أعتقد أنّه اذا كان السياسيون يختلقون الماضي بشكل غريزي، ويوظفونه ويولفونه بعمق ليخدم رؤاهم ويتساوق معها درجة التماهي، فانّ رجال المخابرات والأستخبارات(النخب منهم) يفعلون ذلك بشكل احترافي ومهني وأكثر عمقاً، والسؤال هنا من يلعب دور ميدوسا في الأسطورة الأغريقية(ميدوسا احدى فتيات شريرات ثلاث، شعرها عبارة عن أفاعي وعندما تنظر الى الشخص تحوله حجارة)رجل السياسية أم رجل المخابرات؟ أم كلاهما؟.
الوضع الجيوسياسي في الشرق الأوسط رمال متحركة ورياح متغيرة، أعمدة المعسكر السنيّ في المنطقة تحاول لملمة نفسها، أو بالأحرى التكوكب من جديد في الموقف من المسألة السورية والمسألة الأيرانية(الأتفاق النووي يدخل حيّز التنفيذ وأثره المالي عظيم على ايران وهذا ما يقلق بعض العرب)وما يجري في اليمن ولبنان أيضاً(السعودية، تركيا، مصر)، ولاعب الشطرنج المحترف عندما لا يجد لاعباً يوازيه يلعب مع نفسه ويكون الرابح دائماً، وكذا الولايات المتحدة الأمريكية التي لا ترى محارباً يوازيها فقررت ان تحارب نفسها كي تربح دائماً وكي يستمر عمل الجيش والأستخبارات والمصانع الحربية والدولار، ومجتمعات الميسر والقمار والدعارة العابرة للقارات والحدود والأزمنه، والأخيرة أقدم مهنه ومشروع في التاريخ البشري.
قلب وتقليب مفردات التاريخ ولغات وحقائق الجغرافيا من جديد، من قبل العاصمة الأمريكية واشنطن دي سي، وحلفائها وأدواتها ازاء الفدرالية الروسية وعبر سورية وأوكرانيا والعراق، بمثابة صراع مباشر وحرب سياسية ساخنة ودبلوماسية متفجّرة في طور التحول والتمحور والتبلور وبكل اللغات ستقود، الى انفجار أمني وعسكري واقتصادي حيث نواة هذا الأنفجار سورية، كون الحرب الحالية المزعومة على عروق ومفاصل الأرهاب في الداخل السوري عبر التحالف الأمريكي(خارج قرارات الشرعيه الدولية)ومعه أكثر من ستين دولة، هي من ستشعل النواة الأولى لأنطلاق هذا الأنفجار الأمني والعسكري الشامل المتوقع بين موسكو والغرب، حيث الفعل العسكري الروسي المشروع واضح في الداخل السوري، وقد يحدث التصادم عند صيرورة اللحظة التاريخية المرجوة لكلا الطرفين أو لكل الأطراف، وتحذيرات سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسية الأخيرة حول نوايا أمريكا ازاء توسيع الضربات العسكرية لتشمل مواقع للجيش السوري، والتي صارت شبه فعل حتّى اللحظة تجيء ضمن هذه السياقات.
الحرب على عروق ومفاصل الأرهاب في سورية بشكل خاص، هي لاسقاط سورية كمدخل لاسقاط روسيّا وتقويض توسع مناطق النفوذ الروسية بالمشرق العربي، مع الأعتراف أنّ الداخل الروسي يستشعر ومنذ الحدث السوري وبشكل كبير الآن، بأنّ ملامح الفوضى الأمريكية ونسخ استراتيجيات توحشها تحرك بعض من في الداخل الروسي للمطالبة بالأنفصال عن الجمهورية الأتحادية الروسية.
أمريكا عندما خلقت "الداعشية" العسكرية عبر توجيه أسباب انتاج ظروف بيئتها في المنطقة خلقت "الداعشية" السياسية، والأخيرة ضرورة لأستمرارية الأولى في فعلها وتفاعلاتها ومفاعيلها. والأرهاب الخيار الأستراتيجي لنواة الدولة الأمريكية، والأدارة الأمريكية كحكومة بلوتوقراطية في الداخل الأمريكي حكومة الأثرياء، هي صدى المجمّع الصناعي الحربي الأمريكي، وهي التي تمارس فن الأقناع بالأرهاب بالمعنى الرأسي وبالمعنى العرضي، ان لجهة الداخل الأمريكي، وان لجهة الخارج الأمريكي.
تركيا هي الجارة لأهم دولتين تجري فيهما وعليهما حروب تآمرية بامتياز(سورية والعراق)، بفعل أطراف غربية ثالثة بزعامة الأمريكي وتوجيه، عبر التشريك معها(أي تركيا)تقاطعاً وتساوقاً وتعاوناً مع الأدوات من البعض العربي(عرب روتانا)، بدعم مجاميع ارهابية محلية واستجلاب أخرى اقليمية ودولية، ظنّاً واعتقاداً من أنقرة ومؤسسات حكمها أنّ هناك تشارك في الأهداف، وثمة معطيات ومنعرجات تستدعي ذلك بفعل ما سمّي بالربيع العربي.
فمن موقع الفاعل لتركيا تأثير وفعل وتفاعل واضح ومفاعيل في جلّ مجريات الحدث السوري ومنذ بدئه، والآن تدخل بعمق في العراق بعد الأخفاق في الداخل السوري بفعل الوجود الروسي العسكري المساند للجيش العربي السوري، ومن موقع المفعول به تأثّرت بعمق وبتفاعل وما زال ذلك في تفاقم من حيث ارتداد الأرهاب المدخل الى الداخل السوري الى دواخلها، فصارت مغناطيساً جاذباً للأرهاب، أو هكذا يراد لها أمريكيّاً ليصار الى تفكيكها، فارتدادات الأزمة السورية صارت رأسيه وعرضيه ليس فقط في الجغرافيا التركية وخاصة على الحدود، بل وفي المؤسسات التركية وخاصةً العسكرية والأمنية منها.
فبعد حفلة اصلاحات سياسية وقانونية متعلقة بالحقوق السياسية والثقافية للكرد في تركيا، ومشاريع تنموية في مناطق الأغلبية الكردية في جنوب شرق تركيا قام بها الحزب الحاكم لحل المشكل الكردي، يخوض حزب التنمية والعدالة التركي الحاكم الآن حرباً عنيفة معPKK))تم توريطه بها عبر سيناريو أمريكي وغربي مدروس ومشتق من التورط التركي بالحدث السوري، وعقابيله على المدى الطويل وبالمعنى الأستراتيجي. ومن شأن ذلك أن ينسف ما قام به الحزب الحاكم من جهود وعلى مدار سنوات، بجانب أنّ داعش وارتدادات الأزمة السورية والمشكل الكردي عوامل مؤثرة في استقرار تركيا، ويجيء هذا بسياقات سوء العلاقات المرحلي الآني(ولا أقول الأستراتيجي)على طول خطوط العلاقات التركية الروسية، والذي زاد من نسبة الأحتقانات الشعبية الصامته في الداخل التركي حتّى اللحظة، وكذلك احتقانات رسمية داخل مؤسسة الجيش التركي ومجتمع المخابرات والأستخبارات التركي.
الرئيس التركي قال وبوضوح أنّه تم قتل أكثر من ثلاثة آلاف مسلح كردي حتّى الآن، حسناً سيدي وبالصميم، لكن حرب الدولة التركية مع( PKK)يا فخامة الرئيس انتقلت من الأطراف الحدودية الى الداخل التركي المحتقن أصلاً بفعل التورط بالحدث السوري، وهنا تكمن خطورة المجازفة التي تجري الآن، الحروب في السابق كانت تجري في الجبال الحدودية والمناطق المحيطة بالمدن والآن تجري في المناطق الآهلة بالسكّان على شكل حرب عصابات أو حرب شوارع، تماثل وتساوق ذلك مع تطورات نوعية في الميدان السوري حيث المشهدية العسكرية ولغة الميدان فعلت فعلها بالمشهدية السياسية مع الوجود العسكري الروسي الفاعل وخاصةً بعد اسقاط السوخوي الروسية وسيصرف ذلك على طاولة السياسة، كل هذا وذاك قاد الى ارهاصات ومخاضات غير مكتملة حتى اللحظة في انشاء كيان كردي في الشمال السوري، وهذا أدّى الى تعقيدات في الحسابات التركية الكرديّة.
التصعيد السياسي التركي يترافق مع التصعيد العسكري ضد المشكل الكردي عبرPKK))من خلال مطالبة الكرد بهيئة حكم ذاتي في مناطقهم ضمن الدولة التركية، هذا يجعل الرئيس التركي يحيلهم الى القضاء التركي بتهمة خرق الدستور الذي ينص على وحدة الآراضي التركية(المشكل الكردي هو اقليمي أكثر منه محلي، لكن بسبب المسألة السورية وجد المحلي مسار له مع الأقليمي فتشاركا في طغيان متبادل في التأثير)، ومع تزويد PKK بالسلاح الفاعل عبر الفصائل الكردية السورية المسلّحة ومصادره متعددة ومعروفة للجيش التركي والأستخبارات التركية، تزامن كل ذلك مع تراجعات لعصابة داعش في العراق وسورية بسبب التشاركية العسكرية الروسية السورية وفعلها، وبالتالي من شأن ذلك قد يقود الى تمدده في الداخل التركي، وما تفجيرات اسطنبول الأخيرة وديار بكر الاّ دليل صحة على ما نرمي اليه.
وما زالت تسعى توليفة الحكم السياسي في أنقرة، رغم التغيير الحاصل في المشهدية العسكرية في الداخل السوري والعراقي، للحصول على دور اللاعب على مستوى المنطقة والعالم، ضمن مشروعهم السياسي الخاص بهم حيث يدخل في هذا المشروع أجزاء من الشرق الأوسط وأفريقيا، حيث يمضي الزعماء الاتراك في خطتهم، ويؤكد المراقبون السياسيون أن الغرب يروج ويدعم هذا المشروع ويحاول أن يوجه تركيا بشكل أكبر وأعمق في تنفيذه، حسناً كيف نفهم ذلك؟ الدول الغربية فقدت القدرة على أن تكون لاعباً على الساحة السياسية العالمية، لذا تحاول أن تستغل دول أخرى لتصل إلى تحقيق أهدافها. أحد هؤلاء اللاعبين، تركيا وفي سياق رغبة الغرب في إحياء الامبراطورية العثمانية لجعل تركيا تنفذ مشاريعهم، ويدرك الغربيون جيداً أن تركيا ستستخدم كل الطرق الممكنة لتصل إلى غاياتها وتحقق مطامعها، لذا يقومون بتقديم الدعم وخلق حالة من الارتياب لهذه الدولة لكي يظهروا أن تركيا قادرة على الحصول على القوة وفرض الهيمنة.
لكن مسار الأحداث الآن، يظهر أن الغرب وضع لتركيا سيناريو لا يجب أن تتحول وفقه إلى قوة في المنطقة، وفي الوقت نفسه يجب إضعافها وجعلها تواجه أزمات على عدة محاور، حيث يتم تصعيد تحركات حزب PKKالمدعوم من الغرب كما أن تشديد تحركات الانفصاليين سيزيد من تفاقم الأزمات الداخلية التركية، ويتم دفع تركيا إلى مزيد من الاشتباك العسكري مع دول المنطقة لاستنزاف قدراتها و إنفاق مواردها المالية على الأمور العسكرية، لكي لا توظفها في التنمية والتطور، ويمكن مشاهدة هذا الامر بشكل واضح من خلال التحركات العسكرية التركية في العراق والتورط التركي وعلى مدار خمس سنوات في سورية وما زال، مع أنّ انقرة تدّعي بأن تحركاتها العسكرية تهدف إلى الدفاع عن مصالحها القومية، لكن في المحصلة الغرب يسعى لجر تركيا للدخول في هذه النزاعات لإنهاك قوتها العسكرية من جهة ولتزويدها بالأسلحة الغربية تحت مسمى زيادة القدرات العسكرية التركية.
نظراً لهذه الظروف يمكن القول أن الغرب أقحم تركيا في لعبة ظاهرها يحاكي المصالح التركية، وباطنها يهدف إلى تدميرها بالكامل، كما أن أنقرة فقدت جراء مسار الأحداث الكثير من مصالحها على الساحة الداخلية، وعلى مستوى المنطقة وفي المستقبل القريب ستخسر الكثير من مصالحها في العالم أجمع ان بقيت على ذات السياسة والنهج.
لم يعد هناك مجال واحد في الدول العربية الهامة لم تصل إليه "المصالح الأميركية": بدءا من المجتمع المدني "المسالم" المليء بالمنظمات غير الحكومية الممولة أميركيا، مروراً بأجهزة الاستخبارات والجيش التابعة لتلك الدول، ووصولاً إلى صفحات الفيسبوك للمواطنين العاديين، وفي خضم هذه الانتفاضات المشتعلة في المنطقة، يتحول كل شعب عربي لا يغلق بابه أمام مخاطر التدخل الأجنبي إلى جندي يقاتل إلى جانب أعدائه في حرب غير تقليدية تشن عليه.
الولايات المتحدة الأمريكية تواجه الآن عواقب آلاعيبها الماكرة ضمن ظروف يصعب السيطرة عليها، الاّ بتحالف شبيه بتحالف بوش الأبن وشن حرب جديدة على أبنائها من الدواعش يأجوج ومأجوج العصر والبرابره الجدد، فهي خلقت فيروس داعش ونسخته المتقدمة خوراسان الان، لأنشاء دولة كوردوستان(اسرائيل الجديدة) وتقسيم العراق وسورية والآن تركيا، عبر فخ اسقاط السوخوي الروسية وعبر المشكل الكردي، فمشروع تفكيك تركيا قد بدأ ما لم تراجع أنقرة جلّ مواقفها وسياساتها التدخلية بالأزمة السورية والعراقية، ومحاولاتها المستمرة بالتعاون مع أمريكا وعرب روتانا للأطاحة بالأسد وحكومته ونظامه وبالنسق السياسي السوري كلّه، كانت السبب بغض الطرف عن الأسلاميين ونشوء الدولة الأسلامية في العراق والشام.
*عضو المكتب السياسي للحركة الشعبية الأردنية
mohd_ahamd2003@yahoo.com