وجهة السياسيين , ومقصد المهرولين , وموضع عين الباحثين عن الحلول , هكذا تبدو طهران هذه الأيام , حراك سياسي يتنامى باتجاه أراضيها اعتقاداً ويقيناً بالقدرات الإيرانية , ولاسيما بعد حصادها السياسي فيما يتعلق بالمفاوضات النووية مع السداسية الدولية , وانطلاقاً مما أعلنته طهران عن الفعالية والدور المؤثر الذي من الممكن أن تلعبه في استيلاد الصيغ السياسية التوافقية, والتأسيس لمرحلة ما بعد الاتفاق النووي , لجهة الشروع في الإعداد لحلول سياسية على قاعدة " المنتصرين معاً " , وبعد حراك ٍ دولي تزعمته روسيا مهد الطريق لإمكانية تصنيع انفراجات سياسية في جدار وتلافيف " المعقد السياسي والميداني " الذي يتشح به المشهد السياسي للمنطقة , ولاسيما بعد تقرب سعودي واضح المعالم والغايات باتجاه روسيا التي حافظت على صلابة موقفها واستزادت في لاءاتها الدولية وتحديداً في الملف السوري أنهت بشكل نهائي المحاولات السعودية العقيمة السابقة لإحداث نوع من الليونة في الموقف الروسي , بعد كل ذلك, جاءت المبادرة الإيرانية المعدلة كتتويج للثبات الدولي الروسي واللين البطولي الإيراني المستند إلى ثنائية " الليونة لانتزاع الحقوق – والصلابة في الثوابت " , وصمود الدولة السورية , وعقائدية مؤسستها العسكرية والتكامل المثمر بينها وبين المقاومة الإسلامية في لبنان الذي أنتج سيلاً من الإنجازات في الميدان السوري ولايزال , هذه المبادرة التي تؤسس بالفعل لاتفاق اقليمي دولي يعالج المشكلات السياسية وفق منطق الأولويات ويصيغ بعقلانية حلولاً تتوافق واحترام سيادة الدول , وحق الشعوب في تقرير مصيرها , ومواجهة الإرهاب كحقيقية ثابتة قطعية لجهة تنامي خطرها ولا استثناء لجغرافيا من حممها .
ثمة من يعتقد أن المبادرة الروسية لجهة تشكيل حلف اقليمي ودولي لمواجهة الإرهاب , وكذلك المبادرة الإيرانية الحالية المعدلة فيما يتعلق بالحرب السورية قد تحمل بين طياتها شيئاً من " التراجع ", والقبول بما كان قد وصفه وزير الخارجية السوري وليد المعلم بالمعجزة, هذا من جهة , وما قيل عن البند الذي يتحدث عن وقف لإطلاق النار في سورية لجهة المساواة بين الدولة السورية والتنظيمات الإرهابية كطرفي نزاع من جهة أخرى , ولاسيما أن ما يحدث في سورية قد تجاوز بكثير مسألة الحديث عن صراع بين نظام ومعارضة سياسية مسلحة , فما يحدث مواجهة كبرى مع تنظيمات تكفيرية بعينها باتت مصنفة دولياً على قائمة الإرهاب لا تقتصر أعمالها الإجرامية فقط في الجغرافيا السورية بل تعدتها بكثير لتشمل المنطقة والعالم برمته , وهنا نقول :
في التوصيف السياسي للحاصل فيما يتعلق بالمبادرات , وانطلاقاً من سياسة الدولة السورية أو ربما سياسة المحور الممتد من موسكو إلى سورية مروراً بطهران على مدى سنوات الحرب على سورية المتموضعة في الخانات الدفاعية فقط , وعدم تحول تلك السياسة للاستراتيجية الهجومية التي جوهرها إيصال الحمم لجغرافيا الخصم بالشكل الذي يهدد مصالحه , وتحديداً الكيانين التركي والسعودي , وذلك لاعتبارات ٍ تفرضها ربما الحالة الدولية لجهة منع استثمار الخصم لحالة تشتعل فيها النيران في أراضيه وتالياً ما يؤمن له الأرضية الدولية للبناء عليها يتحول معها المعتدي إلى ضحية في مجتمع دولي يتماهى سياسياً مع ذلك الخصم , وانطلاقاً أيضاً من عدم التزام هذين الكيانين بوقف تدفق السلاح والمسلحين إلى الداخل السوري , أي ضرب القرار الدولي 2170 عرض الحائط وعلى العين الدولية نفسها , فإن ذلك يجعل من مسار الحسم العسكري على الأرض السورية مستحيل التطبيق والنفاذ , وتالياً سيبقى الانخراط في نزاع سيزيفي لا جدوى ولاطائل ولا نهاية له سيد المشهد السوري , ومن هنا فإن التكامل بين المبادرتين الروسية والإيرانية لجهة تثبيت الشرعية السورية بانتخابات نزيهة يشرف عليها مراقبون دوليون ويعلم فيها مسبقاً أصدقاء الدولة السورية الحجم التمثيلي الشعبي لكل طرف سيخوض هذه الانتخابات, وكذلك إطلاق تسوية سياسية بإشراف دولي تصيغ جهداً توافقياً ومنظومة ً موحدة لمواجهة الإرهاب تنخرط فيها كافة الأطراف التي كانت تطلق النيران على الحلول السياسية وتنتهج سلوكاً تصعيدياً باستمرار , وهي اليوم في قلب النار الداعشية والتي كان آخرها تفجير أبها جنوب السعودية وتفجير سروج في تركيا , يعتبر من الأهمية بمكان ونجاحاً روسياً إيرانيا ً في وضع إرادات واشنطن وحلفائها على المحك , وتأكيداً لصوابية الرؤية والقراءة الصحيحة لخصوم واشنطن فيما يتعلق بتنامي وارتداد الإرهاب .
ما يثير الغرابة وما يبعث على الريبة هو استمرار واشنطن وحلفائها " بتمييع " المشهد السياسي والتشويش على الجهد والمآلات البناءة التي تصيغه مثل هكذا مبادرات , إذ لا يزال الأمريكي وبعد كل ذلك الحراك السياسي الحاصل يتحدث عن معارضة سورية معتدلة يجب دعمها وبالطبع ليس لمواجهة داعش " صراحة ً" , إنما لصد أي هجوم من الجيش السوري ضدها بحسب ما أعلنه البنتاغون مع أول غارة أمريكية شُنت مؤخراً على شمال سورية , هذه المعارضة التي وصّفها أوباما نفسه بأن الحديث عنها هو مجرد ضرب من الخيال , ما يؤكد النيات المبطنة بإطلاق الألفاظ التي تفيد التأويل بأكثر من اتجاه , وبما يعزز عدم الجدية وسياسة ازدواجية المعايير الذي لا يزال يطفح به سلوك واشنطن وحلفائها من " جوقة الممتعضين" ,الذين أولهم أردوغان الذي بات لا ينطق لسانه إلا بالحماقة السياسية عندما جاء تعليقه على طرح الرئيس روحاني في اتصال هاتفي معه حول ضرورة إقامة مشروع مشترك وحل عملي لاجتثاث الإرهاب , بأن لا أمان ولا استقرار بوجود الرئيس الأسد ( بحسب رد أردوغان) , وهو الذي يعلم أنه لا أمان ولا استقرار في المنطقة , إلا بوقف سياساته المقوضة للأمن الطافحة بكل عناوين المشاكل والصفر جيران , وليس آخرهم الإسرائيلي الذي لم تجد وسائل إعلامه أي حرج في الإعلان نقلاً عن تقارير يونانية بأن قوات إسرائيلية تدربت في اليونان لشن هجمات محتملة على إيران , ومن هنا نقرأ ونفهم ما قاله لا فروف لنظيره كري في ماليزيا لجهة أنه لا منهجية مشتركة مع واشنطن لمحاربة داعش بسبب ما سماها التناقضات الخارجية .
استناداً إلى ما قاله مؤخراً الأدميرال علي شمخاني عند الحديث عن سبب عدم استهداف خصوم الجمهورية الإسلامية لها خلال الفترة الماضية بأن ذلك ( لايعني أنهم لايريدون بل لا يستطيعون) , وانطلاقاً من جزئية غاية في الأهمية ألمح لها أوباما في خطابه الأخير في الجامعة الأمريكية لجهة أن عقلية الحروب هي التي قوت إيران , وإن أي طرف في إيران لن يتنازل عن سيادة بلاده سواء أكانت القيادة الحالية أم المعارضة أم الشعب , وربطاً مع دفاعه المستميت عن الاتفاق النووي وضرورة المصادقة عليه من قبل الكونغرس فإننا نعتقد جازمين أن كل محاولات إطلاق النار من قبل جوقة الممتعضين على المبادرات الحاصلة هي في إطار المناورات التي ستقود مديريها قسراً إلى معادلة " طهران تبادر .. جوقة الممتعضين تبادر" , إذ لطالما جاءت هذه المبادرات تأسيساً على الاتفاق النووي الذي قال عنه أوباما أنه ليس فقط الخيار الأفضل إنما الأفضل على الإطلاق.
* كاتب سياسي فلسطيني
mbkr83@hotmail.com