى في الحروب النظامية، ذلك أن شعبًا يملك قضية ويحقق التعبئة الضرورية من أجل الدفاع عنها، يستطيع تحقيق الانتصار على المحتل بإظهاره عاجزًا وفاقدًا للسيطرة، فالنملة المثابرة قادرة على هزم الفيل المغرور.
لعلّ الغائب الأكبر في التفكير الاستراتيجي المعاصر المتبنّي لمقولة ميزان القوى المادية، هو مفهوم ميزان الإرادات وإعادة التفكير في القوة بوصفها مفهومًا غير قابل للقياس ومتعدد الأبعاد، ما يلفت الانتباه إلى بروز عوامل أخرى غير مادية في تفسير ظاهرة انتصار القوى الضعيفة في ميزان الصراع، وهي عوامل قد لا تكون دائمًا مادية بحتة، حتى إن كان الإعداد فيها يجمع بين المادي والمعنوي والرقمي وكانت نتائجها مادية بالضرورة، لكنه يكشف عند التنفيذ المادي والإبداع الميداني على قابلية مذهلة لتغيير معطيات الواقع وكسر هيبة العدو وتبديد أساطيره.
ناهيك عن السعي إلى تحطيم التوازن النفسي والمعنويات الجماعية للجيش المحتل، وغرس الخوف والرعب في نفسية المستوطن وجغرافية الاستيطان، والرفع من التكلفة البشرية والاقتصادية والعسكرية للاحتلال.
إننا أمام نمط جديد يجمع بين القوة الذكية المؤثرة والإرادة الصلبة الصبورة والعقل الاستراتيجي المبدع والجندي المؤمن المحترف وقيادة مجددة تطور باستمرار آليات الاشتغال واستراتيجيات المواجهة، دون أن نغفل توفر المقاومة على بنية شعبية داعمة وحاضنة اجتماعية واعية قادرة على الصبر والتحمل.
ستظل حركة النموذج الانتفاضي المقاوم تؤكد وجود شعب فلسطيني -صاحب الأرض والحق- حي وفاعل ومصرّ على المقاومة لاستعادة حقوقه، رغم كل ما تعرض له من معاناة وطرد واقتلاع واحتلال ومحاصرة.
ورغم أن سياسات التصهين في المنطقة واتفاقاتها كانت ماضية في خيار تصفية القضية وإلغاء حقوق الشعب الفلسطيني والتواطؤ على تدنيس المقدسات، فإن إرادة المقاوم وحركاته المتجددة في “طوفان الأقصى” تخبران العالم أن شعب فلسطين حاضر في التاريخ والجغرافيا، منغرس في الزمان والمكان، محفور في الأرض والعمران، وأن هذه الأمة لن تموت وستولد من جديد مع كل أزمة، وأن الشعوب ستستعيد روحها وأناقتها الحضارية ولو بعد حين.
المصدر/ نون بوست