2025-06-03 05:15 ص

مصر وسقوط النظام

2016-04-21
بقلم: إيهاب شوقي
ليست قضية الجزر المصرية المراد اهداؤها طوعا او كرها للسعودية بالحدث العابر الذي يمكن ان يمر وتكون تداعياته هامشية، بل هو حدث مفصلي في التاريخ المصري لانه سيشكل نهاية نمط من الانظمة لا مجرد نظام للحكم. ويمكننا القول ونحن مطمئنين بحثيا وعلميا ان هذه الحادثة سيتم التأريخ لها بأنها سقوط للنظام بل ولهذا النمط من الانظمة. نرجو من القارئ ان يتمهل قبل ان يظن ان هذا الحكم من قبيل النبوءة او الغضب –برغم توفر الغضب الوطني الناتج من الحسرة على ما آلت اليه الامور- بل ناتج من الرصد والبحث والمتابعة والمعايشة، والانخراط لسنوات في اوساط السياسة والثورة والالتصاق بطبقات مجتمعية متنوعة على رأسها طبقات شعبية لا علاقة لها من قريب او بعيد بمواقع التواصل الاجتماعي. لم يستوعب اي حاكم مصري خطورة الشعب المصري وثقله في معادلات التوازن السياسي، هذا الشعب الذي تم ترهيبه مرارا و ترغيبه مرارا، وربما تم تفتيته عمدا لجزر منعزلة على ارضيات طبقية وثقافية مختلفة الا ان وحدة الوجدان بقيت مرجعية جامعة في لحظات الخطر وهذا الوجدان الذي يطلق ككلمة عامة مبهمة يمكن بقليل من التفصيل تشريح مكوناته عبر محطات مختلفة تشكل هذه الوحدة الوجدانية. والوجدان الذي هو لغة يعني النفس وقواها الباطنية وفي التفصيل يشمل ما تشعر به النفس من لذة او الم او ميول وخلافه، يمكن تجسيدها في التوق الى الاستقلال الوطني والفخر بالتحدي والنفور من التبعية والمذلة والاحتلال والميل للعدل والايثار وعدم التفريط والتسامح في الحقوق ولا سيما المتعلقة بالارض. يمكن تفسير الشعبية الطاغية للزعيم جمال عبد الناصر وجنازته المهيبة وبقائه مثلا حاضرا امام غالبية الشعب المصري باختلاف طوائفه وربما توجهاته السياسية بهذه القاعدة الوجدانية حيث عبر ناصر عن الوجدان المصري والعربي بشكل عام، وبالمناسبة فإن الوجدان المصري والعربي ممتزجان وهو ليس تنظيرا للقومية العربية لان ذلك ليس موضوع هذا المقال . والجيش الوطني المصري متغلغل في هذا الوجدان من هذا المنطلق ويصل لاعلى قدسياته في الوجدان عند امتزاجه بالطابع الناصري حيث الانحياز للحق وللمقاومة والاستقلال والتحرر وتمثيله لكل طوائف الشعب وانخراطه معهم في همومهم ومشاركتهم افراحهم والامهم وجوهر القدسية يكمن في التضحية في سبيل الوطن والارض. ولا شك وان الحاكم في الوجدان المصري له اعتبار خاص، مهما كانت توجهاته او ممارساته فله مهابة خاصة وتقدير خاص، والقارئ المصري والعربي لا بد وقد اطلع او عايش بنفسه مشكلات وربما مشادات على خلفية اي سباب او اهانة لحاكم مصري من اي شقيق عربي، حتى لو كان الشقيق يسب من منطلق قومي لا عدواني على مصر وحتى لو كان المصري معارضا لهذا الحاكم، فهذه خصوصية مصرية واضحة حتى وان كان لها نظائر في بلدان اخرى. الا ان الوجدان الشعبي لا يتسامح مطلقا مع الظلم الاجتماعي حتى وان صمت، ولا يتسامح مع اهانة الكرامة حتى وان بدا خانعا، ولا يتسامح مع قضايا الارض حتى وان بدا منزويا في ركن بعيد. وليتأمل المتأملون في موقف الشعب المصري من الرئيس السادات والذي خالف الثوابت المصرية وصدمها بزيارته للكيان الصهيوني، وكيف ابتلعها الكثيرون وتسامحوا معها لسبب وحيد...الا وهو استرداد الارض. بصرف النظر عن استردادها ومبدئية الزيارة والتفاوض المنفرد والسيادة المنقوصة، الا اننا نتحدث عما تم تصديره للشعب المصري، وكيف مرر للسادات ذلك ويمرره كثير من المخدوعين حتى هذه اللحظة في حنكته ودهائه، بانه نجح في النهاية في استرداد الارض! وليتأمل المتأملون ايضا كيف وان جانبا كبيرا من قبول المصريين للرئيس مبارك كان على خلفية اشتراكه في تحرير الارض محاربا، وايضا استرداده لطابا والتي ظلت من المآثر التي يرفعها مؤيدوه للحظة الاخيرة قبل الاطاحة به وحتى الان يرفعها البعض من المتباكين عليه او المتندرين بما آلت اليه الامور بعد انتفاضتين شعبيتين! وليتأمل المتأملون في ان اهم اسباب الاطاحة بالرئيس محمد مرسي كانت انتمائه لتنظيم عابر لحدود الوطن ولا يعير لهذه الحدود اعتبارا بل يعتبرها حفنة من التراب العفن وان التعجيل بالاطاحة به جاء بعد تواتر التقارير حول نيته بيع اراض مصرية! وليتأمل من يريد ان يتأمل ان شعبية الرئيس السيسي جاءت من خلفيته العسكرية التي تحفظ وتصون الارض وان قوته المنطلقة من الجيش تكفل له خوض معركة الاستقلال الوطني ومعركة الفساد واعادة الاعتبار لقيم المجتمع القائمة على العدل وقطع رؤوس الفساد واعادة الحلم الناصري بقدر الامكان، وهو سر اقتران صور الزعيم بصوره في فترة التفويض والتي كانت تعكس امالا اكثر منها عكسا لضمانات. مانود قوله ان النظام الحالي في مصر بعد عامين ظل يفرط تدريجيا في هذه الشعبية، ويبدو انه استمرأ رفع راية الدولة، دون وعي بأن الدولة لن تستقر وتكتسب صلابتها في مواجهة الهدم الا بممارسة دورها، لان الدولة دور بالاساس لا مجرد سلطة، وسلطتها تأتي من الاقتناع الجمعي بضرورتها، وهذه الضرورة تنبع من الدور، دون ذلك تصبح تسلطا يشبه سلطة الاحتلال، بما يغري معه قطاعات للمقاومة والتمرد، او الاحتيال لضعاف الحيلة، وشرعية الدولة بلا شك تنبع من دورها الخدمي والتنظيمي للمجتمع وهو ما يعطيها قدسيتها. وهنا تنبغي الاشارة الى خلط نراه مريبا يتمثل فيما يلي: *يتجاهل الرافعون لشعار الدولة دائما ان الدولة في جميع تعريفاتها تضم المواطنين، حيث العناصر الأساسية لأي دولة هي الحكومة والشعب والإقليم، بالإضافة إلى السيادة و الاعتراف بهذه الدولة، بما يكسبها الشخصية القانونية الدولية. فلماذا يتم تصدير مفهوم الدولة على انه هو المؤسسات فقط دائما وتسييد هذا المفهوم؟!! بلاشك وانه تسييد مريب! *نعلم اجميعا ن النظام السياسي هو جزء من الدولة وقد تكون له القيادة فترة توليه السلطة للتوجهات والتنظيم، الا انه تابع لسلطة الدولة، و هناك ايضا خلط متعمد بين النظام والدولة وكأن المساس بالنظام هو مساس بالدولة، على الرغم من ان ممارسات النظام الخاطئة واحتكاره سلطات الدولة قد يكون هو القائد لهدم هذه الدولة. ومانقصده بنمط الانظمة التي ستسقط هو نظام التعددية النظرية الديكورية، والتي تحتوي على احزاب نظرية تمارس ما يمكن ان نطلق على المؤيدين منهم "احزاب الممثل المساعد للنظام" على غرار دور "السنيد" في المسرح والتي تقوم على الانتفاع ولا مبرر لوجودها سوى ذلك حيث لا تبرر اختلافها عن النظام في شئ ولا تبدي حتى طموحا في الوصول للسلطة وغاية عملها هو حث الجماهير على القبول بالنظام ومحاربة المعارضة والتضييق عليها انتخابيا ودعائيا. وجانب اخر من هذا النظام الحزبي نجد به ما يمكن تسميته "احزاب المعارضة الآمنة" اي المعارضة المحدودة بسقف الصدام مع النظام حيث تمارس معارضتها بالتنسيق مع اجهزة النظام بحيث لا تتعدى خطوط حمراء يمكنها المساس بشرعية النظام واحراجه، وهو ما يكتشف بسهولة بالغة في محطات معينة للفرز مثل محطة التفريط في السيادة الاخيرة ووقوف احزاب من المفترض ان ايدلوجياتها تحتم عليها المعارضة الشرسة فنجدها مستأنسة وردود افعالها مبهمة وتتميز بالرقة والوداعة. انظمة التعددية الشكلية الفارغة من وجود حزب متحدث باسم الجماهير ومعبر حقيقي عن مصالحها غير قابلة للبقاء في مجتمعات تمس مصالحها بشكل غير مسبوق وعلى جميع الاصعدة، والشعور العام بفقدان المصداقية لدى النظام والمعارضة هو اخطر ما تمر به الاوطان لانه قائد طبيعي للفوضى حيث لا ملجأ ولا مرجعية ولا وسيط للتفاوض. كما ان وصف المعارضة الدائم بالخيانة –وان كان هناك بالفعل معارضة خائنة- هو غلق لباب الامل في التغيير عبر التداول كما انه فتح لباب وحيد هو الثورة والتغيير بالقوة عند الوصول لنقطة يستحيل معها التعايش واحتمال المعاناة والتي لا تكون اقتصادية بحتة، حيث تدخل العوامل المتعلقة بالوجدان الجمعي في جوهر هذا الانهيار المعنوي القائد الى حتمية التغيير. هذا النمط من الانظمة المليئة بالخلط بين الدولة والنظام والمسيدة لمفاهيم مبتسرة عن الدولة وشكليات عن التعددية غير قابلة للبقاء ولا سيما بعد تجارب مريرة سلمت الواحدة منها الزمام للاخرى على امل ان مجرد تغيير الاسماء والصفات للحاكم هو ضمانة للاستمرارية، واكتشاف الجماهير ان مكمن العلة في المنظومة لا في الاسماء والصفات. كما ان هذه الانظمة كشفت المتسترين بالشعارات وبالالقاب عند محطات فرز مختلفة وقامت الاحداث بتعريتهم امام الجماهير لتفقد هذه الانظمة ادواتها في مزيد من الاستحمار للشعوب. اما عن النظام الحالي بمصر فقد سقطت سلطته المعنوية القائمة على استقلال القرار الوطني بالتبعية المفرطة للسعودية والتي تتحكم في توجهات النظام وتغل يده عن ممارسة دور مصر الطبيعي في القيادة وتجبره على ممارسات متناقضة مع تاريخه وامال الامة العربية فيه، حيث ان لمصر شخصية معنوية تتطلع اليها الامة العربية بل وحركات التحرر العالمية، قائمة على مواجهة الرجعية والانحياز للمقاومة، فنجد ممارسات مصر معادية للمقاومة وعلى خلفية طائفية غريبة على مصر بل ووصلت الامور للتحكم في بعض السياسات الداخلية وخاصة الامنية مع الرافضين لهذه الهيمنة السعودية. واختتم وكلل هذا السقوط المعنوي بهذا التفريط في قطعة غالية على الوجدان وقطعة خطيرة على الامن القومي مع ما صاحب هذا التفريط من خداع وتدليس. لا شك ان هذا النظام قام باستعداء الفقراء والمفارقة انه استعدى ايضا الاقطاع. لا شك ان هذا النظام استعدى الوطنيين، والمفارقة انه استعدى ايضا العملاء. لا شك ان فزاعة الفوضى والارهاب لن تثني الغاضب عن غضبه لان كثيرون بل وكثيرون جدا ليس لديهم ما يخسرونه، كما ان وجدانهم لا زال متعلق بجيش وطني يشكل ضمانة لالا تنزلق الامور لذلك. ولكن وان انزلقت فقد اثبت المصريون انهم كفيلين بتجاوز اصعب اختبارات الخطر وباجبار من انحرف على الاستقامة.