بقلم: سمير فضل
من شرفة منفاه الاضطراري يشرئب عنق زين العابدين بن علي إلى سقف الوطن الغالي الذي خرج منه ذات ليلة خائفا يترقب، و يطمع أن يخطئ الزمن التونسي يوما و يردد مع زمن التيه الليبي تراتيل الندم صادحا بملء فيه : سامحنا غلطنا في حقك.
و لكن هيهات أن يمسح أحفاد حنبعل أحذية جلاديهم مرة أخرى، فالبرق أفل و هزيم الرعد مات، و ما عاد بالإمكان العودة إلى القمقم.
ينظر إلى المنصف المرزوقي و كيف حول الكرسي إلى مجرد ألواح و دسر يتركها مقعدا لصحفي يأتي يحاوره داخل قصر قرطاج ثم يترك له القصر و يغادر " شلة الأنس " من أدباء و مفكرين و صحفيين و علماء و مواطنين تونسيين بسطاء، فيدرك كم كان مخدوعا من طرف الخشب و المرمر قبل نخب البخور و العنبر
و تنظر سيدة قرطاج السابقة، القادمة من عالم التراباندو و الشنط المهربة، و التي اشتغلت حلاقة ذات وقت، إلى التحفة البشرية زوجة المرزوقي الدكتورة " بياتريس راين " و هي تفر من لقب السيدة الأولى كما يفر الجسم السليم من الجذام، فتكتشف كم كانت تافهة و هي تحاول أن تجعل من " الخضراء " امبراطورية لعائلة حتى اسمها لا نشم فيه أي أريج تونسي، فهي تتخذ من طرابلس مرجعا لغويا لها.
ينظر الجنرال و صاحبة الصالون إلى تصرفات النهضة مع فلول نظامهما فيعضان أصابع الندم و يدركان بعد 19 عاما، مقسمة بين السلطة و المنفى، بأنه كان بالإمكان أن يتقاسما تونس مع كل أبنائها المعارضين بكل حب و ألفة دون جلبة أو ضوضاء و دون أن يصل الغسيل التونسي إلى قاع التوسل الذي لا ينفع معه إلا الهدي النبوي الشريف : ارحموا عزيز قوم ذل.
جاء المرزوقي رئيسا، يكره ربطة العنق، و عاد إلى صفوف المعارضة مكافحا مع الجماهير دون عقدة تذكر، تاركا الشيخ الخرفان يلعق بمفرده أوحال المرحلة، بعد أن دفعه ذكاء إخوان تونس إلى المحرقة السياسية دون إراقة قطرة دم واحدة.
اليوم يقف المواطن الحالي لأول مرة، و قد كان رئيسا سابقا، ليرى تونس بعين البلد لا بمنظار المزرعة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث، فيتعلم بعد فوات الأوان أن التوازنات المريرة أفضل مليون مرة من الضربة القاضية، و لهذا خرج هو نهائيا من الدفاتر المحاسبية لمنشأة تجارية بحجم وطن، في حين عاد الرفاق من باب الخدم إلى سدة الحكم في صورة مرتجعات لم تكلف الدفاتر أكثر من قلب القيد المزدوج، و بنفس الطريقة سيعود المرزوقي و أذكياء النهضة، لأن الشعب الذي ذاق ويلات الربيع الموهوم لم يعد يبحث عن نجاح فوري بنسبة 100 % بل عمن يحقق له " على الأقل " 5 في المائة يغادر بها قاع النسب التي حققها نظام الفلول، الذي يظل لعنة تطارده و تصنع منه حائط مبكى يعلق يرسم على وجهه كل الفاشلين خيباتهم و لو بأثر رجعي.
صمت صوت الحماقة فشرع التونسي في عملية الإحصاء، و على دفاتر الزمن سيسجل البلدات التي تبخرت و القرى المسكونة برائحة الموت و الغياب، و بين ركام المنازل سيروي سيرة أنهار كاملة من الدماء و الجثث،
إذا كانت سوريا التي يعرفها القارئ العربي و يحبها قد انتهت، فإن تونس التي عهدناها لم تمت، لأن فهمت أن السياسة هي تطمينات و فن يحسن توزيع الطعنات و الضمادات و الضمانات على جميع اللاعبين، و في الأخير لا ربح و لا خاسر إلا الوطن.
لو فهم " زين القد " هذه المعادلة لبقي مزيدا من الوقت يمتع حوضه بدفء العاج و الميناء و لكنه جهل و كم في الجهل من ضرر.
من شرفات المنفى!!
2016-03-12