دخلت المنطقة العربية مرحلة تتميز بالتسمم الفكري من جانب والشلل الحركي من جانب آخر، التسمم الفكري مرده براعة القيادة الإسرائيلية في غرس مفاهيم معينة في المنطقة لا بد أن تقودها إلى نوع من التحلل الذي يجعلها تنسى حقيقة صراعها ولو في الأمد القصير، والشلل الحركي هو النتيجة الطبيعية لتوقف الصراع العضوي والجسدي.
التسمم الفكري والسياسي هو أحد أبعاد الحرب النفسية الصهيونية على العالم العربي، وهو عملية غرس مفاهيم معينة لا بد أن تقود الخصم أو الصديق إلى الاقتناع بأفكار هي في حقيقتها لا تعبر عن الحقيقة، لكن من مصلحة من يقوم بعملية التسميم أن يقنع خصمه بها، وبذلك الاقتناع يقوده إلى موقف معين من الضعف يؤدي إلى الهلاك.
ومن ثم يمكن أن نقول إن جانبًا كبيرًا من الصراع العربي الإسرائيلي قائم على حرب مفاهيمية تعمد إلى تشويه المفاهيم وتوجيه العقول إلى ما يحقق الانتصار الصهيوني على العالم العربي.
إن المفاهيم والكلمات ليست مجرد ألفاظ محايدة، بل هي كالحياض وكالجيوش، وجب الدفاع عنها كالأرض والعرض، لأنها تنتهك في حرماتها، وتدنس معانيها. وانتهاك حرمة معاني الكلمات لا يأتي فقط من معتد من الخارج يحاول أن ينحرف بالمعاني ويدلس الدلالات، فتصير الكلمات لا تدل ولا ترشد، بل قد يأتي كذلك من الداخل حيث تهون المفاهيم وتهان، إذا تم إهمالها بالطبع والانقياد لما يحاول المعتدي الخارجي فرضه من معان ودلالات لها.
ومن ثم فلو قلنا إن تصحيح المفاهيم المغلوطة والتوعية بضرورة استخدام المفاهيم الصحيحة هو أحد أهم جوانب المعركة في مستواها الإعلامي النفسي والعقلي والفكري لما جانبنا الصواب، وهو ما نسعى إلى معالجته في هذه المقالة.
الإعلام العالمي وحرب توجيه العقول
يعتمد الإعلام العالمي على مجموعة من التقنيات النفسية المبنية على علم النفس والإدراك لإيصال الرسائل التي يريد من ورائها تحقيق أهداف أجندته الخاصة وخدمة مصالح مموليه ورعاته، فوفقًا لجي دورندان في كتابه “الدعاية والدعاية السياسية” فإن احتمالات تصديق نبأ معين بصحته أو عدمها لا يرتبط بالحقيقة الواقعية، بقدر ما يرتبط بالطريقة التي يعرض بها الإعلام هذا الخبر والجهة المسؤولة عن تنظيم هذا الإعلام.
كما أن الأمر لا يرتبط فقط بجهل الجمهور وبصدق أو كذب المعلومات، وإنما يرتبط أيضًا بالحالة النفسية للجمهور ومدى رغبته في تقبل معلومات معينة، فما يصدقه الجمهور هو ما يعتبرونه محتملًا وممكنًا والعكس صحيح.
لهذا نجد أن وكالات الإعلام العالمية التي أخرجت إشاعة أن مقاتلي حماس ذبحوا أطفالًا رضعًا لم يستندوا في ذلك على أدلة حقيقية، وإنما على الحالة النفسية للجمهو الغربي – الموالي لإسرائيل – في المقام الأول والذي كان مصدومًا مما حدث يوم 7 أكتوبر.
وعند الحديث عن الإعلام أيضًا تبرز أهمية اللغة المستخدمة في نقل الأخبار وإذاعتها، فكلنا نكتسب معرفتنا عن طريق اللغة، أي عن طريق ما يُحكى لنا أو نسمعه أو نقرأه عن شيء ما، وبمعنى أكثر وضوحًا فإننا نعرف عن الأحداث التي تجري في أي مكان غير الذي نعيش فيه عن طريق ما ينقل إلينا من أخباره، ومن ثم فإن اللغة هي الوسيط الذي ينقل لنا المعرفة.
وهكذا يمكن للإعلام أن يوظف اللغة لخلق تصور ما أو تعاطف أو موقف ما تجاه حادث معين أو ظاهرة معينة بحيث يوجه الجمهور لما يتفق وأهدافه.
فعلى سبيل المثال إذا حدثت حادثة قتل في مكان ما، فإن استخدام لفظة “قتلى” ليست كاستخدام لفظة “شهداء”، فالثانية تحمل السامع على التعاطف بشكل ما مع المقتولين وتشعره بأنهم ماتوا لغاية نبيلة، وذلك بغض النظر عن معرفة السامع لحقيقة ما جرى في الحادثة.
وأخيرًا عند الحديث عن الإعلام نذكر ما يسمى بالنكوص المنطقي، حيث يعتمد الإعلام بشكل أساسي على عدم التأهيل الكافي للجمهور في ميدان التفكير المنطقي، بمعنى أنه يعتمد على عدم تناول الجمهور للأخبار بالتفكير المنطقي ومحاولة تحليلها، وإنما يتناولها بشيء من الاعتباطية.
ومن أمثلة ذلك الربط بين اسم بلد معين وقيمة جميلة يحبها الناس جميعًا كربط الحرية والمساواة وحقوق الإنسان بالدول الغربية، فيذكر دائمًا لفظ الغرب مقرونًا بمفاهيم الحرية والمساواة وحقوق الإنسان باعتبار أن الحضارة الغربية تمثل هذه المفاهيم تمامًا في نظرتها وأفعالها (وهو ما يسمى بالمصادرة على المطلوب)، وبهذا يستبطن الجمهور شعورًا بأن كل ما تفعله دول الغرب مرتبط بهذه المفاهيم، وأن هذه المفاهيم لا توجد إلا عندهم.
معركة طوفان الأقصى وحرب المفاهيم
منذ اليوم الأول لمعركة “طوفان الأقصى” اشتعلت على وسائل التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام على مستوى العالم حرب مفاهيم بين المعسكر المناصر لـ”إسرائيل” على مستوى العالم بترسانته الإعلامية والدعائية، وأبناء الأمة الإسلامية المناصرين لقضيتهم: القضية الفلسطينية، وانتشرت مفاهيم المقاومة والإرهاب، المستوطنون والمدنيون، السلام والتهدئة ووقف العنف، وقف إطلاق النار وضبط النفس، إلخ.
يقول المسيري في كتابه “انهيار إسرائيل من الداخل”: “ظهر في الآونة الأخيرة مصطلحات مثل “إيقاف العنف” و”وقف إطلاق النار” و”ضبط النفس”، إشارة إلى ما يحدث في فلسطين المحتلة. وهذه المصطلحات تحمل تحيزات محددة، فهى تصنف كلًا من المقاومة الفلسطينية والعنف الصهيوني على أنهما نفس الشيء، وكأن هناك حالة حرب بين جيشين متكافئين أو شبه متكافئين يحاربان بخصوص قطعة أرض متنازع عليها، ولكل فريق حقوق متساوية فيها. إن هذه المصطلحات تسوي بين من يحمل السلاح مدافعًا عن أرضه وكرامته وإنسانيته من جهة، ومن جهة أخرى من يغتصب الأرض وينكل بأصحابها ويستخدم آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا العسكرية في ذلك. ولنتصور لو سُميت الأشياء بأسمائها وقلنا “إيقاف المقاومة” أو على العكس قلنا إيقاف أعمال الاغتصاب والقمع الإسرائيلي ألن يكشف هذا التحيزات الكامنة؟”.
كل هذه الشعارات تهدف إلى فرض المفاهيم الصهيونية الأمريكية في السلام، التي تعني في واقع الأمر الاستسلام وقبول تقسيم دولة فلسطين إلى كانتونات وبقاء المستوطنات والرضوخ للمطالب الإسرائيلية في القدس الشرقية، وأخيرًا التنازل عن الحق الفلسطيني التاريخي في أرضهم وعودة اللاجئين الفلسطينيين إليها.
ولعل أبرز الثنائيات التي يدور حولها الخطاب الإعلامي العالمي منذ يوم 7 أكتوبر وتحتاج إلى توضيح، ما يلي:
المقاومة والإرهاب
هنا تعمل الإمبريالية الغربية الصهيونية على قلب موازين اللغة والكلمات، فيسمون كل مقاومة إرهابًا، وكل ممانعة عنفًا وكراهيةً، وكل مواجهة حالة من عدم الواقعية، وبكل أسف فقد بدأ بعض أبناء الأمة الإسلامية في تبني هذه الرؤية والدعوة إليها.
ويعمد هؤلاء إلى الحديث عن المقاومين على أنهم مغامرون ومقامرون يجرون المنطقة إلى الحروب، وبهذا يتهدد ما قامت به دول المنطقة من إنجازات في ميادين الحياة المختلفة!
ومن ثم إذا استبدلنا الإرهاب بالمقاومة، أصبح كل ما يقوم به الفلسطينيون غير مقبول ولا مشروع، فالبون شاسع بين المفهومين، فالأول مفهوم لا يوجد اتفاق عالمي ولا دولي على تعريفه ولا معناه، بل هو مفهوم هلامي يستخدم – غالبًا – لتصنيف الخصوم الذين تراهم الإمبريالية الغربية خطرًا على مصالحها أو تهديدًا لهيمنتها وسلطتها.
أما المقاومة فهى الاستخدام المشروع لكل الوسائل بما فيها القوة المسلحة لدرء العدوان، وإزالة الاحتلال والاستعمار، وتحقيق الاستقلال، ورفع الظلم المسنود بالقوة المسلحة، ومن ثم يمكن القول إن استخدام أحد المفهومين إنما يعبر عن تبني رؤية كاملة لهذه القضية وهذا الصراع.
إن المقاومة المسلحة حق مشروع قانونيًا ودوليًا، ولعل أحد أبرز ما جاء في هذا الإطار هو قرار الجمعية العامة رقم 2649 لسنة 1970، الذي أكد على حق الشعوب في نضالها، إذ جاء فيه “إن الجمعية العامة للأمم المتحدة لتؤكد شرعية نضال الشعوب الخاضعة للسيطرة الاستعمارية والأجنبية والمعترف بحقها في تقرير المصير، لكي تستعيد ذلك الحق بأي وسيلة في متناولها… وتعد أن الاستيلاء على الأراضي والاحتفاظ بها خلافًا لحق شعوب تلك الأراضي في تقرير المصير، ولا يمكن قبوله ويشكل خرقًا سافرًا للميثاق”.
وكذلك قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3246 الصادر في نوفمبر 1974 الذي تؤكد فيه شرعية كفاح الشعوب المستعمرة في سبيل التحرر من السيطرة الاستعمارية بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلح.
وكذلك ما نصت عليه اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 المتعلقة بحماية المدنيين حيث أكدت أن جميع أوجه الحماية التي توفرها هذه الاتفاقية تنطبق على المدنيين والمقاتلين أثناء الاحتلال الجزئي أو الكلي.
بل إن البروتوكول الإضافي الأول الملحق باتفاقيات جنيف ارتقى بالنزاع الذي ينشأ بين قوات دولة الاحتلال أو الاستعمار أو الفصل العنصري واعتبره نزاعًا دوليًا وليس نزاعًا داخليًا، وذلك بإضفاء الشرعية على حق حركات التحرر في نضالها ضد الظلم والتسلط الممارس من الأنظمة الاستعمارية وأنظمة الاحتلال وأنظمة الفصل العنصري، وذلك وفق ما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة والقرارات ذات الصلة، حيث نصت الفقرة الرابعة من المادة الأولى من البروتوكول المذكور على أنه: تتضمن الأوضاع المشار إليها في الفقرة السابقة، المنازعات المسلحة التي تناضل بها الشعوب الأوضاع ضد التسلط الاستعماري والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية وذلك في ممارستها لحق الشعوب في تقرير المصير، كما كرسه ميثاق الأمم المتحدة والإعلان المتعلق بمبادئ القانون الدولي الخاصة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول طبقًا لميثاق الأمم المتحدة.
وعلى مستوى الممارسات، فقد كشف الواقع عن ازدواجية المعايير التي يتعامل بها الغرب في مثل هذه الأمور، فالإمبريالية الغربية التي تدعم “إسرائيل” وتضمن لها الحماية والتفوق، وتعتبر حماس حركة إرهابية، تعتبر حركات أخرى مسلحة تحارب لأجل تكوين دولة مستقلة حركات تحرر وتمدها بالسلاح والعتاد وتقيم معها تحالفات عسكرية، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك نظرة الولايات المتحدة لـ”قوات حماية الشعب الكردية”.
فيذكر هنا أن واشنطن أقامت علاقة خاصة مع “وحدات حماية الشعب YPG”، باعتبارها الحليف الميداني للتحالف الدولي في سوريا في مواجهة تنظيم داعش، وأعلنت في أكتوبر/تشرين الأول 2015 عن إنشاء قوات سوريا الديمقراطية بإضافة عناصر من الأقليات الأخرى في الشمال السوري للأغلبية المكونة من المقاتلين الأكراد، لمنح هذه القوات شرعية، رغم أن تركيا تعتبر هذه القوات حركات إرهابية.
أما عن تعريف الإرهاب، ورغم هلامية التعريف وعدم الاتفاق الدولي عليه، فإن التقاط أي تعريف من المعاجم والقواميس القانونية والسياسية المختلفة ومحاولة تطبيقه على طرفي الحرب الحاليّة في فلسطين، مثل تعريف الاتفاقية الدولية لقمع تمويل الإرهاب الموقعة في 9 ديسمبر/كانون الأول 1999 في مادتها 2-1 ب والقائل بأنه: “أي عمل يهدف إلى التسبب في موت شخص مدني أو أي شخص آخر أو إصابته بجروح بدنية جسيمة عندما يكون هذا الشخص غير مشترك في أعمال عدائية في حالة نشوب نزاع مسلح وعندما يكون غرض هذا العمل بحكم طبيعته أو في سياقه موجهًا لترويع السكان أو لإرغام حكومة أو منظمة دولية على القيام بأي عمل أو الامتناع عن القيام به”.
إن النظر في هذا التعريف يرشدنا إلى “إسرائيل” مباشرة وليس حماس، ويعيد إلى ناظرنا صور مستشفى المعمداني وأشلاء الأطفال في غزة، ولا يرشدنا إلى حماس بأى حال.
سلام أم استسلام
لعل واحدة من أكثر الكلمات انتشارًا منذ بدء معركة “طوفان الأقصى”، هى كلمة السلام وتحقيق السلام الشامل والسلام العادل، إلخ، والسؤال هنا: هل السلام خيار حقيقي ممكن في هذا الصراع؟
لقد اختار جانب من الفلسطينيين خيار السلام بالفعل، ونحن الآن نرى نتائج هذا السلام في الضفة الغربية ومدنها، ولن أعود بك لزمن ماضٍ أو سوابق تاريخية قديمة، وإنما نرصد مشاهدات من اللحظة الراهنة التي نعيشها.
وقف نتنياهو في 23 سبتمبر/أيلول من العام الحاليّ أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في افتتاح دورتها الثامنة والسبعين، وألقى خطابًا افتتحه قائلًا: “سيداتي وسادتي: منذ أكثر من 3 آلاف عام، خاطب زعيمنا العظيم موسى بني إسرائيل وهم على وشك دخول أرض الميعاد. وقال لهم إنهم سيجدون هناك جبلين يواجهان بعضهما البعض: جبل جرزيم، وهو الموقع الذي يحتوي على نعمة عظيمة، وجبل عيبال، وهو موقع سيكون مصدر نقمة عظيمة. قال موسى إن مصير الناس سيتحدد بالاختيار الذي اتخذوه بين البركة واللعنة. بقى هذا الخيار نفسه على مر العصور ليس فقط لبني إسرائيل ولكن للبشرية جمعاء. نحن نواجه مثل هذا الاختيار اليوم. وسوف نقرر معًا ما إذا كنا نتمتع ببركات سلام تاريخي من الرخاء والأمل اللامحدود أو نعاني من لعنة حرب مروعة، من الإرهاب واليأس”.
احتوى الاستهلال المشار إليه في خطاب نتنياهو إشارة ضمنية من جانب نتنياهو بعدم الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، بل وتسويغ الاستيطان في الضفة الغربية كمقدمة لضمها نهائيًا لـ”إسرائيل”، فالجبلان اللذان أشار إليهما نتنياهو في الرواية التوراتية، يقعان في الضفة الغربية بالقرب من مدينة نابلس، وبالتالي فهو يشير بشكل غير مباشر إلى تمسكه بضم الضفة الغربية لـ”إسرائيل” باعتبارها جزءًا من الوطن اليهودي حسب الوعد التوراتى، وأن مقاومة الفلسطينيين لهذا الضم هو جزء من معركة بين “معسكر الأخيار” و”معسكر الأشرار”.
ويقفز نتنياهو على كل جرائم “إسرائيل” بحق الفلسطينيين، ويصورهم على أنهم “مؤيدون للإرهاب ومعادون للسامية”، بقوله: “لا يمكن تحقيق السلام إلا إذا كان قائمًا على الحقيقة، حيث لا يمكن له أن يستند إلى الأكاذيب، ولا يمكن له أن يستند إلى تشهير لا نهاية له بحق الشعب اليهودي”.
إن ما يؤكد صحة هذا الاستنتاج شاهدين من لحظتنا الزمنية الراهنة أيضًا: الأول: التهجير المستمر للفلسطينيين في الضفة الغربية وضم “إسرائيل” أراضيهم وتشريدهم، إذ لم تكتفِ “إسرائيل” بسيطرتها الكاملة على مناطق “ج” والمقدرة بـ62% من مساحة الضفة الغربية، فصارت تلاحق الفلسطينيين بمناطق سيطرة السلطة الفلسطينية بالضفة (مناطق “أ” و”ب” حسب اتفاق أوسلو، البالغة 38% فقط من مساحتها، ويعيد الاحتلال نفوذه عليها.
والثاني: حديث نتنياهو خلال جلسة مغلقة للجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست في 26 يونيو/حزيران من العام الحاليّ، الذي تم تسريبه ونشره في الإعلام، أكد فيه أنه يجب العمل على “اجتثاث فكرة إقامة الدولة الفلسطينية، وقطع الطريق على تطلعات الفلسطينيين لإقامة دولة مستقلة لهم”.
وقد أسهم حديث نتنياهو في تكذيب أى حديث عن المسار السياسي أو حل الدولتين في ظل عدم وجود نية حقيقية لدى “إسرائيل” – وفقًا لتلك التصريحات – في الوصول إلى النهاية المفترضة لمسار أوسلو ممثلة في الدولة الفلسطينية المستقلة والقابلة للحياة وعاصمتها القدس الشرقية.
هذا من جانب الاستيطان واغتصاب الأراضي وفكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة، أما على جانب القتل والاعتداء فقد رصد مركز معلومات فلسطين (معطى) خلال النصف الأول من عام 2023 ارتكاب الاحتلال 19017 انتهاكًا، شمل جميع أنواع الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين، من قتل وإبعاد واعتقال وهدم للمنازل، إضافة إلى تجريف الأراضي ومصادرة الممتلكات، واعتداءات طالت قطاع التعليم والقطاع الصحي.
وبلغ عدد من قتلتهم قوات الاحتلال والمستوطنين في الفترة نفسها 186 مواطنًا، بينهم 37 طفلًا وطفلة، و11 امرأةً، و7 مسنين، في رقم يتجاوز مجموع الشهداء لعام 2022 بأكمله، ويعادل تقريبًا ضعف الشهداء الذين ارتقوا عام 2021 بأكمله، فيما بلغ عدد الجرحى 3806 جرحى.
والمقصود من هذه الأمثلة توضيح مآلات اختيار السلام مع المحتل الغاصب والاعتراف بوجوده وإعطاءه شرعية، وأنه ليس إلا استسلامًا مؤطرًا بعبارات زائفة.
مستوطن أم مدني
يقول المسيري في كتابه “انهيار إسرائيل من الداخل”: “توجد في العبرية كلمة “هجیراه” وهي كلمة محايدة تعني “هجرة” أي “مجرد انتقال من مكان إلى آخر بغرض السكنى والاستقرار فيه”. ولكن بدلًا من أن يستخدم الصهاينة هذه الكلمة للإشارة إلى الهجرة الصهيونية استخدموا كلمة “عالياه”، وهى عبرية مشتقة من “يعلو”. ولكلمة “عالياه” العبرية معان عدة أولها “الصعود إلى السماء”، وثانيها “الصعود لقراءة التوراة في المعبد أثناء الصلاة”، وثالثها “الصعود إلى إرتس يسرائيل (أى أرض إسرائيل) بغرض الاستيطان الصهيونى”. والصهاينة قد فعلوا ذلك ليحيطوا عملية الاستيطان الاستعماري الصهيوني بهالات من القداسة، وكأن اغتصاب فلسطين من أهلها وطردهم منها هو فعل ديني”.
لكن بغض النظر عن الحيل اللفظية الصهيونية، لا بد أن نذكر أنفسنا بأن “إسرائيل” جيب استيطاني، يقوم بوظيفة عسكرية وهي الدفاع عن مصالح الغرب في المنطقة، وقد وعد القائمون على المشروع الصهيوني بتقديم المادة البشرية اللازمة للقيام بهذه المهمة، وبالتالي يكون تدفق هذه المادة عليها أمرًا أساسيًا وجوهريًا بالنسبة لها، ومن المفارقات الكبرى أن توسع الجيب الاستيطاني جعله في حاجة ماسة إلى المستوطنين للقيام بعمليات الاستيطان والتجارة والقتال.
لقد عبر عن هذه الفكرة أيضًا المفكر الأوغندي محمود ممداني في كتابه “لا مستوطن ولا مواطن: صنع أقليات دائمة وتفكيكها”، إذ فرق بين المهاجر (المدني) الذي يبحث عن وطن يحتويه وينضم إليه وهو حال اليهود قديمًا قبل فكرة تأسيس “إسرائيل” كدولة، حينما قدموا للعالم العربي فارين من ويلات النازية، والمستوطن الذي يسعى إلى تأسيس دولة قومية تشمل اليهود فقط، ومن ثم كان لزامًا عليها استبدال أصحاب الأرض وإزالتهم لإحلال مواطنين (لهم قومية جديدة) محلهم.
وهكذا يتضح لنا أن المستوطن هو مقاتل في المقام الأول ليس فقط لأجل فكرة أن كل سكان “إسرائيل” يجندون في الجيش، بل لأن فكرة الاستيطان قائمة بالضرورة على إنهاء وجود الآخر (صاحب الأرض)، إذ لا يمكن قبوله في دولة قومية جديدة لها خصوصيتها العرقية والدينية ولا تقبل الآخر.
وقد عبرت تسيبي ليفني السياسية الإسرائيلية الليبرالية البارزة عن هذه الفكرة حين قالت: “أود أن أرى دولة إسرائيل وطنًا للإسرائيليين العرب، لكنها لا يمكن أن تكون وطنهم القومي”.
إن النتيجة التي نريد أن نخلص لها من هذا المقال هي أن المعركة مع “إسرائيل” وجودية، إما وجود الدولة الإسرائيلية وإما وجود العرب كأمة واحدة، لهذا فخيار المقاومة هو الخيار الوحيد والنهائي لهذه الأمة كاملة وليس أهل فلسطين وحدهم.