العبثية الجدلية للدفوع التي تحاول بريطانيا، ومن حولها، تقديمها تقول لنا عملياً بسذاجةٍ قاب قوسين أو أدنى: إنّ فلسطين، الدولة المراقب غير العضو في المحكمة الجنائية الدولية، لا يمكنها محاسبة مجرمي الاحتلال الإسرائيلي لتناقض ذلك مع بنود عملية أوسلو للسلام، التي تغنّت بها كلّ دول العالم، كونها كانت مسخَّرةً لجهود الأمم في إحلال السلم والأمن الدوليين، التي يبدو أن صلاحية الأمن والسلم الدولي تنتهي كلّ ثلاثين عامًا بموجب قرارٍ صادرٍ عن أعلى هيئةٍ قضائيةٍ جنائيةٍ في العالم المتحضر حين تدرس هذه الدفوع.
اعتبرت اتّفاقيات أوسلو التي وقعت عام 1993 محاولةً لإنهاء عقودٍ من النزاع بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، عبر الاعتراف المتبادل بحقوقهم السياسية والسعي لتعايشٍ سلميٍ. لكن الواقع اليوم، خصوصاً بعد الانتفاضة الثانية، وبعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، يظهر بوضوحٍ فشل هذه الاتّفاقيات في تحقيق أهدافها، ويضع علامات استفهامٍ حول القراءة الاستشرافية لمسوّقيها آنذاك.
نص اتّفاق أوسلو على فترةٍ انتقاليةٍ لا تتجاوز خمس سنواتٍ للوصول إلى تسويةٍ دائمةٍ، لكن؛ حتّى الآن ليس هناك أيّ بوادرٍ لأيّ حلٍّ دائمٍ رغم مضي أكثر من ثلاثين عامًا على بدء عملية السلام. فمنذ البداية لم يكن هناك إرادةٌ للبدء بمناقشة الوضع القائم حول القضايا الحساسة، القدس واللاجئين والمستوطنات، بل تنكرت إسرائيل لهذه المفاوضات، وحسمت القضايا منفردةً، فارضةً وقائع جديدة على الأرض. في حين كان من المفترض أن تنسحب إسرائيل من قطاع غزّة، ومنطقة أريحا بعد دخول إعلان المبادئ حيز التنفيذ، لكنها استمرت في السيطرة على هذه المناطق لسنواتٍ عديدةٍ بعد توقيع الاتّفاقية، قبل تطبيق خطة فك الارتباط من طرفٍ واحدٍ، أو نستطيع القول "قبل الانسحاب العسكري منه والسيطرة عليه من خارجه في عام 2005".
على صعيدٍ آخر، قسم الاتّفاق المناطق الفلسطينية إلى (أ) و(ب) و(ج) لتحديد مناطق حكم السلطة الفلسطينية، والمناطق الخاضعة لإسرائيل. ومع ذلك، وبينما استباحت إسرائيل كامل الأراضي الفلسطينية، متجاهلةً هذه التقسيمات، التزمت السلطة الفلسطينية بالتنسيق الأمني من دون أيّ التزامٍ مماثلٍ من الجانب الإسرائيلي، كما شهدت الضفّة الغربية زيادةً في تسليح المستوطنين، ما أدى إلى زيادة اعتداءات المستوطنين وتعدياتهم، على إثرها تدهور الوضع الأمني فيها.
كذلك؛ وعلى الرغم من تعهد إسرائيل بـ"الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين على مراحل"، قد تضاعفت أعداد الأسرى مراتٍ عدّة منذ توقيع اتّفاق أوسلو. كما لم يلتزم كلٌّ من الاحتلال والضامنون للاتّفاق بعدم اتّخاذ خطواتٍ تغير من وضع الضفّة الغربية وقطاع غزّة، حيث تضاعف الاستيطان، وتضاعفت عمليات تهويد القدس والأقصى. أما بروتوكول باريس الاقتصادي، الذي نص على "حقّ الفلسطينيين في تصدير منتجاتهم الزراعية والصناعية من دون قيودٍ"، فقد تم تجاوزه تجاوزًا كبيرًا، إذ تحكمت إسرائيل بكلّ السلع بحججٍ أمنيةٍ، ما أثّر سلبًا على الاقتصاد الفلسطيني، خاصّةً في غزّة.
يمثّل تطبيق عملية أوسلو، التي انطلقت في صيف عام 1994، مفارقةً تاريخيةً في ما يخص السيادة الفلسطينية، واختصاص السلطات الفلسطينية المتعاقبة تجاه الخارج، فمن ناحيةٍ قانونيةٍ لم تطبق بنودها، إضافةً إلى ذلك؛ أدت العملية إلى تأزيم الواقع القانوني والسياسي والاجتماعي الفلسطيني.
يبرز استخدام نصوص الاتّفاقية مبررًا قانونيًا لعدم اختصاص محكمة الجنايات الدولية بمحاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين الحاجة إلى قراءةٍ نقديةٍ لتاريخ الاتّفاق مع إسرائيل، بكلّ أبعاده، وإعادة بوصلة العلاقات الدولية من حيث الانطلاق، أيّ إلى التعامل مع حكوماتٍ إسرائيليةٍ من مسلماتها الاستيطان وعدم الامتثال تجاه كلّ ما يتعلق بعلاقاتها الدولية وارتداداتها على الوضع الفلسطيني المستمر في ظلّ الاحتلال والانتهاكات.
النتائج اللاحقة لعملية أوسلو، ومطلب استعادة السيادة الوطنية من خلال محاولة القيادة الفلسطينية تحديد معايير تضمن سلطة الدولة، صُدمت بتحدٍّ كبيرٍ في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي وتدخلاته المستمرة، خصوصًا في ما يخص بناء دولةٍ فلسطينيةٍ مركزية السلطة بقيادة ياسر عرفات، وإرساء سيادة القانون، وتلبية توقعات المجتمع الدولي.
أمسى مفهوم "سيادة القانون" متناقضًا فلسطينيًا، إذ وجب تنظم المعاملات بين المواطنين وفقًا لقواعد معروفةٍ لكن لم يحدد القانون المعمول به تحديدًا واضحًا. ففي السنوات الأولى من إنشاء المجلس التشريعي الفلسطيني، كانت النقاشات تتركز حول تحسين الأداء الحكومي، ومواجهة الفساد، وإصدار قوانين تنظم التعليم وحرية الصحافة، لكن هذه الجهود اصطدمت بواقع الاحتلال وتحدياته.
تحت ضغطٍ إسرائيلٍ، نصت اتّفاقيات أوسلو على إنشاء "مجلس حكمٍ ذاتيٍ" لإدارة أراضي الحكم الذاتي إداريًا، لكن أعلن الممثلون الفلسطينيون المنتخبون في أوّل انتخاباتٍ عام 1996 أنفسهم مجلسًا تشريعيًا، ما أضاف تعقيداتٍ جديدةً إلى المشهد السياسي. فعلى الرغم من النيات الحسنة، واجه المجلس التشريعي بعد فترةٍ وجيزةٍ واقع السلطة المركزية، التي أعادت إنتاج آليات السلطة القديمة لمنظّمة التحرير، إضافةً إلى قضايا رئيسية أخرى، مثل الفساد وقانون المنظّمات غير الحكومية، وتطور قانون الأسرة، التي كانت في صلب المناقشات. هذه القضايا تعكس أبعادًا رمزيةً هامّةً للمجتمع الفلسطيني، تتعلق برأي المواطن في الموارد، وإمكانية التعبير عن الذات، والتنظيم العام للمجال الخاص. رغم ذلك، ظلّت التحديات القائمة تؤثّر على فعالية هذه المناقشات في ظلّ السيطرة الإسرائيلية المستمرة.
أصبحت الاتّفاقيات، التي كان من المفترض أن تكون جسرًا للسلام والتعايش، عقبةً أمام تحقيق العدالة للفلسطينيين في المحاكم الدولية. استخدام نصوص اتّفاقية أوسلو مبررًا قانونيًا لعدم اختصاص محكمة الجنايات الدولية، أضعف موقف الفلسطينيين في محاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين بالصورة التي لم يستطع أن يقرأها عرابو اتّفاق أوسلو في منظّمة التحرير، والتي يمكن أن تكرر نفسها في حال الوصول إلى اتّفاقٍ حول نهاية المواجهات بين حماس وإسرائيل.
باختصارٍ، كانت اتّفاقيات أوسلو محاولةً محفوفةً بالمخاطر لإنهاء النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، لكنها فشلت في تحقيق السلام الدائم، وأدت إلى تبعاتٍ قانونيةٍ وسياسيةٍ حالت دون تحقيق العدالة للفلسطينيين، ودون تشكيل هويةٍ سياديةٍ للدولة داخلياً تصارع قوى الاحتلال وحلفاءه، الذين يشترطون على السيادة التبعية للاحتلال، قبل أن تولد الدولة.
في المحصلة وبغض النظر عن عدم إمكانية تحقق الصلاحيات القضائية وترسيخها، ونظام المحاسبة والعدالة والقضاء الآن، لا يصلح الاعتداد باعتراض بريطانيا وإسرائيل والدول الحليفة لهذا التوجه القضائي، المعني بتحويل الاختصاص من طرف فلسطين إلى محكمة الجنايات الدولية، كون الأساس القانوني الذي يعتمدون عليه رداً على طلب المدعي العام بتوقيف قادة إسرائيل مبني على أساس اتّفاقية أوسلو، كما في البندين 6 و7، التي خلقت كي تقتل أيّ طموحٍ فلسطينيٍ لإنشاء دولةٍ مستقبليةٍ ذات سيادة، وذات اختصاصٍ قانونيٍ قضائيٍ مستقلٍ. بذلك يعد من العبث أن تأخذ محكمة العدل الدولية طلب بريطانيا، ومن في صفها، حول مطالب إسرائيل في عدم أحقية فلسطين باللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية، كونها وقعت اتّفاقية أوسلو بصفتها القانونية الاعتبارية دولةً مراقبةً بعد قرار الجمعية العامة 2015، وسلطةً فلسطينيةً تامة الأركان قبل القرار، على كل الأراضي المذكورة في بنود اتّفاق أوسلو، ومن ثمّ الإحالة للاختصاص من حيث المبدأ ممكنةٌ على الرغم من غوغائية الشكل الوطني للسيادة الفلسطينية، أو جزئية الاعتراف بفلسطين دولةً مستقلةً وذات سيادةٍ، التي تنص على اختصاصٍ وطنيٍ في الأقاليم الفلسطينية المحتلة والمستوطنات في ما يخص محاسبة المجرمين حول الجرائم المرتكبة في هذا الحيز الإقليمي.
أما الافتراض الآخر الباطل القائم على أساس اختصاص القضاء الصهيوني الاستيطاني المنحاز إلى الاحتلال في النظر بالدعوى الفلسطينية، فمن العبث أن يجد مكانًا له لدى محكمة العدل، فالدفوع التي تقول إنّ فلسطين أو إسرائيل تملك سطاتٍ قضائيةً مستقلةً ومحايدةً وغير منحازةٍ يمكن أن يلجأ إليها المتضررون للمطالبة بالعدالة، تنطوي على ثلاث تناقضات جوهريٍة:
أولاً بين نص اتّفاقية أوسلو وبين تطبيقه حيث يتم الاعتداد باتّفاقيةٍ انتقاليةٍ لم ترى النور بعد خمس سنواتٍ، ولا استكملت المحادثات حول القضايا الحاسمة، في المحصلة النهائية نرى أنّ الواقع ينافي نصوص الاتّفاق.
وثانياً بين البنية الفوقية السياسية القانونية للطرفين وإمكانية تمثّيلها في الخارج، إذ إنّ الشخصية الاعتبارية للدولة الفلسطينية محاربةٌ بشدةٍ من طرف حلفاء إسرائيل كي لا تستطيع أن تحرك على إثّره التبعات القانونية والقضائية.
وثالثاً بين روح اتّفاقية روما ومقاصدها، وانتهاكات اتّفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969 بكلّ ما تملكه من مبادئ ملزمةٍ، من حسن نية التعاقد، والتكامل في القانون الدولي، وعدم الإكراه والقسر، والإيجاب والقبول، والعقد شريعةً للمتعاقدين في ما يخص المعاهدات الثنائية والاتّفاقيات الدولية. إنّ تطبيق المبادئ الأساسية لنظام روما الأساسي، ومعاهدة فيينا، واتّفاقيات أوسلو على قضية فلسطين من طرف محكمة العدل الدولية يجب أن يؤكد ضرورة التعاون والتكامل في القانون الدولي، كما تنص اتّفاقيات المحكمتين الدولية التأسيسية لضمان محاسبة مرتكبي الجرائم الدولية، وثقافة الإفلات من العقاب المنتشرة. وعليه فإنّ طلب بريطانيا لمحكمة العدل بعدم الاختصاص، في ما يخص تسليم بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، مدعومٌ باتّفاقيات أوسلو للسلام، وكلّ الاتّفاقياتٍ الأخرى التي تمنع وتعيق تحقيق العدالة، وتبقى نصوصها مفسرةً تفسيراً واسعاً وغير معياري، ويتعارض مع عدم امتثال إسرائيل الجلي للقوانين وللاتّفاقيات السابقة والحالية واللاحقة، سواء في حقّ الفلسطينيين أو في حقّ الإسرائيليين أيضاً، كما شهدنا مع أهالي المختطفين من طرف حماس.
الأخبار الآتية هذه الأيّام تتحدث عن توجهٍ أوروبيٍ يشكّك في قرارات دولها بشأن موقفها من إسرائيل على الساحة الدولية، إذ تحدث كير ستارمر، رئيس الوزراء البريطاني المنتخب أخيرًا، مع محمود عباس ونتنياهو بشأن وقف إطلاق النار في غزّة، ويبدو أنه من غير المرجح ألا تمضي حكومة المملكة المتّحدة قدمًا في المسعى القانوني، بأن يتخلى حزب العمل عن الطعن أمام المحكمة الجنائية الدولية بشأن مذكرة اعتقال الأخير، كون تاريخ الايداع قد مضى في 16 تموز/يوليو. كما أن الكتلة اليسارية الناجحة في الانتخابات التشريعية الفرنسية متجهةٌ نحو الاعتراف في فلسطين بقيادة جاك لوك ميلونشون، وموقف إسبانيا وغيرها من الدول حول الاعتراف بدولة فلسطين سيؤجج أيضاً النقاش حول هشاشة القانون الدولي واستخدامه لغاياتٍ تضميدية وليست علاجية في ما يخص فلسطين تاريخياً.
سيكون من المفيد أن تُبنى قراءةٌ واقعيةٌ قانونيةٌ نقديةٌ للقانون الدولي الناظم للعلاقات الدولية من طرف المناصرين للقضية الفلسطينية بغض النظر عن حكم محكمة العدل وعن تفاصيل السوابق القانونية والجدلية القانونية لمشروعية الاتّفاقيات الدولية، بحيث تأخذ بالاعتبار أكثر بمفاعيل الصراع ومدى جدوى الاتّفاقات الثنائية مع الجانب الإسرائيلي، بحيث نكون أقرب إلى واقعيةٍ تاريخيةٍ قانونيةٍ نقديةٍ للسلم والأمن الدولي بشأن فلسطين، من أجل الاستعداد لاحتمالية نشوء خلافاتٍ فقهيةٍ أخرى في المستقبل، التي يسيطر عليها المهيمنون سياسياً وعسكرياً، وإعادة الجدل حول الفلسفة القانونية الدولية ومدى فاعليتها لنعكس نتائج ملموسةً في الاتّفاقات والنصوص القادمة ومفاوضاتها، كي تؤثّر على أرض الواقع بعد أن ندفع سياسياً بالوسائل المتاحة إلى الامتثال والانصياع للقانون الدولي.
المصدر: العربي الجديد