بقلم: سمير الفزاع
في آخر زيارة له إلى الكيان الصهيوني، وفي معرض إجابته عن السؤال التالي لأحد صحفيي قناة "ان بي سي"الأميركية: إلى أي حد يمكن أن تذهب روسيا في الدفاع عن مواقفها في القضية السورية؟ بدا الرئيس بوتين مستفَزّاً بشكل واضح، وقال:"اذا أصرت الولايات المتحدة على متابعة سياساتها الخارجية العدوانية ضد الدول ذات السيادة، فإن روسيا لن تعدم الوسيلة من أجل منعهم من القيام بذلك. و"ستبدو السماء كفروة خروف"، لكل من تسول له نفسه قطع الطريق على مصالح بلادنا". يستعمل المثل الروسي القديم:"ستبدو السماء كفروة خروف" في حالة التعبير عن هول الصدمة والذعر لدرجة تصور السماء على كبرها بحجم فروة خروف!. وللتذكير فقط، قبل أن يصل الرئيس بوتين الى كيان العدو بثلاثة أسابيع تقريباً، شاهد سكان حوض المتوسط كتلة نارية ضخمة في سماء المنطقة إختلفوا في تفسيرها، حتى أعلن العقيد "فلاديمير كوفال" المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية ان القوات الصاروخية الاستراتيجية الروسية نفذت تجربة ناجحة لصاروخ "توبول" الباليستي العابر للقارات. لقد قدم بوتين تجربة ميدانية ليتأكد من إستيعاب الخصوم والأعداء لمعنى المثل الذي سيسوقه لاحقاً، ويروا بإم العين كيف تضيق السماء حتى تصبح مجرد فروة خروف!.
لا يمكن الحديث عن العلاقات الروسية-السورية دون الشعور بحجم تعقيد وتشابك هذه العلاقة، علاقة تتداخل فيها عوامل الجغرافيا والسياسة والدين والتاريخ والحرب... وحتى الشعر. مثلاً، التوليفة العبقرية التي جعل منها الرئيس بوتين رافعة لمشروعه السياسي، بالمزاوجة بين إيقاظ الشعور القومي والتصالح مع الكنيسة الأرثوذكسية، حيث كان الفكر الشيوعي ومقولة الإلحاد، من أمضى الأسلحة في الحرب الدعائية التي مُورست ضد الإتحاد السوفيتي، ويكفي التذكير بالنموذج الأفغاني وحشد عشرات ألآف المقاتلين بدعوى الجهاد ضد الشيوعية والإلحاد، في حرب كلّفت موسكو غاليا جداً، وكانت من أحد أهم أسباب إنهيار الإتحاد السوفيتي. عندما بحث القيصر عن شطر هذه التوليفة وجد أن الكنيسة الأرثوذكسية الأم موجودة في سورية. وعندما بدأت الأخطار تتهدد أهم محركات إقتصاد الفدرالية الروسية، الغاز والنفط، وجد أن الضربة القاضية لمشاريع الطاقة الروسية تأتي من مشروع نفطي-غازي، أوروبي-أمريكي-خليجي، يبدأ من جزيرة العرب ليصب في سواحل المتوسط، وتحديداً في الساحل السوري، وعبر الأراضي السورية إلى تركيا. وعندما بحث عن الدول التي لم "تخُن" السلاح السوفيتي لتستبدله بالسلاح الغربي لم يجد سوى سورية... عاملان آخران في هذه العلاقة سأترك الصحفي الكبير روبرت فيسك ليخبرنا عنهما. بعد الفيتو الروسي-الصيني الأول في مجلس الأمن، سافر فيسك الى موسكو، ليسال الروس عن لغز موقفهم هذا؟. كان فيسك مذهولاً من ثبات الموقف الروسي وفشل كل الأطراف في زعزعته، ولم تكن لديه ادنى فكرة عن سرّ هذا التعنت. في موسكو سمع فيسك الجواب التالي: سيّد فيسك، لو سقطت دمشق فسوف تسقط موسكو وبكين. انها معركة حياة او موت بالنسبة لنا. إن اسطولنا الحربي الذي يقطع مسافات شاسعة في البحار بين البلطيق والمتوسط، سوف يضطر الى العودة للبلطيق ثانية في اي مواجهة حربية عندما يحتاج فرشاة اسنان!. وفي هذه الحالة، فروسيا من دون سورية ستخرج من معادلة القوة العسكرية في البحر. وحين تخرج موسكو من معركة الغاز مهزمة، بانتصار خط غاز( نبوخذ نصر) الأوروبي-القطري، واستيلاء الأتراك على خطوط الأمداد، ستتحوّل تركيا إلى دولة الترانزيت الثرية والأكثر استعداداً وشراسة لدعم التكفيريين في العمق الروسي لتمزيق أحشاء موسكو، عندها ستخرج روسيا ربما ألى الأبد من المعادلة العسكرية والاقتصادية.
أصبح معروفاً لدى الجميع بأن تحالف واشنطن نفذ عدداً كبيراً من الغارات، وإن كان 75% منها لم تضرب أهدافها حسب آخر تسريبات قادة وتقارير أمريكية... وآخر الفضائح الأميركية في هذا المجال ما قاله أحد قادة البشمركة بأن واشنطن منعت قواته من التقدم لقطع طريق نينوى-الرقة الذي تستخدمه داعش في نقل عناصرها وآلياتها والنفط المنهوب... بدعوى أن الطريق مدني!... إلا أن هذه الغارات الأميركية لم تخرج حتى اللحظة عن إستراتيجية واشنطن في تشغيل وإستثمار داعش وفق الآليات التالية: 1- تحديد الميدان الكلي لحركة داعش وحصره في مناطق محددة من سورية والعراق. 2- رمي الأسلحة والذخائر لداعش في حال توجه إلى منطقة تريد واشنطن منه أن يتقدم فيها، كما حصل في جرف الصخر. 3- قصف داعش في حال تقدمت في مناطق لا تريد واشنطن لها التقدم فيها، كما حصل في أربيل.
إنتظرت موسكو لأكثر من عام حتى يثبت للعالم بأن هذا التحالف لا يحارب الإرهاب؛ بل هو يستخدمه لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية. وأن هذا التحالف بات يمثل "المظلة الجوية" التي طالما طالبت بها أدوات الغزو الأمريكي الإرهابية لحمايتها من أي مكافحة فعليّة. والتصريح الأخير للناطق بإسم البيت الأبيض يؤكد هذا المعنى تماماً، عندما حذر من إحتمال حدوث تصادم بين موسكو وتحالف واشنطن لمكافحة الإرهاب. لقد سمح هذا التحالف بتمدد داعش على نحو كبير جداً، ومنع حتى اللحظة قيام تحالف جدي من الجيشين العربي السوري والعراقي وايران والحشد الشعبي وحزب الله... يحارب الإرهاب ويخلص المنطقة والعالم من شروره. من هنا تأتي الأهمية الإستراتيجية الكبرى للموقف الروسي الأخير، والذي يمكن تلخيص دوافعه الحقيقية بجملة واحدة: كسر وهزيمة الإستراتيجية الأمريكية القائمة على إدارة وتشغيل داعش لتحقيق أهداف جيوسياسية. ولن يتم ذلك إلا بإقامة تحالف حازم وقادر، يحارب داعش ويكسر هذه الإستراتيجية الأمريكية ويجبرها على أحد أمرين: إما إقرار واشنطن بسقوط المشروع الأضخم والأخطر والأكثر كلفة منذ سايكس-بيكو القائم على إعادة صياغة "الهندسة الإجتماعية" للمنطقة برمتها بإستخدام الإرهاب وداعش في مقدمته، وإما دخولها في مواجهة مباشرة مع موسكو ودمشق وحلفائهم في المنطقة والعالم، مواجهة تبدأ في سورية والله وحده من يعلم أين ومتى ستنتهي. لهذا شرعت موسكو في أكبر عملية تسليح للجيش العربي السوري منذ ثمانينات القرن الماضي، عندما قال الزعيم "أندربوف" لن أسمح بسقوط الأسد، وأرسل عدة أطقم بكوادر سوفيتية من صواريخ أس-200، لمواجهة طيران أمريكا والنيتو. إن ما تقوم به روسيا من توريد مكثف لمروحة واسعة من الأسلحة والذخائر عبر البحر والجو إلى سورية، وصيانة وربما إنشاء مطارات عسكرية، ونشر منظومات دفاع جوي خاصة بالجيش الروسي من طراز أس ايه 22، تشغلها أطقم روسية، وصولاً لمعلومات تتحدث عن توريد عدة أسراب من مروحية "الصياد الليلي" لسورية... يعيد حتماً إلى الذاكرة تلك اللحظة الفارقة من العلاقات السورية-السوفيتية، ويؤكد دخول موسكو على خط المواجهة الميدانية مع مشروع واشنطن.
ختاماً، في هذه اللحظة الفاصلة من الحرب على سورية، باتت موسكو أقرب من أي وقت مضى الى منازلة تاريخية تشبه كثيراً تلك المواجهة التي فُرضت عليها إبان العدوان الثلاثي على مصر، عندما هددت بتدمير عواصم العدوان بالأسلحة النووية. ربما لهذا السبب جاءت الغواصة النووية الروسية الأحدث والأضخم عبر التاريخ قبالة السواحل السورية، ليخبر بوتين العالم قاطبة بأنه لن يسمح بسقوط الأسد، وأنه أصبح جاهزاً لجعل السماء أصغر فروة خروف.
بوتين: سماء أصغر من فروة خروف
2015-09-15