بقلم: أوس حسن
في زمن فقدنا فيه المصداقية ،وغابت الحقائق في براثن الجهل، ما زال المشروع الطائفي والإقتتال الداخلي تتوسع فجوته في الوطن العربي، لينحدر نحو دلالات وعناوين أخرى أكثر عمقا ًمن الظاهر. إن تقليل عمليات الغارات الإسرائلية على غزة وجنوب لبنان هو دليل واضح على نجاح إستراتيجية اسرائيل غير المباشرة في صراعها طويل الآمد مع العرب،
فهي استطاعت أن تنقل المعركة إلى قلب كل دولة عربية وقد نجحت في ذلك بلا شك،فالصراعات الطائفية هي أدوات لمشاريع سياسية كبرى تنفذها قوى دولية واقليمية في العالم عن طريق منظمات سرية عالمية ، ومن العوامل المساعدة على هذا التفتت والتمزق البطيء انهيار الاتحاد السوفيتي وسيطرة النظام العالمي الجديد ( نظام القطب الواحد)
هذا النظام الذي أدى إلى سقوط معظم الأيدلوجيات الثورية في الوطن العربي وازدياد قمع الأنظمة الشمولية لشعوبها على الصعيد السياسي والإقتصادي والفكري،هذا النظام العالمي الجديد الذي تقوده مجموعة من الشركات العظمى والعصابات العالمية المحتكرة للثروة الإنسانية،هو من يتحكم بمصير الفرد ودخله الاقتصادي،هو نظام وضع الإنسان العربي على مفترق طرق متعاكسة،إما أن تكون في القمة أو في الحضيض،إما أن تكون غنيا ً أو فقيراً،إما أن تكون ظالما ً أو مظلوما ً، فتحول الإنسان العربي من منتج إلى مستهلك منغمس في البحث عن رزقه ولقمة عيشه مما ادى إلى تفشي الفقر والجهل والخرافات الدينية ،وازداد التمسك بالهوية الفرعية الطائفية،والتشبث بالنعرات التاريخية القديمة من هذه الثغرة البسيطة والخطيرة استطاعت اسرائيل شن حربها في العمق العربي فسخرت لحربها كل وسائل الإعلام العربية المأجورة والدراما الطائفية والعرقية ، بهذه الحيل قامت اسرائيل بتضليل الشعب عن المواجهة المباشرة معها وجعلته يحيد عنها بتوجيه سلاحه نحو أخيه عندما وجدت الساحة العربية أرضا ً خصبة لتطبيق مشروع برنارد لويس المستشرق البريطاني من أصل يهودي الذي قدم دراسته إلى مجلة البنتاغون سنة 1980 يقترح فيها إعادة وزيادة تفتيت العالم الإسلامي من باكستان إلى المغرب وإنشاء أكثر من ثلاثين كيانا ً سياسيا ً جديدا ً أضافة إلى الدول الست والخمسين التي تتوزع عليها خارطة العالم الإسلامي وهذا يعني مزيداً من التوترات والحروب والشقاقات والصراعات الطائفية أي المزيد من الفقر والجهل والضعف والذل فتكون قوية فيما بينها رحيمة على عدوها الحقيقي ،وهذا هو الضمان الحقيقي لأمن وبقاء اسرائيل وسط هذه الفسيفساء الهشة..
يقول هيجل أن روح اليهودي هي معادية للعالم وللآخرين،ولأن روحهم وجدت مهاجرة،وبقيت على ذلك مفقودة في العالم،بقيت غريبة على الشعوب التي تعاملت معها،لأنها لم تملك أرضا ً معينة بصدق لزراعتها،فكانت غريبة فوق هذه الأرض،تولد عنه عداء حيال الأرض..أدى إلى تولد عداء حيال الآخرين،فالروح اليهودية التي سعى جاك دريدا لإحيائها كما يقول هيجل في فيمنولوجيا الروح،لم تعد تريد الحب بسبب هذا الكره المقيت،فحدث انفصال عن الطبيعة،وسبب هذا السلوك هو الرجوع إلى الذات.
إن الطابع الأساسي لهذه الروح،كما يقول هيجل هو عداؤها لكل القيم الحيوية،كالبطولة وحب الأمم،ولكن هذا الطابع ساعد على اكتشاف كل ما هو مرتبط بالرجوع إلى الذات من قيم عقلية وروحية والإهتمام المحصور بالذات هو سمو كلي مجرد.اليهودي يريد أن يصبح سيد نفسه،مستقلا ً في عالمه،وجد ليصبح من أجل ذاته، فالشعب اليهودي من المستحيل أن يلتحق بالشعوب الأخرى،ليتقاسم معهم همومهم وعواطفهم،أو يجعل شعوب العالم تلتف حوله، لإن غربته وانفصاله عن الطبيعة بنظره هوية مقدسة منحه إياها القدر الإلهي..
إن الحرب التي تشنها اسرائيل حاليا ً،هي حرب فكرية،حرب التلاعب بالعقول،وتغير كل المعتقدات والقناعات السابقة التي تعود الإنسان العربي على معايشتها أثناء الخطاب الثوري قبل عقد التسعينيات،فهي سعت إلى أن تقتل كل الرموز الثورية المتبقية ،وذلك بجعلهم ينخرطون في صراعات وشقاقات طائفية،تؤدي إلى جرائم ابادة حقيقية ضد الإنسانية،وهذا ما يجعل شعوب المنطقة هي أيضا ً تدافع عن وجودها وبقائها،هكذا أرادت اسرائيل أن تقتل الثلة القليلة الباقية من رموز المقاومة التي تقف في وجه هذا الكيان الغاصب،وهذه الدولة التي قامت على أساس عنصري.نجحت اسرائيل في تزييف وعي الجماهير في الشرق الأوسط،ونجحت أيضا ً في الفخ الذي وضعته لبعض القادة العرب والرموز الثورية في المنطقة،فراحوا بلا هوادة يسفكون دماء شعوبهم ويعيثون فسادا ً وطغيانا ً في الوطن،حتى وإن تمتعوا بنسبة عالية من التأييد الجماهيري،قبل أحداث ما يسمى «بالربيع العربي»،مستنزفين كل طاقات الوطن العسكرية والاقتصادية،اسرائيل ستجعل هؤلاء القادة ينتحرون فكريا ً وسياسيا ً وانسانيا ً،قبل أن تقتلهم شعوبهم جسديا ً،تريد أن تجعل شعوب المنطقة قطيعا ً من الكلاب السائبة المتوحشة،تفترس كل من يقف في وجهها،وفي نفس الوقت عليها أن ترضخ لسياط الوحوش الأخرى..
لكن الأمر الذي أثار أنتباهي ذات يوم هو تصريح لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بثّت قناة ميكس جزءا ًمنه قال فيه:- هل تدرون ما معنى أن يواجه الطفل الفلسطيني الدبابة الإسرائيلية
بمفتاح بيته القديم.. هذا يعني أنكم راحلون ذات يوم، وإن العرب سيخرجونكم من دياركم ويزلزلون كيانكم المقدس،إذن فبالرغم من مظاهر القوة والغطرسة والجبروت فإن اسرائيل يسكنها هاجس الخوف وعدم الأمان لإنها إغتصبت بلادا ً ليست لها وشرّدت أهلها على مدى أكثر من ستين عام،فحالات الخوف والقلق واللااطمئنان هي حالات تنتاب المجرم أو اللص بعد الجريمة دائماً،لذلك نجد اسرائيل غير مستقرة نفسيا ً وتعيش حالة فوبيا شديدة وشتات روحي يتجلى واضحا ً في تاريخهم وأدبياتهم وإعلامهم اليومي..
لكن الغريب في الأمر أنها نجحت في تصدير عقدتها إلى البلاد العربية بكل ما تملك من وسائل علمية وعملية ونحن اشتريناها بكل ما نملك من عقول ساذجة فارغة.أدام الله لنا ولاة الأمر وهنيئا ً للعرب بهذا الإنجاز الجديد..!!..*أديب وصحفي عراقي