الذي يبدو أن هنالك تسابق في طرح المبادرات في الفترة الأخيرة من الفرنسية الى المصرية، الى عملية إعادة بعث الحياة في المبادرة "العربية" التي قدمت من قبل الوفد السعودي في مؤتمر القمة العربي عام 2002 الذي عقد في بيروت.
هذا "الاهتمام" الدولي المفاجئ الى جانب الإقليمي لبعض دول النظام العربي الرسمي التي أصبحت تقيم العلاقات الامنية والاقتصادية والسياسية مع دولة الكيان الصهيوني ولا تجد حرجا في ذلك، نقول هذا الاهتمام يفسره البعض على ان القضية الفلسطينية تعود وتفرض نفسها على "المجتمع الدولي" بعد ان تراجعت ولم تعد من أولويات العديد من الدول او المجتمع الدولي. نحن لسنا ضد ان تعود القضية الفلسطينية الى الواجهة الدولية أو الإقليمية بعد ان غيبت دوليا وإقليميا لفترة طويلة ولكن السؤال يبقى هل هذه العودة وضمن الطروحات والمناخ الاقليمي والدولي المتواجد حاليا ستكون لصالح قضيتنا وشعبنا وحقوقنا المشروعة وخاصة الانتهاء من الاحتلال البغيض أم انها ستكون على حساب شعبنا وقضيته العادلة؟
في تقديرنا المتواضع لا بد للإنسان الفلسطيني أن يتأمل في هذا السؤال المطروح حتى لا ندخل في دوامة أخرى وحلقات مفرغة ومتاهات سياسية لا أول لها ولا آخر كما أدخلتنا تفاهمات أو اتفاقية أوسلو سيئة الصيت التي استفاق منظريها ومهندسيها بعد ما يقرب من 25 عاما على توقيعها ليخبرونا بأن الاتفاقية كانت من الأخطاء التي ارتكبت في المسار الفلسطيني. وبالرغم من هذا الاعتراف على الأقل من الكثير من القيادات الفلسطينية المتنفذة والمستأثرة والمستفردة بالقرار الفلسطيني نرى نفس هذه القيادات تركض وتلهث وراء السراب مرة أخرى مع كل مجموعة من الأفكار تطرح هنا أوهناك وهي أساسا لا ترقى الى ان تكون مبادرة أو مع مبادرة أكل الزمان عليها وشرب وتريد ان تنفض الغبار عنها وتقدمها على انها طوق النجاة للشعب الفلسطيني وفي حقيقة الامر هي طوق النجاة لهذه الفئة والطبقة السياسية الفلسطينية المنتفعة من الوضع القائم والتي في نهاية المطاف تغلب مصالحها الفئوية أو الحزبية أو الطبقية على مصالح شعبنا وقضيتنا العادلة.
فلسطينيا "الاهتمام" الدولي يتأتى في الوقت الذي ما زال البيت الفلسطيني يعاني من الانقسام والخلافات بين تنظيمي فتح وحماس الذي يبدو انه أصبح مستعصيا وغير قابل للحل ورأب الصدع لأسباب أصبحت واضحة لكل متابع لهذا الملف منذ بدايته. فكلا التنظيمين أصبحا يغلبان مصالحهم على مصلحة الشعب الفلسطيني بالإضافة الى تغذية الخلافات وتعميقها من قبل دول إقليمية ودولية ليس لها مصلحة في رؤية نهاية لهذا الملف لأنها تريد للبيت الفلسطيني أن يبقى ضعيفا ومتشرذما. ونقولها بمرارة أيضا ان بقية الفصائل الفلسطينية لم تستطيع لسبب أو لآخر ان تضع بصمتها بقوة على الساحة أو تحرك الشارع الفلسطيني بما يكفي ليشكل ضغطا على كلا التنظيمين للعودة وتغليب القضية ومقاومة الاحتلال البغيض ضمن برنامج سياسي مقاوم والابتعاد عن المفاوضات العبثية ووقف التنسيق الأمني مع قوات الاحتلال الإسرائيلي. ان الإبقاء على حالة الانقسام الجغرافي والسياسي في البيت الفلسطيني سيسهل عملية التلاعب على هذه الحالة والابتزاز السياسي لتمرير صفقات هنا وهناك أو تفاهمات تضر بمصلحة القضية الفلسطينية. ان إبقاء الانقسام على الساحة الفلسطينية هي مصلحة النظام العربي الرسمي كما هي مصلحة أوروبية وأمريكية وإسرائيلية.
"الاهتمام" الدولي والإقليمي في إيجاد حل لما أصبح يتداول في الصحف الصفراء على انه صراع فلسطيني-إسرائيلي وليس صراع عربي –إسرائيلي، يأتي ضمن اندفاع وهرولة للعديد من دول النظام الرسمي العربي وخاصة الدول الخليجية وعلى رأسها السعودية لإقامة علاقات أمنية واقتصادية وسياسية مع دولة الكيان الصهيوني، بمعنى الانفتاح والتطبيع مع هذا الكيان العنصري وحرف بوصلة الصراع في المنطقة. فالنظام العربي الرسمي ليس فقط لم يعد يضع الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية على سلم أولوياته، بل أصبح يتآمر على القضية الفلسطينية وعلى المقاومة الفلسطينية ويسعى ومن خلال المبادرات أو التصريحات الاتية من هنا وهناك على اسقاط حق العودة للاجئين الفلسطينيين تحت بنود وتصريحات مبهمة ومطاطية.
وهناك من يسعى الى تقديم مزيد من التنازلات وخفض السقف السياسي للمبادرة العربية بما يتناسب مع المطالب الإسرائيلية، لا بل ويذهب البعض بالقول انه لا مانع من اجراء التعديلات على هذه المبادرة التعيسة أصلا. وهذا من غير المستغرب وخاصة عندما نسمع السعودي الجنرال المتقاعد أنور عشقي والذي يشغل منصب رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات والمقرب من العائلة المالكة لآل سعود بان التطبيع مع إسرائيل هو خيار استراتيجي للمملكة العربية السعودية. وتناقل وسائل الاعلام عن اجتماعات بين قيادات سعودية وإسرائيلية في تل أبيب والرياض وعدم نفي الرياض بما ينشر في الصحف الاسرائيلية أو الامريكية حول هذا الموضوع. النظام العربي الرسمي الذي تقوده السعودية على استعداد للتطبيع مع الكيان الصهيوني والتآمر على تصفية القضية الفلسطينية بأيدي عربية وأطراف فلسطينية منغمسة بهذا النظام الرسمي الذي أصبح يعيش فسادا وفجورا سياسيا غير مسبوق على الساحة العربية ساعيا الى تدمير الدول العربية الوطنية ومقدراتها وامكانياتها الاقتصادية والعسكرية والبشرية ولنا لما يحدث في سوريا والعراق وليبيا واليمن الأدلة الساطعة على ذلك. الى جانب حرف الصراع الى صراع طائفي مذهبي مقيت في المنطقة ويعمل بكل جهده الى تدمير محور المقاومة لصالح العدو الصهيوني. النظام العربي الرسمي يعمل على تدمير المقاومة الفلسطينية وتهجير شعبنا من مخيمات الشتات ومنخرط في عمليات مشبوهة لإفراغها من سكانها وتهجيرهم الى الخارج عبر سماسرة وخونة. هذا النظام الرسمي لا يمكن بأي حال من الأحوال ان يكون مناصرا للقضية الفلسطينية ولذلك لا نستبعد على الاطلاق النزول بما سمي بالمبادرة العربية الى حدود أدنى مما هي عليه لاسترضاء الحليف "الاستراتيجي" الجديد، الكيان الصهيوني. هذا النظام أصبح يستقوي بهذا الحليف الجديد القديم على إيران ومحور المقاومة في المنطقة ولا يجد حرجا في ذلك.
"الاهتمام" الدولي الاني بالقضية الفلسطينية نابع من كون أن الظروف المحيطة ربما تعطيه فرصة لتصفية القضية وخاصة فيما يخص موضوع اللاجئين وحق العودة الى جانب الاعتراف المباشر أو الضمني بيهودية الدولة. النظام العربي الرسمي على استعداد للانخراط بهذا المخطط وهنالك أطراف فلسطينية ربما تدفع في تسلم النظام العربي الرسمي مسؤولية لايجاد مخرج وحل القضية الفلسطينية الذي لن يكون الا على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة التي كفلتها الشرعية الدولية. الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة ترى ان الظروف ناضجة الان لمثل هكذا حل وخاصة مع انغماس الدول الوطنية العربية في مشاكلها الداخلية ومحاربة الارهاب على أراضيها، أما الكيان الصهيوني فيرى ان الوضع الحالي سيتيح له مزيد من الفرص لتهويد مزيد من الأراضي الفلسطينية على كافة أراضي فلسطين التاريخية.
"الاهتمام" الدولي الحالي في القضية الفلسطينية يأتي في فترة ما زالت الانتفاضة الفلسطينية المتجددة مستمرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة وإمكانية تطورها الى ان تصبح هبة شعبية الى جانب ادخال العامل العسكري فيها كما أوضحت بعض العمليات التي كان آخرها العملية الجريئة التي نفذت في قلب تل أبيب وبالقرب من مجمع أمني إسرائيلي، مما يدلل على ان المقاومة الفلسطينية تستطيع ان تضرب العمق الإسرائيلي بالرغم من كل الإجراءات والاحتياطات الأمنية والعمل الاستخباراتي الذي لا ينقطع على مدار الساعة. ان سياسة التجويع والخنق الاقتصادي أصبحت تنذر بانفجار الأوضاع وهذا ما تدركه أجهزة الاستخبارات الأمنية الإسرائيلية والغربية. وهو ما عبر عنه بعض وزراء الخارجية الغربيين في مؤتمر باريس بأنه لا يمكن تحمل الوضع أكثر من هذا خوفا من انفجار الأوضاع ولذلك لا بد من تهدئة الأوضاع وتقديم الدعم الاقتصادي للمناطق المحتلة وعودة المفاوضات المباشرة العبثية بين وفد السلطة الفلسطينية وإسرائيل على امل إيجاد حل، وتقديم الوعود بعقد مؤتمر دولي في فترة لاحقة...الخ.
هنالك أطراف فلسطينية متنفذة ومحتكرة للقرار الفلسطيني والتي بالرغم من تجربتها المريرة على مدى أكثر من 25 عاما من المفاوضات العبثية مع العدو الصهيوني ما زالت لا تدرك هوية وماهية هذا الكيان والدور المنوط له في المنطقة. وبالتالي ما زالت تأمل أنه في يوم من الأيام ستقوم الإدارة الامريكية أو دول الاتحاد الأوروبي بالضغط على هذه الدولة أو فرض عقوبات اقتصادية عليها بما يشكل قوة ضاغطة على الحكومة الإسرائيلية لتقديم بعض التنازلات للطرف الفلسطيني. جميل ان يحلم الانسان ولكن ليس بالشيء الجميل ان يركض الانسان ويلهث وراء السراب لأنه لن يوصل الى شيء سوى السراب وهو ما يفعله كل من يأمل ان يتغير جوهر الكيان الصهيوني، الذي أصبحت فيه دعوات طرد الفلسطينيين "وتنظيف" دولة إسرائيل منهم وارسالهم الى السعودية بحسب أقوال حاخامات ووزراء يشاركون في الحكومة الإسرائيلية دعوات تطلق على العلن دون أن تجد من يتصدى لها أو يرد عليها. هذا الفهم القاصر لطبيعة الكيان الصهيوني ودوره في المنطقة وسياسته التوسعية من خلال التطهير العرقي التي مارسها وما زال يمارسها ضد الشعب الفلسطيني هي التي أوصلتنا للحال الذي نحن عليه الان. فلم نعد العدة للمجابهة والتصدي لا بل وأن السلطة الفلسطينية وقفت ضد المقاومة الفلسطينية وتطوير الأدوات الكفاحية ووقفت حتى ضد التحركات الشعبية وتعبئة الشارع الفلسطيني تحت ذريعة الحفاظ على الأرواح الفلسطينية وحافظت على التنسيق الأمني مع قوات الاحتلال واجهزته الأمنية ودافعت عن هذا التنسيق واعتبره رئيس السلطة انه مقدس لا يجب المساس به.
في النهاية نود ان نؤكد على ان الأوضاع الدولية والإقليمية والفلسطينية غير مواتية على الاطلاق لانخراط الطرف الفلسطيني في اية عملية تسوية سياسية لأنها بالضرورة وتبعا للمعطيات لا بد ان تكون في غير صالح الطرف الفلسطيني ولو بالحدود الدنيا. والظروف تستدعي شحذ الشارع الفلسطيني ودعم الانتفاضة والتأكيد على مقاومة الاحتلال البغيض بكافة الوسائل التي كفلتها القوانين الدولية بما فيه حق المقاومة المسلحة. كفانا الارتهان على الخارج وتدمير الذات ومحاولات عكس احباط السلطة وعجزها على شعبنا في الداخل والخارج. شعبنا وعلى مساحة فلسطين التاريخية المحتلة أثبت وحتى في أحلك الظروف انه قادر على مواصلة المشوار في مقاومة الاحتلال وسياسات القهر والتمييز العنصري البغيض الذي يرتكب بحقه.
ونقول يا اللي عنده مبادرة ينقعها ويشرب ميتها.
يا اللي عنده مبادرة ينقعها ويشرب ميتها
2016-06-11
بقلم: بهيج سكاكيني