بقلم: سمير الفزاع
أين نحن، أمام تسوية ما أم على أبواب صراع مفتوح؟. بين التشاؤم والتفاؤل إزاء قضية ما، من يحكم بمصداقية وأرجحية احدهما على الآخر؟. من حيث المبدأ لا مطلق إلا المطلق، وما تبقى قابل للأخذ والرد. كل مشهد أو واقعة تحمل أوجه متعددة، لنفترض أن هذا المشهد أو الواقعة هي المطلق، فكل رأي أو قراءة تمثل رأينا وقراءتنا الخاصة لهذا المطلق، وهي نسبية حتماً. في النهاية هي تفسيري وحقيقتي التي سوف تختلف وربما تتعارض مع تفسير وحقيقة آخر أو آخرين. من هذه المسلمة تحديداً، ظهرت جهود فكرية وسياسية وثقافية... كبرى، نقدت الفكر الديني لا الدين، ومنتج ثقافي مشخص لا الثقافة بأسرها، وبنية اقتصادية محددة لا فكرة البناء الاقتصادي... لتكون هذه المسلمة، احد أهم روافع التقدم الحضاري الإنساني وليس أي فكر آخر، سواء العدمي الرافض أو المتعصب الجامد أو السابح في اللامبالاة السلبي. وللتدليل على هذه الفكرة، لنتخيل لحظة تعرف الإنسان على المحراث، سنجد الجمع البشري الذي اهتدى لهذا الاختراع منقسماً إلى ثلاث فئات كبرى: الأولى، مَن أنجزت هذا الكشف، ورأت فيه فتحاً كبيراً، سيقلب حياتها رأساً على عقب، حيث الاستقرار بدل الترحال، والوفرة بدل العوز، والصحة بدل المجاعة والمخاطرة بصيد الحيوانات، والتجارة بدل الغزو... فتظهر قوى وثقافة وعلاقات... جديدة أكثر حداثة؛ شعر يمجد المحراث، ونصوص تقدس عطاءه ومحاصيله الوفيرة ومن يتقن التعامل معه، ومراكز ثقل اجتماعي-اقتصادي مختلفة... والثانية، ترى في المحراث خروجاً على تقاليد الآباء والأجداد في زراعة الأرض، وتمرداً على طقوس الزراعة وما يرافقها من نصوص وأفعال "مقدسة"، وتطاول على مراكز الثقل التقليدية الاجتماعية والدينية والاقتصادية... فيظهر الرفض على شكل نصوص تحرم استخدام المحراث، وعقوبات اجتماعية أو دينية أو اقتصادية على المتعاملين معه... وقد يصل الأمر بـ"المحافظين" إلى النزاع المسلح، أو تهجير "قوم" المحراث. والثالثة، اختارت أن تقف على الحياد، ومارست النأي بالنفس عن هذا الصراع الإنساني-الحضاري بموقف "انتهازي" سلبي... والتاريخ والواقع، يخبراننا أن الغلبة كانت لتلك القوى التقدمية، التي أنتجت المحراث وعملت به... بينما انقرض "المحافظون" ونجا منهم من لحق بأهل المحراث، والأمر ذاته ينطبق على السلبيين.
في الحالة السورية، كان المحراث: قيادتها المستقلة والداعمة لحركات المقاومة، تلك الحركات التي أنجزت وسورية- ولاحقاً إيران- كسراً للبنية الإستراتيجية التي أرستها واشنطن في المنطقة عندما "خطفت" مصر عبر كامب ديفيد: لا حرب دون مصر، ولا سلام دون سورية. غزو لبنان وإحتلال بيروت، وهجمة الإخوان المسلمين على سورية، مثلت الترجمة العملية الأولى لهذه البنية، لا حرب بعد خروج مصر من الميدان. يجب اجبار سورية على "الإنضمام" لمسيرة كامب ديفيد "السلميّة"، بالضغط على خاصرتها الرخوة في لبنان، وتفجير بنيتها الاجتماعية بواسطة الإخوان المجرمين. تمكنت سورية من نسج معادلة "المحراث": تسخين الصراع مع العدو الصهيوني للحفاظ على جذوة الصراع مشتعلة، بحالات من الاشتباك المباشر مع واشنطن والكيان الصهيوني لا ترقى للحرب الكاملة من جهة، ودعم مستمر ومتصاعد لحركات المقاومة الشعبية المتجذرة والمنتمية... من جهة ثانية... لتنهار هذه البنية الصهيو-امريكية في العام 2000، بإنسحاب صهيوني من جنوب لبنان دون أي تفاهم سياسي يلحق لبنان "بخيمة" كامب ديفيد، المحراث ينتصر. في العام 2005، الكيان الصهيوني يهرب من غزة بإنهيار جديد وخطير "للبنية"، وخطورته تنبع من أنّه جاء على ارض فلسطين هذه المرة، ودون الغرق بمستنقعات "خيمة" كامب ديفيد المتنقلة... وللمرة الثانية، يُثبت "المحراث" نجاعته في "فلاحة" هذه الأرض، وطرح ثمار سليمة ناضجة رائعة المذاق. تموز-2006، نزال جديد بين قوى الرجعية العربية، ومبعث وجودها واستمرارها، الثكنة الصهيونية الاستعمارية المتقدمة، بقيادة امبراطورية القراصنة وأحفاد قاطني السجون الاوروبية... كانت النتيجة صاعقة تماماً، المحراث ينتصر مجدداً، وشعبيته في إزدياد، وثقافته تغزو قلاع الرجعية وتشل ّعقول وإرادة الصهاينة... صبر أهل المحراث في لبنان فأنتصروا، وكادت سورية تدخل الحرب، كيف لا وهي من صاغ معادلة المحراث، ورسم صورته الاولى... وفي العراق، تغرق واشنطن حتى أذنيها في رمال متحركة، ودوائر من نار، تفنن حلف "المحراث" بنسجها... لتخرج مثخنة بهزائمها.
تقرر العمل على ثلاث جبهات بشكل متواز:
1- تشويه صورة المقاومة –المحراث- وشيطنتها، كأن توسم المقاومة بصبغة طائفية محددة، وتجهيل من سواها في حلف المقاومة، كالمقاومة الفلسطينية والعراقية... .
2- تحويل وجهة الصراع، من صراع جامع-تحرري مع العدو الصهيوني الذي يحتل الأرض، إلى صراع تفتيتي-رجعي مع حلف المقاومة ذي الصبغة الطائفية المختلقة.
3- محاولة ضرب وتفتيت حلف المقاومة –المحراث- باتباع اسلوب العصا والجزرة... كإغراء قادة في حماس لمغادرة دمشق، والسكن في الدوحة على بعد أمتار من القاعدة الامريكية... ومحاولة اغراء القيادة السورية بحكم لبنان مقابل التحاقها بـ"خيمة" كامب ديفيد... ومؤخراً، غزو سورية باستخدام الأدوات الإرهابية لتحقيق ذات الاهداف... .
بعد فشل واشنطن في مهاجمتها صيف العام 2013، أيقنت ادارة "اوباما" أن لا خيار أمامها الا بقيادة الصراع وإدارته من الخلف... وأرخت العنان لأدواتها الاقليمية، وتحديداً تركيا والسعودية والكيان الصهيوني... حيث قررت التعامل مع الحرب على سورية كما فعلت في الحربين العالميتين، الأولى والثانية، عندما أجلت تدخلها -عامان بعد اندلاع الحرب العالمية الاولى وثلاثة أعوام في الثانية- حتى تنهك الاطراف المتقاتلة، وتستنزف قدراتها –اعداء وأصدقاء- فتسيطر على كامل "الكعكة"... وإذا ما اضطرت لتقاسمها مع آخرين، سيكون ذلك كما تريد، وحسب النسب التي تلبي مصالحها... .
بلغت هذه الاستراتيجية ذروة النجاح، بإحتلال تركيا لمحافظة ادلب، ونجاح الكيان الصهيوني بإقامة "الجدار الطيب" على طول الحدود مع سورية تقريباً، وسيطرة داعش على تدمر... بعد حرب مستمرة منذ أربعة سنوات مع ادوات الغزو الارهابية، بدا وكأن سورية ستكون مضطرة "قريباً" لخوض حرب مفتوحة على عدة جبهات مع دول وكيانات اقليمية، تركيا والكيان الصهيوني على الأقل. نفذ الجيش العربي السوري والقوى الحليفة، أوسع عملية اعادة انتشار منذ بداية الحرب، إستعداداً لهذا المشهد الخطير. أصاب الذعر بعض الحلفاء والأصدقاء في الاقليم والعالم قبل الأعداء، من حرب ستأتي على الأخضر واليابس، فكان التدخل الروسي المخرج لتحقيق المعادلة الأقل ضررا على الإقليم والعالم: إستخدام قوة الردع قبل الذهاب إلى خيار الردع باستخدام القوة.
ختاماً، هذه بعض الخلاصات، حول مستقبل هذا الصراع.
1- الصراع بين المقاومة –المحراث- بما هي فعل تقدمي تحرري حضاري من جهة، والرجعية، من حيث هي تبعية وعمالة وتخلف... من جهة ثانية، مستمر؛ بل وسيأخذ منحى تصاعدياً متفجراً... حيث بلغ الصراع عمق الأشياء وقعرها: المفاهيم، الجغرافيا، الهوية، التاريخ... بين دعاة الوحدة وزراع التجزئة، مَن يعمل على تحرير فلسطين ومن يحاول جعل الكيان الصهيوني مكون طبيعي في نسيج المنطقة وهويتها... .
2- سيبلغ الإستقطاب الشعبي مداه في قادم الأيام، وعلى النخب –ثقافية،دينية،إعلامية،سياسية،اقتصادية...- قبل غيرها، أخذ موقعها وإتخاذ الموقف التاريخي من هذا الصراع الإنساني-الحضاري الحاسم... بإعمال الفكر النقدي الذي يظهر طبيعة هذا الصراع وبواعثه وآفاقه المستقبلية... .
3- تدرك الرجعية العربية والثكنة الاستعمارية الصهيو-غربية المتقدمة في فلسطين، أن النتيجة الحتمية لإنتصار سورية وحلفائها، زوالها من خريطة المنطقة وتاريخها وهويتها... لذلك، هم يستميتون للإنتصار في هذه الحرب، أو تأجيل نتائجها قدر المستطاع بإنتظار متغير ما، كالرهان على ظهور تيار "ساداتي" في إيران تحت عباءة الاتفاق النووي.
4- على نحو متسارع تتلاشى فرص إنجاز "تسوية" لهذا الصراع التاريخي؛ بل وأصبحنا في نقطة يتحين فيها طرفا الصراع لحظة حسمه "بشكل ما"... وما قول السيد الرئيس بشار حافظ الاسد، في 15/02/2016، أمام مجلس نقابة المحامين: (الحقيقة عندما نناقش إذا كانت "تركيا" أو "السعودية" ستهاجم، فهذا يعني أننا نعطيهما حجماً كبيراً، وكأنهما دولتان تمتلكان قراراً وتمتلكان إرادة وتستطيعان أن تغيّرا الخريطة. هما مجرد تابعَين منفّذين. علينا أن ننظر للسيد، لسيّد هؤلاء، إذا كانت هناك رغبة في الدخول في مثل هذه الحرب بين القوى الكبرى أم لا، وليس بين قوى هامشية لم يكن لها دور سوى تنفيذ أجندة الأسياد). وما قاله سماحة السيد حسن نصر الله في ذكرى القادة الشهداء، 14/2/2016: (أتريدون أن أقولها أنا من الآخر؟ إذا جاؤوا "منيح" وإذا لم يأتوا "منيح"، لا يوجد مشكلة... في حال لم يأتوا، إن شاء الله "تخلص قصة سورية" ولكن بحاجة إلى الوقت، وفي حال أتوا، إن شاء الله "تخلص قصة المنطقة كلها" ولكن بحاجة إلى الوقت).
5- لم استطع الا أن أرى في المرافعة المطولة التي قدمها اوباما مؤخراً، وقرار موسكو بسحب جزء من قواتها في سورية، وخصوصاً العاملة خارج قاعدتي حميميم وطرطوس، الا محاولة "لخفض" حدة الصراع في المنطقة، وجهد مشترك لـ"ضبط" إيقاع الانزياحات الكبرى في موازين القوى، ومسعى لتبريد مسار مواجهة لا بد قادمة... قد يستطيعون "تبريد" أزمة دولية كبرى على شاكلة أزمة الصواريخ الكوبية بتسوية ما، إنما يزوغ مرحلة تاريخية جديدة كعصر اكتشاف المحراث وإستخدامه من المستحيل منع وقوعها.
وقت مستقطع أم مفترق طرق؟
2016-03-15