هل كان على داعش أن يضرب في الداخل التركي حتى تثور حمية أردوغان وترتعد فرائصه من امتدادات الإرهاب؟ وهو الذي دعم وسهل مرور وعبور الجحافل منه انطلاقاً من أراضيه باتجاه الداخل السوري على مدى سنوات , وهو نفسه أيضاً من تنامى قلقه إلى مستويات ٍ قياسية من تقدم وحدات الحماية الكردية على الحدود في منطقة تل أبيض ولم يقلق حينها مطلقاً من تكاثر داعش في ذات المنطقة , ومن دون أن يبدي أية مخاوف حيال ذلك , مجدداً يعود العزف التركي على وتر الإنسانية بموازاة طلعاته الجوية التي لا يظهر على شاشات طائراتها على ما يبدو إلا مواقع حزب العمال الكردستاني في تركيا وشمال العراق وتغيب عنها بالمجمل مواقع داعش , وذلك لتوفير مايسميه التركي مناطق آمنة في الشمال السوري لتأمين عودة ما يفوق المليون ونصف لاجئ سوري إلى أراضيهم ومنازلهم , هذه الإنسانية التي فضحت ممارسات التركي وعرت مزاعم الحرص على الشعب السوري فكانت يوميات اللاجئين في المخيمات حافلة بمشاهد الإهانة والذل والاعتداء , تماماً كإنسانية الكيان الصهيوني المفضوحة عندما اعترف وزير خارجيته الأسبق بن عامي أن بلاده تداوي جرحى الإرهابيين في مشافيها لأغراض إنسانية , فالكذب واحد والمنهج واحد , هذا المنهج الذي ثارت فيه الحمية الإسرائيلية أيضاً وبالطبع ليس على مواقع داعش, إنما استهدفت اللجان الشعبية في ريف القنيطرة وكذلك موقعاً تابعاً للجبهة الشعبية القيادة العامة عند الحدود اللبنانية السورية .
فكيف تمكن لنا قراءة " الهبة " التركية ؟ وهل ثمة تقاطعات في الرؤى والاستراتيجيا بين تركيا وإسرائيل في تلافيف وتطورات الحريق المستعر في المنطقة .
في اعتقادنا أن " الهبة " التركية في جديد استهدافها وهيجانها وثورانها لن تكون في إطار مراجعة المواقف وإعادة التقييم لسياسات خاطئة , إنما تأتي في سياق التعامل مع واقع جديد تواردت فيه جملة من المتغيرات الإقليمية والدولية وحتى الداخلية التركية منها ولاسيما بعد فقدان حزب العدالة والتنمية الأغلبية المقررة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة , وانطلاقاً من مشهد ٍ أقل ما يمكن أن يشكله في حيثياته وصوره هو المرارة بعينها للنفس التركية يمكن فهم ردة الفعل ومستوى الامتعاض الحاصل في السلوك التركي, ولاسيما بعد تقدم لافت للأكراد على الحدود في معركتهم مع داعش وصولاً إلى مدينة الرقة معقل التنظيم الرئيس في سورية , وهو ما يشكل جوهر الحُرقة لدى أردوغان , ومن هنا يأتي استهداف الأكراد بالصورة التي تركز فيها الطائرات التركية قصفها لمواقعهم من دون أي إزعاج لمسلحي داعش سوى بأصوات محركات الطائرات .
عند البحث في نقاط التلاقي , وتقاسم الأدوار والمشاهد في مسلسل الحرب على سورية , بين تركيا والكيان الصهيوني , فإن ما يخدم الجانبين وإن كان المُستهدف مختلفاً من الغارات التركية عنها من الغارات الإسرائيلية إلا أن الهدف واحد , وهو استهداف الخصم بما يشكل تعزيزاً وانتصاراً وتغذية ًلصالح الإرهاب, الأداة الفاعلة لكلا الطرفين في المشهد السوري , وليست هي المرة الأولى التي تتزامن فيها الأعمال العسكرية والاعتداءات التركية – الإسرائيلية على الأرض السورية التي باتت تشكل لعنة مشتركة على الجانبين لجهة سقوط المآلات والأمنيات بفعل صمود الدولة السورية بشعبها ومؤسستها العسكرية وما تبعه من إطاحاتٍ متتالية لمشاريع بالجملة في كلا جبهتين, شمالية يديرها التركي بأدوات داعشية , وجنوبية يديرها الإسرائيلي بأدوات تكفيرية من جبهة نصرة وأخواتها , هذا التزامن والتلازم في التوجهات , والتقاطع في المصالح والمخططات , قد عبر عن ماهيته ولم يجد أي حرج في أن يشرح حيثياته وتفاصيله رئيس هيئة الأمن القومي الإسرائيلي عميدرور عندما عد أن الاعتداء الإسرائيلي على موقع سوري في منطقة جمرايا بريف دمشق لم يكن ليتم لولا المصالحة مع تركيا, هذه المصالحة التي صاغها أوباما في العام 2013 , وهو الذي اقترح سابقاً ( أي عميدرور) إنشاء قوات عسكرية تركية إسرائيلية مشتركة.
في قراءة لطبيعة وملامح السياسة التركية الأردوغانية والركائز التي تقوم عليها فإننا نجد أنها تستند لركيزتين أساسيتين ذكرهما أحمد داوود أوغلو في كتابه عن العثمانية الجديدة هما القوة العسكرية والتراث التاريخي لجهة عودة حلم الامبراطورية العثمانية , ومن هنا نفهم التنسيق العسكري التركي الإسرائيلي لتعزيز هذه القوة العسكرية , وافتقار العقل السياسي التركي الحالم بأمجاد امبراطوريته إلى الآفاق السياسية البناءة , والإسراف في انتهاج الطرق الهدامة في تعاطيه مع المتغيرات , وقراءته للمشهد السياسي الذي يكون فيه على استعداد تام حتى لدعم وتمويل وإسناد مجاميع الإجرام وقاطعي الرؤوس لتحقيق رغباته وأحلامه ومشروعه الإسلاموي.
من الغارة الإسرائيلية على ريف القنيطرة التي تنامى فيها الصمت الأمريكي الإيجابي المؤيد لها بالطبع قلباً وقالباً في سياسة أمريكية مفضوحة دون خجل تعلن جهاراً نهاراً أن جل ما يفعله الكيان الصهيوني هو دفاع عن النفس وأن أمنه حجر الزاوية في استراتيجيتها , مروراً بتنسيقها ودعمها للغارات التركية على مواقع الأكراد , لم تطلب فيها متزعمة التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب من أردوغان تصويب عملياته وتركيز استهدافاته على معاقل داعش, بل طلبت من حزب العمال الكردستاني وقف عملياته العسكرية في حين كان مطلبها من التركي البحث عن حل سياسي , تماما ً كبحثها هي عن الحل السياسي في سورية الذي تطلق عليه في كل لحظة آلاف الرصاصات , لتسعير النار وإذكاء الإرهاب بعناوين براقة وطروحات سياسية أكثر بريقاً , لا تجد الولايات المتحدة أجدر من الحمية التركية الإسرائيلية لتنفيذ ذلك.
* كاتب وباحث سياسي فلسطيني مقيم في سورية
mbkr83@hotmail.com