68 عاما مضت على النكبة الفلسطينية وهو الاسم الذي أطلق على عمليات التهجير القصري والتطهير العرقي الذي مارسته المنظمات الصهيونية الإرهابية ضد الشعب الفلسطيني لإقامة الكيان الصهيوني على الأراضي الفلسطينية التي استولت عليها هذه المنظمات الإرهابية بقوة السلاح وممارسة أبشع أنواع الارهاب والمجازر، وبالدعم الكامل من القوى الامبريالية الغربية العسكري والسياسي والدبلوماسي والاعلامي. ولقد شارك "المجتمع الدولي" في شرعنة نهب الأرض الفلسطينية بقرار التقسيم الجائر الذي أعطى للغزاة من الصهاينة فرصة إقامة دولة عنصرية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. هذا الكيان كان وما زال تجسيدا حقيقيا لاستعمار كولونيالي احلالي قائم على انتزاع الأرض وطرد وتشريد سكانها الأصليين الى خارج البلاد.
تأتي ذكرى النكبة في ظل مناخ إقليمي نرى فيه تكالب قوى إقليمية عربية وغير عربية في محاولات مستميته لإسقاط دول عربية وطنية قومية وتدمير قدراتها البشرية والعسكرية والاقتصادية والعلمية والثقافية خدمة للمشروع الامبريالي في المنطقة والذي يمثل الحفاظ على أمن الكيان الصهيوني رأس سلم أولوياته من حيث كون هذا الكيان قاعدة عسكرية وأداة ضاربة في منطقة ذات أهمية جيوسياسية واستراتيجية وتتمتع بالخيرات النفطية والغاز الطبيعي.
تأتي ذكرى النكبة في فترة زمنية أعلن النظام العربي الرسمي من خلال الممارسة تخليه عن القضية المركزية الا وهي قضية فلسطين والصراع العربي-الإسرائيلي، حيث باتت وسائل الاعلام المملوكة من قبل النظام العربي الرسمي تستبدل هذا الصراع بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي في محاولة مفضوحة للتخلي عن الصراع الجوهري في المنطقة وتخليه الرسمي عن القضية الفلسطينية من حيث انها لم تعد قضيته المركزية ، وبالتالي التخلي عن محاربة إسرائيل لاسترداد الأراضي العربية المحتلة.
وتأتي ذكرى النكبة في فترة زمنية نجحت فيها الى حد ما الرجعيات العربية بقيادة آل سعود وقطر ومن خلال ضخ مئات الملايين من الدولارات على الوسائل الإعلامية الصفراء والكتبة المأجورين وحفنة من "الخبراء" في مراكز الدراسات والأبحاث الاستراتيجية لتغيير بوصلة الصراع من صراع وجودي عربي-إسرائيلي الى صراعات طائفية ومذهبية في المنطقة وتوجيه العداء الاعمى والحاقد لإيران ومحور المقاومة والممانعة بشكل أعم. وضمن هذا التوجه عمل آل سعود ومن لف لفهم في خنق صوت المنابر الإعلامية التي تعري الأنظمة الرجعية وتآمرها على القضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية ومن هنا جاء حجب الأقمار الاصطناعية على الفضائية السورية والميادين والمنار اللبنانية والمسيرة اليمنية.
وأصبح النظام العربي الرسمي لا يجد حرجا من لقاء بعض رموزه علنا مع قيادات صهيونية هذا بالإضافة الى الاجتماعات التي تدور محاطة بالسرية التامة والتي يتم فيها محاولة رسم مستقبل المنطقة وتصفية القضية الفلسطينية وعلى رأسها اسقاط حق العودة تحت ذرائع واهية وتصريحات وبيانات يكتنفها الغموض وتتلون فيها التفسيرات لخداع الجمهور الفلسطيني والجماهير العربية.
ولا عجب ان نرى هذه الهرولة لأنظمة الخليج العربي من السعودية الى دولة الامارات الى قطر الى المحمية السعودية البحرين ومن خلال الوفود الرسمية الى دولة الكيان الصهيوني ذهابا وإيابا في محاولة لبلورة وإقامة تكتل وتحالف في المنطقة يضم بالأساس دول خليجية وإسرائيل وتركيا برعاية أمريكية الهدف منه ضرب محور المقاومة والممانعة.
ولا عجب ان تتناول وسائل إعلام النظام العربي الرسمية ووسائل الاعلام للعدو الإسرائيلي الحديث عن إحياء ما سمي "المبادرة العربية للسلام" التي طرحتها السعودية في مؤتمر القمة العربية في بيروت عام 2002 والتي تم فيها رسميا التخلي عن حق العودة التي تكفله القرارات الدولية، وإقامة العلاقات الرسمية دبلوماسيا وسياسيا واقتصاديا مع الكيان الصهيوني وبشكل رسمي وليس من تحت الطاولة إذا ما قبلت حكومة العدو الإسرائيلي هذه المبادرة الهزيلة التي كتبت أساسا في واشنطن وتم تقديمها على أنها مبادرة سعودية آنذاك.
من كان يحلم أو يتخيل في يوم من الأيام أن تذهب الجامعة العربية الى مجلس الامن الدولي مطالبة إياه بالتدخل تحت البند السابع عسكريا في سوريا وتغير النظام بها...وزير خارجية قطر حمد بن جاسم والأمين العام لجامعة "مجلس التعاون الخليجي" نبيل اللاعربي كان همهم تأليب الرأي العالمي و "المجتمع الدولي" على الدولة السورية وكانت قطر على استعداد لشراء أصوات بعض الدول في المجلس اذا ما صوتت لصالح قرار التدخل....وذهب حمد بن جاسم يجرجر خيبته وهو الذي تنطح ووعد البيت الأبيض ان قطر وتركيا باستطاعتهم اسقاط النظام في سوريا ببضعة أيام أو أسابيع معدودة على الاكثر...وجاء الدور السعودي وأمير الإرهابيين بندر بن سلطان وتكررت المشاهد والمواقف الى جانب الفشل في شراء روسيا الاتحادية بالمليارات والفشل في اسقاط الدولة السورية وتبعها الفشل في تركيع اليمن على الرغم من شن العدوان العسكري المباشر تحت يافطة "عودة الشرعية" لمن لفاقد الشرعية ولو بحدها الأدنى. نحن في زمن كشرت الرجعية العربية عن أنيابها بشكل علني فج. وفي زمن تحشد فيه جيوش عربية لا لتحرير فلسطين أو تحرير القدس بل لغزو دول عربية من قبل دول عربية.
الوضع الفلسطيني الرسمي ليس بأفضل حال وخاصة وأنه متماشي ومتناغم مع ما يسميه "بالإجماع العربي" وهو في حقيقة الامر ليس الا إجماع محور الرجعية العربية التي أصبحت تسيطر وتهيمن على قرارات "الجامعة العربية". فالسلطة الفلسطينية متوافقة مع محور الأعداء بالنسبة للموقف من سوريا وأيدت العدوان العسكري المباشر على اليمن الذي تقوده السعودية ومن المؤكد أن لو كان لديها جيشا لما توانت عن إرسال وحدات منه للقتال الى جانب القوات السعودية والاماراتية الغازية. الغريب انه عندما كان هنالك اجماعا عربيا على أن الصراع في المنطقة هو الصراع العربي-الإسرائيلي أخذت القيادة المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك طريق الخروج عن هذا الاجماع وعن قرارات الشرعية الدولية وفاوضت العدو الصهيوني في أوسلو الذي جاء باتفاق وتفاهمات أوسلو السيئة الصيت وما تلاها من اتفاقيات وخاصة اتفاقية باريس الاقتصادية، وكلاهما جر وشكل النكبة الأخرى للشعب الفلسطيني في مسار تفاوضي لم ينتج الا مزيد من قضم للأراضي الفلسطينية وانتشار سرطاني للمستوطنات اليهودية في الأراضي التي احتلت عام 1967 الى جانب مصادرة أراضي عربية داخل الخط الأخضر، ومزيد من التنازلات وبناء منظومة التنسيق الأمني للحفاظ على امن الكيان الصهيوني والوصول الى ما نحن عليه الان التي أصبح فيه رموز السلطة يتباكون على انعدام فرصة تحقيق "حل الدولتين" الذي لم يكن في يوما من الأيام هدفا تسعى اليه الدولة العنصرية التي أصبحت تنادي كل العالم للاعتراف بها كدولة يهودية.
وفوق كل هذا يأتي ذكرى النكبة ونحن نعيش نكبة أخرى وهي نكبة الانقسام في البيت الفلسطيني الذي طال أمده بين تنظيمي فتح وحماس والذي كانت له نتائج كارثية على القضية الفلسطينية والمرشحة لمزيد من الكوارث وخاصة وانه على ما يبدو انه لا يوجد لدى الطرفين النية على رأب الصدع وانهاء حالة الانقسام. فكل فصيل يريد ان يحافظ على "مكاسبه" التنظيمية الضيقة ولو على حساب الوطن والقضية وكلاهما يشعر ان له مملكته التي يحاول الاحتفاظ بها على الرغم من أن هذه الممالك محتلة من قبل الكيان الصهيوني وإن تراءى للبعض في منامه غير ذلك. ولا شك ان عدم التصدي الحازم من قبل الفصائل الفلسطينية الأخرى للنهج الذي اتخذته السلطة الفلسطينية أو حماس قد ساهم بشكل أو بآخر لحالة التدهور الذي نراه على المستوى الرسمي الفلسطيني. وأصبح إرتهان السلطة الفلسطينية وحماس الى قوى إقليمية معادية بالأساس للقضية الفلسطينية والساعية الى تصفيتها، هي الحالة السائدة على الساحة الفلسطينية.
تأتي ذكرى النكبة ونحن نرى ونشاهد التضييق على المخيمات الفلسطينية في الشتات والاعتداءات على سكانها. ان خلق الفتن داخل المخيمات الفلسطينية وزرع المجموعات المتطرفة والارهابية كما هو الوضع في لبنان الى جانب تقليص الخدمات التي تقدمها الاونروا انما يهدف الى زعزعة الاستقرار والامن في مخيمات الشتات الى جانب جعل الحياة في المخيمات صعبة للغاية وهنالك قوى مشبوهة تعمل على استغلال الوضع الإنساني الصعب وتشجع الفلسطينيين الى الهجرة في محاولة لتفريغ المخيمات من سكانها الذين ما زالوا ينتظرون حق العودة.
أما في سوريا فقد تم تدمير مخيم اليرموك وهو احدى أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا وذلك من قبل المجموعات التكفيرية الإرهابية من النصرة وداعش مما اضطر أهالي المخيم الى النزوح من المخيم حرصا على حياتهم. ولقد باءت بالفشل في العديد من المرات التفاهمات والاتفاقيات لإخلاء المخيم من المسلحين من المجموعات المتطرفة والارهابية وذلك في آخر لحظات التنفيذ نتيجة التدخلات لدول اقليمية عربية وغيرها. وهذا بحد ذاته دليل قاطع على استهداف المخيمات الفلسطينية والعمل على تفريغها من سكانها لأنها ببساطة تمثل لا بل وتجسد النكبة الفلسطينية بكل أبعادها كما تجسد حق العودة وتبقيه في الوجدان الفلسطيني والشعوب العربية كما أنها تشكل الحاضنة للمقاومة الفلسطينية. وهذا يؤكد بالدليل القاطع أن هذه الأدوات التكفيرية ومشغليها التي لم تطلق رصاصة واحدة على العدو الإسرائيلي انما يخدمون المخطط الصهيو-أمريكي في المنطقة ويعملون على تصفية حق العودة لينعم الصهاينة بالأرض الفلسطينية المسلوبة.
ولا بد لنا أن نؤكد هنا أنه وبالرغم من الصور القاتمة والهجمة الشرسة على كل ما هو شريف ووطني وقومي في منطقتنا الا أن شعلة المقاومة للمشروع الصهيو-أمريكي في المنطقة ما زالت مضيئة ومحور المقاومة ما زال صامدا في سوريا واليمن وفلسطين ولبنان.
وتعود ذكرى النكبة والانتفاضة الفلسطينية ما زالت مستمرة وتبتكر أساليب نضال جديدة بالرغم من محاصرتها من الالة العسكرية والمخابراتية والأمنية الإسرائيلية بالتعاون في كثير من الأحيان وللأسف مع قوى أمن السلطة الفلسطينية التي قررت أخيرا وبالكلام فقط لغاية الان وقف التنسيق الأمني مع أجهزة المخابرات الإسرائيلية.
وتأتي الانتفاضة الفلسطينية لتسقط مقولة الأصوات الانهزامية التي تحاول الاختباء وراء عجز النظام العربي الرسمي لتبرير عجزها وسياسات التنازلات والإبقاء على المفاوضات مع العدو الإسرائيلي والارتهان الى البيت الأبيض أو الدول الأوروبية للضغط على الحكومة الإسرائيلية للقبول بحل الدولتين السرابي اذا جاز التعبير. كما وتأتي الانتفاضة واستمرارها لتؤكد للقاصي والداني ان الاجيال الفلسطينية المتتابعة وبعد ما يقرب من السبعون عاما بعد النكبة ما زالت متمسكة بفلسطين الوطن والقضية، وأن كل محاولات الكيان الصهيوني باتباع سياسة كي الوجدان والذاكرة الفلسطينية قد باءت بالفشل. كما باءت بالفشل كل محاولات وسائل الاعلام والابواق التابعة للرجعية العربية على نشر ثقافة الاستسلام والخنوع وأننا غير قادرون على مواجهة الكيان الصهيوني. هذا الكيان الذي أصبح يواجه الان ولأول مرة ومنذ نشأته خطرا وجوديا حقيقيا، وأصبح يحسب الف حساب قبل الاقدام على أية خطوة قد تؤدي الى تهديد وجوده بعد ان كان جيشه يقوم باستباحة الأراضي والأجواء والمياه العربية دون أي رادع أو حساب لأي قوة عربية.
في ذكرى النكبة الفلسطينية
2016-05-18
بقلم: الدكتور بهيج سكاكيني