بعد انهيار التماسك القومي العربي في السياسة والدفاع في متوالية متصاعدة بعد حرب 1967، وإن شهدت حرب أكتوبر 1973 بعثا معقولا له ؛ ركز المثقفون العرب جهودهم في الدفاع عن الوحدة العربية في الجانب الثقافي باعتباره الخندق الأخير بعد أن تساقطت الجوانب الأخرى لتلك الوحدة . وكانت مبررات الدفاع عنها وفيرة لا تحرك الخصومات والمشكلات التي تحركها قضايا السياسة والدفاع ، ولم يكن في قدرة أحد أن ينكر وفرة موجبات ومحققات الوحدة الثقافية العربية . لغة واحدة ، وتاريخ أدبي واحد ، وأذواق جمالية متشابهة لا تضعفها التباينات القليلة الظاهرية التي تعد أمرا مسوغا بحكم اختلاف البيئات الاجتماعية بين بلد عربي وآخر وداخل المجتمع الواحد نفسه . وكان المألوف أنه إذا برز كاتب في بلد عربي أن تنتقل شهرته والاهتمام به إلى بقية البلدان العربية دون أن يلتفتوا إلى هويته الوطنية . فورا يرونه شاعرا عربيا أو روائيا عربيا أو كاتبا سياسيا عربيا ، ويكون محط اعتزازهم وتقديرهم . ولم يخشَ أحد على وحدة الهوية الثقافية العربية من أن يصيبها الانهيار الذي أصاب قضايا وحدة السياسة والدفاع إلى مستوى التحالف مع إسرائيل والقوى الغربية ضد بلدان عربية أخرى مثلما حدث في العراق وسوريا وليبيا واليمن وفلسطين . إلا أن هذا ما حدث . أساء المتفائلون ببقاء الوحدة الثقافية العربية فهم العلاقة التفاعلية بين السياسة والأمن القومي من جهة والثقافة من جهة أخرى . اكتشفنا أن الثقافة لا تتحرك في معزل مغلق بعيدا عن قضايا السياسة والدفاع ، وأن تلك القضايا تطرح كثيرا من ثقلها عليها ،وأننا أقل نضجا وأفقر وعيا من أن نجنب الثقافة التي تتميز بالثبات والديمومة تأثيرا ت السياسة والدفاع التي يميزها التقلب والوقتية العابرة . ومثل ما سمي الربيع العربي الضربة التي أيقظتنا من تفاؤلنا في الاستثنائية الثقافية . رأينا من يحض على التخلص من اللغة العربية والعودة إلى اللغة التي كانت لهذا البلد العربي أو ذاك قبل إسلامه وتعربه ، ومن يريد استبدال اللهجة المحلية بالعربية الفصيحة في التعليم . صحيح أن هذه الإرادات والدعوات قديمة ، ولكنها تميزت هذه المرة بالجرأة التي نرى من دواعيها قوة الحملات الظالمة الجاهلة على الإسلام الذي يرتبط باللغة العربية ارتباط المضمون بالوسيلة التي توصله إلى أفهام الآخرين وقلوبهم ؛ فقد اشتد بأس تلك الحملات بعد الربيع العربي الموهوم على الإسلام ، ووصم دعاته والمتمسكون بنهجه وقيمه في السياسة وحياة المجتمع بكل النقائص والمُدينات ، وقتل منهم كثيرون ، وسجن كثيرون وعذبوا ، ومازالوا في سجونهم وتعذيبهم . ومن يحارب الإسلام يحارب لغته ضمنا أو صراحة. ويتخذ تمزق الوحدة الثقافية العربية مظاهر عنصرية إقليمية . كاتب في " الأهرام " تحدى إعلاميا سعوديا أن يكون في بلاده كتاب مثل عباس العقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وغيرهم ! ومن يطالع ما يتبادله القراء العرب من شتائم وهجائيات عنصرية في مواقع التواصل الاجتماعي يعرف نوعية التعليم والتثقيف الإقليمي الفاسد الذي يصنعهم ، ودعك من لغتهم المحلية السمات ، الرديئة حتى في إملائها . ويوضح تسابق المواقع الإعلامية في نشر سخائف وسطحيات بعض المنسوبين إلى الإعلام توضيحا ساطعا بعض وجوه الهبوط والتمزق الثقافي العربي . أصحاب تلك السخائف والسطحيات يستحيل أن يتقبلهم أي مجتمع أو ثقافة سليمي الحس والذوق ، رفيعي الغايات والمقاصد . وكان الصواب أن تكون تلك المواقع وسيلة سريعة واسعة لنشر ما يمتن الوحدة الثقافية العربية مضمونا واتجاهات ولغة وذوقا . لا يمكن إغفال أن بعض هذه المواقع وهب ملتقى لكتابات عربية من أقطار عربية كثيرة غير أن النظر فيها يخبرنا أنها في كثرتها ذات سمات إقليمية لا عربية مشتركة حتى في الشعر الذي يفترض أنه أوسع في شموليته العربية من الكتابات الأخرى . إذا تواصل تمزقنا الثقافي ، وانضم إلى انهيارنا السياسي والدفاعي فلن نجد من يبكي على أطلالنا . الثقافة روح الأمة التي إذا تمزقت تمزق وجودها ، وهي من أقوى عناصر وحدتها الوطنية ، ودائما كانت الجامع الموثق للحمة المجتمعات التي تتنوع مكوناتها العرقية متقدمة في فاعليتها على وحدة الدم ، والمجتمع الأميركي أصدق مثال لهذه الحقيقة .
.
حتى الوحدة الثقافية العربية لم تسلم لنا
2015-11-18
بقلم : حماد صبح