أمام التحولات الكبرى التي تعيد ترتيب دواليب العالم حالياً والأزمات التي تعصف بالمنطقة أصبح الهاجس الأكبر والأهم هو تحقيق الأمن والإستقرار في هذا الإقليم، لذلك تتجه الأنظار هذه الأيام الى مدينة سانت بطرسبرغ الروسية حيث سيلتقي بوتين بالرئيس التركي أردوغان في 9 آب الحالي، ويأتي اللقاء في ظروف إستثنائية تمر بها المنطقة، بالإضافة إلى أن توقيت الزيارة أيضاً بدوره يعد إستثنائياً، ليس لتركيا وحدها، وإنما لروسيا أيضاً، وتأتي الزيارة بعد دعوة الرئيس الروسي أردوغان لمناقشة الحرب ضد داعش وجبهة النصرة وإنشاء حلف دولي وإقليمي لمحاربة الإرهاب، فضلاً عن تسوية العلاقات المتأزمة فيما بينهما، إنطلاقاً من القول المأثور: ليس هناك عداوات دائمة، ولا صداقات دائمة .. المصالح هي الدائمة!.
وفي قراءة سريعة لكواليس التحول السريع التي فرضت على الجانبين الروسي والتركي إنهاء الخلاف وفتح صفحة جديدة، عدة عوامل وعلى رأسها الملف السوري الذي شكّل مدخلاً للحل كما الخلاف، وزلزال خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي وغياب واشنطن عن قضايا الشرق الأوسط بسبب إنشغالها بالإنتخابات، ومن هنا هيأت إيران لإعادة العلاقات بين روسيا وتركيا، والدليل على ذلك أن المسؤولين الأتراك قد خففوا من التصريحات الهجومية ضد روسيا، وعليه فإن بوادر انفراج الأزمة الروسية -التركية قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى، وخصوصا إن الرئيس بوتين قد ضمن مسبقا موافقة الرئيس التركي على حل الأزمة القائمة في المنطقة، وقيامه بدور الوسيط لمساعدة تركيا وسورية لاستئناف التعاون فيما بينهما.
واليوم لم تعد عيون تركيا ترى في حلفائها الغربيين، الذِين تبرز واشنطن في مقدمتهم إلى جانب دول الخليج، نظرة الواثق المطمئن، كما كان عليه الحال في الماضي، وذلكَ بعدما طرأت عدة توترات في الفترة الأخيرة مع واشنطن، ونجاة تركيا من الإنقلاب القاشل الذي حصل الشهر الماضي، فضلا عن ذلك، بروز التوتر بين الجارين، سورية والعراق، لذلك فإنه مع قرب زيارة أردوغان لموسكو تزداد التكهنات حول جاهزية أنقرة للتعاون المشتركة مع موسكو ودمشق في مواجهة تنظيمي داعش وجبهة النصرة بسورية، خاصة بعد الهجمات الإرهابية بتركيا، وإدراك أنقرة أنها بحاجة للتعاون أيضاً مع روسيا وسورية ضد داعش، لكن ذلك يتطلب قبل كل شيء تصحيح مسار العلاقات بين أنقرة ودمشق.
قد يكون من المبكّر الحديث عن تفاهم قريب بين روسيا وتركيا في المسألة السورية، في ضوء التناقض الكبير بين إستراتيجيتهما في هذا البلد، لكنّ غياب الأميركيين والأوروبيين سيدفع البلدين إلى البحث عن النقاط المشتركة، أو على الأقل التوصل إلى تفاهم بينهما يمنع حدوث صدام في الأجواء السورية، كحادثة إسقاط الطائرة، خاصة بعد أن فقدت تركيا المبادرة في سورية، وتراجع دورها، فضلا عن بروز مخاطر على الأمن القومي التركي بسبب دعم روسيا للأكراد، وصعوبة استهداف مواقعهم في شمال سورية دون التنسيق مع روسيا الموجودة على الأرض، فضلاً عن التغيير في الأولويات التركية التي كانت تعتبر النظام السوري الخطر الأول عليها، بينما الآن ربما تعتبر أن الخطر الأكبر يتمثل في التنظيمات الإرهابية التي تهدد المدن التركية، وخاصة داعش الإرهابية، تلا ذلك، عدم تدخل القوات التركية مباشرة في شمال حلب كما كانت تفعل عادة، وهذا يفسر حصول تغيير تركي باتجاه تقارب مع روسيا وإيران على حساب التحالف مع أمريكا وأوروبا.
في هذا السياق لعب العامل الأميركي دوراً مهماً في تقريب وجهات النظر الروسية - التركـــية حيال الملف السوري. فبالنسبة الى روسيا، وصلت موسكو إلى قنــاعــة متأخرة بعض الشيء بعدم جدوى التفاهمات الجانبية مع واشنطن في دفع مساعي الحل السياسي من دون مشاركة تركيا التي تمتلك مفاتيح الحل، كما روسيا التي تمتلك قفل المفتاح، وأنقرة اقتنعت بدورها، في شكل متأخر أيضاً، بعدم جدوى التعويل على الحليف الأميركي الذي خذلها في أكثر من مناسبة لا سيما في الملف الكردي، وأدركت أهمية النفوذ الروسي في إنجاز الحل المناسب.
إن محاربة الإرهاب مسألة مهمة، وإيجاد مخرج سياسي للأزمات التي تعاني منها المنطقة أيضاً مسألة جدية، خاصة إن الحروب خلال السنوات الماضية ولدت شروخاً إجتماعية وسياسية، لذلك تأتي أهمية التحركات حول حل سياسي للأزمة السورية من خلال إيجاد حالة من الحضور والتواصل بين الدول ذات الشأن بالأزمة، لذلك فإن تحسن العلاقات بين موسكو وأنقرة، ستكون لها آثار إيجابية على جهود الحل السياسي في سورية، وقد يسهم بطريقة ما في تبريد الجبهات العسكرية إذا ما حققت الجهود السياسية بعض التقدم ، كما سيكون للتقارب بين البلدين أثر إيجابي بشأن تسهيل مفاوضات جنيف.
مجملاً...كنت قد أكدت في مقالي السابق، أن أهم السيناريوهات المستقبلية للعلاقات الروسية التركية، سيناريو التعاون والتوافق عن طريق تعزيز العلاقات بين الطرفين وإيجاد حلول واقعية لكل الخلافات والمشاكل الواقعة بينهما، وأن لغة المصالح هي التي ستحسم في النهاية الأزمة القائمة بينهما، وأن حالة التوترات السياسية لن تطول وهو ما من شأنه أن يصب في مصلحة مسار العلاقات بين هذين البلدين، فلا شك أن هناك مصالح مشتركة واضحة لكل من روسيا وتركيا في إعادة بناء علاقة على أساس توازن المصالح، حيث تعول كلاهما على العلاقات الاقتصادية والتجارية و التي يمكن أن تؤسس لتجاوز الأزمة الحالية القائمة بينهما.
*كاتب سياسي
khaym1979@yahoo.com