بقلم: سامر منصور
على الورقة الأخيرة من رواية «العمى»، يكتب الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو: «أعتقد أننا عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا، لكنهم لا يرون».
«رجب طيب أردوغان – قصة زعيم»، الكتاب الذي يتناول حياة أردوغان ومشواره السياسي. قراءة الكتاب تضعك أمام "قصة نبي"!، في محاولة جادة ومخلصة، لتكريس "عمى" ساراماغو. في الرابع عشر من آب 2001، يقف أردوغان ليلقي كلمته مع ولادة «العدالة والتنمية». قال بأن اليوم يحلّ مفهوم جديد للقيادة، يتمثل في العقل الجمعي بدلا من قيادة اعتمدت على الاحتكار، وأنه يوم سيكتب في تاريخ السياسة التركية، الذي ولد فيه حزب العدالة والتنمية، وقام بتأسيسه أفراد محبون لخدمة الجماهير وليس للكرسي. ثمّ استشهد بعبارة فولتير: «إنني لا أوافق على وجهات نظرك، لكنني مستعد لتقديم روحي لتستطيع أن تعبر عن أفكارك»، قبل أن يقول بأن الطريق الذي اختاره مع رفاقه المؤسسين للحزب، لا يمتد لعدة أيام فقط، ستعلم تركيا بأسرها ماهية هذا الدرب في المستقبل القريب. الانتخابات المبكرة في تشرين الثاني 2002 حملت معها العدالة والتنمية إلى البرلمان التركي، مع أغلبية تسمح له بتشكيل الحكومة منفردا. بعد مخالفته لقوانين الجمهورية العلمانية، وتحريضه على الكراهية الدينية، حين قال في خطاب شعبي، أبياتا من الشعر: «مساجدنا ثكناتنا، قبابنا خوذاتنا، مآذننا حرابنا، والمصلون جنودنا، هذا الجيش المقدس يحرس ديننا»،تمّ سجن "الطيب أردوغان" لمدة أربعة أشهر في العام 1999. مع انتخابات 2002 كان لا يزال أردوغان تحت حظر دستوري يمنعه من الترشح، فوجد نفسه خارج مجلس يحتل حزبه غالبية مقاعده. لذلك تمّ تعديل الدستور بشكل يسمح بانتخابه نائبا برلمانيا، وتتدخل "العناية الإلهية" عبر اللجنة العليا للانتخابات التي قامت بإبطال نتيجة الانتخابات في مدينة "سيرت"، مما سمح لأردوغان بالترشح فيها، والفوز بمقعد نيابي، قبل أن يلقي كلمة شكر للمدينة التي انتخبته، ومن المكان نفسه الذي أقتيد منه سابقا إلى السجن!!. أول القادة الذين اتصلوا لتهنئة أردوغان كان رئيس الولايات المتحدة "جورج بوش"، الذي كان قد استقبله سابقا في البيت الأبيض بقوله: «إنني أؤمن بإله واحد، وسمعت أنك أيضا مثلي، وإنني أتمنى أن نقوم معا بأعمال جيدة كرجلين يؤمنان بالله». كان بوش في تلك الإثناء، وكرجل مؤمن بالله، يتحضر لغزو العراق، بينما كان أردوغان يتوجه لتشكيل حكومته الأولى، بعد استقالة صديقه عبد الله غول من حكومة العدالة والتنمية الأولى التي دامت أربعة أشهر فقط، والتي بدت فترة انتظار لوصول أردوغان إلى رئاسة مجلس الوزراء.
كانت نتائج انتخابات السابع من حزيران 2015، مخيبة لآمال «العدالة والتنمية». أردوغان يكره الحكومات الإئتلافية بقدر كرهه للعلمانية التي جعلته " يتطور دون أن يتغير". ينتمي أردوغان إلى مدرسة «ميكافيللي» السياسية والأخلاقية، ويؤمن إيمانا مطلقا بأن «الغاية تبرر الوسيلة». غاية أردوغان كانت واضحة: استعادة الأغلبية المفقودة عبر انتخابات مبكرة التي تسمح له بتغيير الدستور التركي، وتغيير النظام البرلماني إلى نظام رئاسي. أما الوسائل التي ستحقق له غايته فكانت زعزعة الإستقرار الأمني والإقتصادي في الداخل التركي، وفرض قيود مشددة على وسائل الإعلام، واستثمار أزمة اللاجئين. في الوقت الذي كان يؤكد فيه أردوغان على أن مشاكله ليست مع الأكراد، كان ينهي فترة "سلام" مع حزب العمال الكردستاني، ليشعل نيران الحرب مجددا مع ما يعتبره «منظمة إرهابية»، وكذلك يستعين بحليفه الإستراتيجي "داعش" لتفجير المظاهرات السلمية لحزب «الشعوب الديمقراطي». كما نجح اردوغان باستدراج المستشارة الألمانية إلى تركيا، قبل أيام من الإنتخابات، بعد أن وجه أزمة اللاجئين نحو أوربا، ليسمع الأتراك "ميركل" وهي تشكر أردوغان على تحمّله أعباء اللاجئين، وتعده بتسريع عملية الإنضمام إلى الإتحاد الأوربي. ترافقت النيران التي كان يشعلها اردوغان، مع تصريحاته التي تؤكد على أن الإستقرار تأثر سلبا بعد انتخابات 7 حزيران، وتحرف الأنظار نحو "عناصر خارجية وداخلية" تسعى لزعزعة وحدة بلاده، وأن المؤسسات الإعلامية التي تنتقده، تتلقى تعليمات من "عقول مدبرة"، وفي النهاية يؤكد بأن تركيا ستستعيد "قوتها" مع الانتخابات القادمة!!. الإستقرار في تركيا مرهون بفوز العدالة والتنمية بالسلطة منفردا، هذا ما أراد قوله بوضوح شديد.
أعتقد الكثيرون أن انتخابات حزيران، كانت صحوة الشعب التركي، ليبدأ معها مرحلة سقوط أردوغان. الربيع العربي وخاصة "الربيع السوري"، كشفا عن وجه أردوغان الحقيقي. "السلطان" الذي أفقد تركيا كل جيرانها، وجعل من تركيا، وكرا لكل إرهابي العالم، وجسرا لأزمات الشرق والغرب. الحدود التركية المفتوحة أمام كل المنظمات التكفيرية التي تعيث خرابا وقتلا وتهجيرا، مع دعم أردوغاني لا محدود. هذه الصورة كانت واضحة ولا تحتاج إلى عناء اثباتها، فأردوغانهم كان يملؤ العالم ضجيجا وتصريحا وبوقاحة سياسية معلنة، عن استمراره بدعم المنظمات الإرهابية في سوريا. لكن "الصحوة" التركية لم تدم سوى بضعة أشهر فقط. فالشعب التركي اختار في الأول من تشرين الثاني أن يقايض "عماه السياسي" بالاستقرار الذي وعده به الطيب أردوغان.
بعيدا عن التحليلات التي غرقت في النقاط التي خسرتها الأحزاب التركية لصالح حزب العدالة والتنمية، والتي جعلته قادرا على تشكيل الحكومة منفردا، دون أن تسمح له باستفتاء الشعب على تغيير النظام البرلماني التركي إلى نظام رئاسي، وهو ما سيحاول القيام به خلال الفترة القادمة. فالرئاسة التركية تبدو منصبا شرفيا، لا يناسب "زهد" أردوغان بالسلطة. رئيس مجلس الوزراء التركي "أحمد داود أوغلو" صرّح بأن السبب الكامن وراء تزايد نسبة الأصوات هو: الصدق، الصدق الصدق!!!. بينما كانت إحدى الصحف التركية التي لم تتلق تعليمات من "العقول المدبرة"، تقول بأن فوز أردوغان شكل صدمة للصهاينة، لأنه أحبط مخططاتهم الفوضوية! بينما شكّل فوزه مكسبا استراتيجيا بالنسبة لأشقاء تركيا العرب وخصوصا المملكة السعودية لمواجهة تحديات المنطقة وخاصة التحدي الإيراني "العدواني" والتحدي الصهيوني!. هذا الموقف ليس غريبا على أشقاء تركيا العرب وعلى رأسهم المملكة السعودية، الذين رقصوا مع شاه إيران حتى الصباح في الذكرى 2500 للإمبراطورية الفارسية، ومع جورج بوش احتفالا بالغزو الأمريكي للعراق، فلن يدعوا فرصة الرقص مع "السلطان العثماني" تفلت من تاريخهم المجيد.
»»» يبدو أن جزءا كبيرا من الشعب التركي، اختار العيش "بعمى وسلام"، بين صدق أوغلو، واحباط أردوغان للمخططات الفوضوية الصهيونية، مستسلما ربما لمقولة ساراماغو : "ما أصعب أن يكون المرء مبصرا في مجتمع أعمى"!!
الإنتخابات التركية - السعي بين العمى والصحوة
2015-11-15