بقلم: الدكتور بهيج سكاكيني
انتهى اجتماع المجموعة الدولية لدعم سوريا في فيينا من حيث بدء فمواقف الدول في هذا التجمع لم تتغير وإن كان البعض يرى من أن الموقف الأمريكي ينحى أكثر فأكثر الى الطرح الروسي لحل الازمة السورية، ولكن هذا في تقديرنا المتواضع لا يتعدى المرحلة الكلامية فقط فلو كانت الولايات المتحدة جدية في دعم المسار السياسي للازمة السورية لكانت مواقفها على الأرض غير ذلك.
الولايات المتحدة تسير في ثلاثة خطوط متوازية بالنسبة للازمة في سوريا في المرحلة الحالية. فمن جانب هي تسير مع "المعارضة المعتدلة" أو بالأحرى مع الدول الإقليمية الداعمة لهذه المعارضة المعتدلة الافتراضية والتي ما هي في حقيقة الامر الا المجموعات الإرهابية التي تقاتل جنبا الى جنب مع جبهة النصرة القاعدية وتحت إمرتها. فالولايات المتحدة ما زالت تعطي هذه الدول وتحديدا السعودية وتركيا وقطر دورا في دعم المجموعات الإرهابية بالسلاح والعتاد العسكري وتجنيد مقاتلين جدد وارسالهم الى سوريا. والمخابرات المركزية الامريكية تشرف على العديد من صفقات الأسلحة التي ما زالت تمرر عبر الأراضي التركية الى جانب المقاتلين الجدد. وتأمل الإدارة الامريكية أن تنجح هذه الدول بإسقاط النظام في سوريا الذي كان وما زال هدفا رئيسيا للولايات المتحدة بالنسبة الى سوريا لان صمود سوريا ومحور المقاومة يعني سقوط المشروع الأمريكي للسيطرة على المنطقة بأكملها، هذا عدا عن المردودات على المستوى الدولي.
الولايات المتحدة لن تخسر شيئا إذا ما خسرت هذه الدول ولملمت خيبتها في النهاية، بل العكس هو الصحيح فان الولايات المتحدة ستقوم بتوبيخ هذه الدول وتضع الولايات المتحدة في موقف أقوى تجاه لجم عنجهية ورعونة هذه الدول التي تعمل في بعض الأحيان خارج الإطار الذي رسمته الولايات المتحدة. الى جانب ذلك فان الولايات المتحدة ببيعها السلاح لدول الخليج الذي تدفع بسخاء وبغباء في آن واحد عشرات المليارات كل عام في صفقات أسلحة لبلدانها الى جانب تسليح "المعارضة المعتدلة" بأحدث الأسلحة تكون قد حققت مليارات الدولارات من الارباح للمجمع العسكري-الصناعي الأمريكي الذي يشكل ضلعا رئيسيا في تحديد السياسة الخارجية للولايات المتحدة الى جانب المؤسسات المالية العملاقة وخاصة البنوك وكذلك الطبقة السياسية الحاكمة.
والولايات المتحدة تسير أيضا مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري وفرعه العسكري وحدات حماية الشعب الى جانب قوات سوريا الديمقراطية وهي تجمع من مجموعات كردية وعربية في الحسكة والتي تأسست في اكتوبر 2015 تعمل في الشمال السوري. وتمد الولايات المتحدة هذه المجموعات بالأسلحة وتعول عليها كقوى لقتال داعش وتحرير الرقة عاصمة داعش في سوريا كخطوة على طريق تفتيت الوطن السوري. وهنالك تواجد لقوات خاصة أمريكية تعمل الى جانب هذه القوات ولقد قامت وحدات هندسية من الجيش الأمريكي بترميم وتطوير مطار عسكري في تلك المنطقة. ولقد اعترف البنتاغون مؤخرا بوجود 300 من القوات الخاصة والخبراء في سوريا وهذا يشكل اعتداء فاضحا على الأراضي والسيادة السورية حيث انه لم يتم بالتنسيق مع الحكومة السورية أو بموافقتها.
أما تركيا حليفة الولايات المتحدة والعضو في حلف الناتو فتعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي هو حزبا إرهابيا وامتدادا لحزب العمال الكردستاني الذي يحاربه الجيش التركي بلا هوادة بناء على تعليمات أردوغان الذي تنصل من التفاهمات مع رئيسه أوجلان المسجون منذ سنوات في السجون التركية والتي أدت الى وقف العمليات العسكرية لحزب العمال الكردستاني لمدة ما يقرب من السنتين. ويعمل الجيش التركي على عدم تقدم قوات سوريا الديمقراطية أو وحدات حماية الشعب الكردية الى السيطرة على مدينة اعزاز وتحريرها من تنظيم داعش ويقوم بقصف القوات الكردية المتقدمة تجاه هذه المدينة. أردوغان لا يريد لكرد سوريا إقامة منطقة حكم ذاتي أو إدارة للمناطق الحدودية مع تركيا ولهذا يسعى جاهدا لإقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية تحت ذريعة حماية اللاجئين السوريين والهدف الرئيس هو منع تمدد وحدات حماية الشعب لكردية وقوات سوريا الديمقراطي في الشمال السوري واقتطاع جزء من الأراضي السورية. وتركيا بالتالي تعمل ضد التوجه الأمريكي في تلك المنطقة. ولقد نجح أردوغان لغاية الان على استبعاد أحد الأطراف الكردية الأساسية وهو حزب الاتحاد الديمقراطي من المشاركة في وفد/وفود المعارضة السورية في جنيف منذ البداية. ولكن هذا لم يمنع الولايات المتحدة من التعامل مع جناحه العسكري لأغراض استخدامهم كأداة لتفتيت سوريا وعلى اعتبار انهم قوى ديمقراطية مناوئة للتيارات السلفية الجهادية والمجموعات الإرهابية المنبثقة عنها مثل داعش والنصرة ومن لف لفهم من جيش الإسلام واحرار الشام وغيرها من التنظيمات والتي ما زالت الولايات المتحدة تدافع عنهم وتعتبرهم من "المعارضة المعتدلة" وهي تحاول أن تشمل جبهة النصرة من ضمنهم. الولايات المتحدة تبقي الباب مفتوحا وتتعامل مع كل الجهات ساعية لتحقيق مصالحها من خلال هذه الأدوات.
والولايات المتحدة اضطرت أن تتعامل مع روسيا بعد فترة من دخولها على الخط مباشرة في سوريا لدعم الجيش السوري في محاربة الارهاب وافشال المخطط الأمريكي السعودي التركي القطري في العدوان العسكري المباشر للشمال السوري كما كان مخطط له والذي كان في مرحلة انتظار لحظة التنفيذ. ولا شك ان دخول القوات الروسية وفعلها على الأرض في مكافحة الارهاب في خلال أسابيع قليلة وما أوقعته من خسائر في طرف هذه المجموعات أدى الى كشف عورة ما سمي "بالتحالف الدولي" بقيادة الولايات المتحدة وعدم جديته في محاربة داعش التي من أجلها تكون هذا التحالف وعلى أنه يعمل على استخدامها كأداة لتحقيق مآربه السياسية سواء في سوريا أو العراق. الدخول الروسي في سوريا وما أحدثه من متغيرات ميدانية وسياسية أجبر الولايات المتحدة للدخول في العملية السياسية لحل الازمة السورية. الولايات المتحدة لم تدخل طوعا الى طريق الحل السياسي. الولايات المتحدة اضطرت للتنسيق مع روسيا وذلك لعدة أسباب منها:
أولا: الفشل الذريع الذي مني به حلفاؤها وادواتها في المنطقة من اسقاط الدولة السورية على الرغم من المليارات التي صرفت من أجل تحقيق ذلك.
ثانيا: ان دخول روسيا السريع والمفاجىء وبهذا الحجم والتصميم منذ البداية قد أفقد الإدارة الامريكية زمام المبادرة في الاقدام على أي عمل عدواني مباشر ضد سوريا تحت أي ذريعة من الذرائع.
ثالثا: ما حققه التدخل الروسي في الحرب على الارهاب في سوريا في خلال أسابيع أثبت للعالم ما يمكن فعله على الأرض لو توفرت النية في القضاء على الارهاب. وأصبح العديد من وسائل الاعلام وحتى الغربية منها تقارن بين ما فعله "التحالف الدولي" لأكثر من سنة وبين ما فعلته الطائرات الروسية في خلال أسابيع. لقد تركت الطائرات الامريكية تنظيم داعش يسرح ويمرح في سوريا والعراق وحتى في الأراضي المفتوحة والمنبسطة كالكف دون التعرض لمسلحيها. وتركت الالاف من الشاحنات التي تملكها داعش المحملة بالنفط المنهوب من سوريا والعراق للوصول الى الأراضي التركية لبيعها دون ضربها وتدميرها وتجفيف أحد أهم مصادرها المالية الرئيسية التي مكنتها من دفع الرواتب الشهرية المغرية لمقاتليها بالإضافة الى شراء الأسلحة من السوق السوداء العالمية إذا لم تتمكن الدول الراعية لإمدادها بالأسلحة النوعية.
رابعا: ان دخول الولايات المتحدة كان وما زال يهدف للحفاظ على المجموعات الإرهابية التي تطلق عليها "المعارضة المعتدلة" لاستخدامها كورقة على طاولة المفاوضات. فمنذ البداية وجهت الاتهامات الامريكية والغربية الى روسيا بأن طائراتها تقصف مجموعات "المعارضة المعتدلة" ولا تقصف تنظيم داعش. وما زالت هذه السيمفونية تتكرر لغاية الان مع الجيش العربي السوري وخاصة في حلب.
خامسا: إدراك الإدارة الامريكية انه لم يعد أمامها سوى خيارين لا ثالث لهما فإما البدء بالتنسيق والتعاون مع روسيا في سبيل إيجاد حل للازمة السورية بما يضمن التقليل من الخسائر السياسية الامريكية ومحاولة تحقيق بعض المكاسب، أو الانخراط في الميدان السوري بإرسال جنود على الأرض وهو الشيء الذي لن يكون مقبولا لدى الجمهور الأمريكي بالإضافة الى عدم القبول من قبل الكونغرس. ولا شك ان الهزائم التي منيت بها أمريكا في أفغانستان والعراق ما زالت ماثلة امام الشعب الأمريكي، وهذا ما أدى الى تغيير الاستراتيجية الامريكية من التدخل العسكري المباشر لقواتها الى الاعتماد على حلفاؤها وادواتها في أداء المهمات مع الاكتفاء من طرفها بتقديم الدعم عن طريق الخبراء والمستشارين والقوات الخاصة محدودة العدد لتجنب الخسائر البشرية والمادية التي أرهقت الخزينة الامريكية.
سادسا: ان التجربة الروسية في سوريا في محاربة الارهاب والنجاحات التي حققها الطيران الروسي والجيش العربي السوري وحلفاؤه على الأرض أعطى نموذجا لما يجب أن تكون عليه محاربة الارهاب في المنطقة. ومن هنا رأينا بعض البوادر من دول المنطقة التي اشارت الى نيتها اللجوء الى روسيا لمساعدتها لمحاربة الارهاب كما رأينا في التقارب مع العراق في البداية. وهنا تحركت الولايات المتحدة لقطع الطريق على هذا التقارب الذي لو استمر لخرجت الولايات المتحدة من المولد بلا حمص كما يقول المثل، فقامت بإرسال الخبراء والمستشارين والمدربين وقوات خاصة ووصل العدد 6000 مستشار وجندي. وكان من نتيجة الضغط الأمريكي على الحكومة العراقية أن اسقطت التعاون بين العراق وسوريا في المجالات العسكرية والأمنية والاستخباراتية الذي بدأت تعطي ثمارا بعد الدخول الروسي خاصة وتكوين غرفة مشتركة أمنية مع العراق مركزها بغداد. كانت هنالك آمالا على تطوير التعاون والتنسيق مع سوريا وخاصة وأن المعركة ضد الارهاب هي واحدة وهنالك حدود مشتركة واسعة بين البلدين تستخدمها داعش للتنقل بين الانبار في العراق الى الرقة وغيرها من المدن السورية.
ما نريد أن نوضحه هنا هو أن الولايات المتحدة الامريكية على استعداد للتنسيق مع أي طرف حتى مع الأطراف المتضاربة المصالح لتحقيق مصالحها. وهي جانب لا يؤتمن له على الاطلاق وهذا ما تدركه روسيا وسوريا وحلفاؤها المخلصين اللذين يدافعون عن وحدة الأراضي والسيادة السورية وضمان أن الشعب السوري وحده هو من يحدد نظامه وقياداته دون تدخل من أي طرف أجنبي كان.