بقلم: سامي كليب
كعادة دبي في مناسباتها الكبيرة، فإنها توفر لزوارها كل أسباب الرفاهية، فيكاد ينسى الزائر العربي الحرائق التي تقضي على الأخضر واليابس وتقتل البشر والنفوس وتدمر الحضارات والتاريخ. ما عادت عاصمة عربية تضاهي هذه الإمارة الصغيرة حداثة وأناقة وتنظيماً وأمناً. الزائر مراقَب بالكاميرات منذ تسجيل بصمة عينيه عند المطار. لعلها لذلك تجنبت ما أصاب غيرها من هزات أمنية باستثناء اغتيال الموساد الإسرائيلي محمود المبحوح القيادي العسكري الفلسطيني في أحد فنادق دبي.
مناسبة هذا الكلام هي افتتاح منتدى الإعلام العربي في دبي أمس مؤتمراً رفع شعار «الإعلام: أبعاد انسانية». منذ أن يستقل الزائر السيارة الفخمة من المطار باتجاه الفندق الأفخم، يشعر بالتسلل المنعش للرفاهية. تكنولوجيا وشاشات في السيارة. تهذيب لافت في الاستقبال وعند الجمارك. ابتسامات في قاعة كبار الزوار. طرقات وجسور انيقة. بنايات وأبراج شاهقة تعكس الشمس نظافة وبريق زجاجها. زهور متعددة الألوان عند حفافي الطرقات تتحمل الحراراة المرتفعة. فكيف لا تبادر الإمارات لإنشاء وزارة للسعادة تتولاها حالياً السيدة الناشطة محلياً وعالمياً (عضو في منتدى دافوس) عهود الرومي؟ ووزارة أخرى للتسامح. المرأة لها حضور لافت في الإمارات. لعل السيدة النشيطة جداً منى غانم المري رئيسة نادي دبي للصحافة تعبر عن جزء لا بأس به من هذا الحضور المفيد.
لنعد إلى موضوعنا الإعلامي الإنساني:
يطرح منتدى الإعلام العربي قضية إعادة الإنسانية إلى الصحافة. يبدأ النقاش في المسرح الكبير المحاط بحدائق اصطناعية وبحيرة وأجنحة للتأمل والماساج وأخرى لشركات التكنولوجيا العالمية وثالثة لكبريات الفضائيات الخليجية. ما إن تبدأ المقابلات الأولى حتى يرن هاتف جاري في القاعة. هو صحافي فلسطيني يعمل مراسلاً لـ «القدس العربي» من رام الله. يخبرني أن عملية طعن جديدة حصلت في القدس اليوم. اسأله عن عدد وأسباب عمليات الطعن، فيقول إنها ازدادت كثيراً منذ شهر تشرين الثاني 2015، وأن سببها الوحيد هو يأس الناس، ذلك أن بيوتهم صارت مزنرة بالمستوطنات ورزقهم مقطوعاً ورواتب موظفيهم خاضعة لرغبات إسرائيل وأكثر من 100 ألف من شبابهم يعملون في المستوطنات التي تقضم أراضي أهلهم وأرزاقهم.
ما هو الإنساني، إذاً، في إعلامنا العربي؟ الشرخ يزداد عمقاً. الهموم اختلفت. المذهبية آفة العصر. الإرهاب يعيدنا قروناً إلى مجاهل التخلف. ليس الإعلام إلا جزءاً من هذه الصورة. فكثيره صار مطية للمشاريع المتناحرة، وقليله يكافح عكس التيار، فتكاد التيارات أن تجرفه.
وسائل الإعلام الكبيرة من تلفزات وصحف ومراكز الدراسات صارت في الخليج بعد أن انعدم التمويل العراقي والليبي. من الطبيعي أن تتغير إذاً طبيعة واهتمامات الإنتاج الإعلامي التقليدي. يقابل ذلك إنتاج اتحاد الإذاعات والتلفزات الإسلامية الممول معظمه من إيران والذي تأسس في حزيران 2007. يضم الاتحاد نحو 220 عضواً من حوالي 40 بلداً، وأسس نحو 140 تلفزيوناً وإذاعة وأكثر من 40 موقعاً الكترونياً. يتصارع الإعلاميون على الحلبات المتنافرة.
في لبنان الإعلام يحتضر إلا من دار في واحد من الفلكين الآنفي الذكر. وفي مصر صار رجال الأعمال هم أسياد الفضائيات التي أسس بعضها لنموذج غريب بحيث أن الإعلامي يحتكر الشاشة لوحده ولفترة طويلة ويلقي دروساً.
هل تفترض الإنسانية المنشودة حالياً في مؤتمر دبي إعادة الأخلاق إلى المهنة وتحويل الإعلام إلى قضايا الناس؟ ممتاز، ولكن هل القضايا تتشابه اليوم؟ هل السوري المحروقة أرضه، والعراقي المقيم على برميل متفجرات، والليبي الممزقة بلاده، واليمني المدمر أقدم بنيانه، هل هموم هؤلاء تشبه فعلاً هموم دول عربية أخرى؟
الأكيد لا، فالوطن العربي يعيش أصعب وأخطر مخاضاته. من رفع شعار الخلافة الإسلامية لن يوفر أحداً. إسرائيل الباحثة عن غطاء عربي لقتل ما بقي من فلسطين وتدمير دول وشعوب بذريعة تشكيل جبهة ضد إيران، لا تريد الخير لأي دولة عربية. سر استمرارها يكمن في ضعف وتفتيت وتقسيم ما حولها. العالم في شرقه وغربه بحالة ضياع ويكتفي بالبحث حالياً عن استمرار بيع السلاح وعن أسواق اقتصادية. النفط في دولنا ما عاد جاذباً لأميركا التي تتجه ليس فقط للاكتفاء الذاتي وإنما أيضا لزعامة النفط.
ما هو الحل؟
طرحت الأميرة هيا بنت الحسين عقيلة حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد مجموعة من النقاط الجديرة بالاهتمام. صعدت إلى المنبر بلا غطاء رأس. كان الغطاء الحريري الأبيض ملقى بأناقة على كتفيها. هنا أيضا يبدو حضور المرأة في دبي لافتاً مقارنة بالجوار، وكأن في الشكل أيضاً رفضاً للظلامية. هي طالبت الإعلام بالتفريق بين فئة ضالة ظلامية ليس لها علاقة بالدين والإنسان، وبين قطر متسامح لا ينظر إلى دين وعرق. قالت إن من حق الإعلامي العيش بكرامة والحصول على حقوقه المادية والمعنوية كافة. طالبت برفع كل القيود عن السلطة الرابعة شرط احترام القوانين. ودعت إلى ميثاق شرف إعلامي جديد. وفي السياسة، ذكرت الأميرة هيا القادمة من عالم الفروسية وابنة الملك الأردني الراحل حسين، بمسارعة الإمارات لنجدة مستشفى غزة حين جارت عليه إسرائيل. وشعرت بأهمية وقوف الخليج إلى جانب مصر...
كان الشيخ محمد بن راشد في مقدمة الصفوف يبتسم لعقيلته وينوه بهز الرأس. جاء إلى المؤتمر من دون حراسة كما يفعل حين يزور المجمعات الاقتصادية وغيرها. كان العشرات من كبار الإعلاميبن العرب حاضرين في القاعة الكبيرة والأنيقة والمجهزة بكل معدات رفاهية الصورة والصوت.
لا شك أن دبي تسجل بهذا خطوة مهمة في هذا النموذج اللافت لدولة ليس فيها نفط وإنما فيها إدارة عرفت كيف تهتم بالسعادة ورفاهية شعبها ولم تطلق الكثير من الشعارات الفارغة.
ربما الأميرة هيا محقة بقولها إن الاهتمام بالحرائق العربية لا يعفينا من الاهتمام بالقضايا الإنسانية في إعلامنا.
حين يكون المرء في دبي، ينسى أصلاً أن في العالم حرائق. يكاد ينسى قبل أن تقترب صحافية سورية لتشرح أنها تعمل في الصحافة هنا لمساعدة عائلتها، وتسأل بحرقة السوريين: «متى تنتهي الحرب؟»...
لا أعتقد أن أحداً من كل السياسيين والإعلاميين العرب في دبي هذه الأيام عنده للأسف أي جواب...
أما أنا فقلت في سري: «عش يومين من الرفاهية والنسيان، فأنت عائد إلى مصائب الوطن ونوائب الإعلام».
المصدر: صحيفة "السفير" اللبنانية