بدأت المواقف المصرية في الآونة الأخيرة, تأخذ طابعا سياسيا يمكن قراءته في سياق المتغيرات الإستراتيجية. والمعطيات الاقتصادية وكذلك اتجاه الأوضاع الميدانية في سوريا واليمن إلى اتخاذ طابع الحسم العسكري ,لصالح القوى والجماعات التي تدعمها موسكو سياسيا وعسكريا ولوجستيا ,أو تغض الطرف دوليا على ما تقوم به ,لأنها في المحصلة النهائية ستكون هي الأوراق التي تعتمد عليها في تنفيذ رؤيتها الإستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط ,وتقوم بالتالي بوراثة الاتحاد السوفيتي ومناطق نفوذه القديمة,فالروس الذين مدوا أيديهم إلى عدة دول عربية ومنها سوريا, والعراق واليمن ومصر والجزائر, وغيرها يرون في هذه الخطوة تجسيدا وتوثيقا لعلاقات تاريخية وإستراتيجية قديمة متجددة,ومصر باعتبارها دولة إقليمية محورية في الأمن القومي العربي, وتضم اكبر تجمع بشري في المنطقة العربية وبما لها من مخزون وجداني في ذاكرة الشعوب العربية وتأثيرها الكبير على مسرح الإحداث العربية .تعتبر من الدول المهمة التي سعى بوتين منذ توليه زمام السلطة في موسكو إلى محاولة التقارب معها وربط علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية وثيقة معها,والزيارات التي قام بها إلى القاهرة في عهد الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي ,أو زيارة الأخير إلى موسكو تم الاتفاق فيها على عدة ملفات كبرى كانت مطروحة على طاولة النقاش, كان أهمها ربما الأوضاع العربية الملتهبة وانتشار الإرهاب في المنطقة, والذي أصبح من أهم التهديدات الأمنية لاستمرار الدولة العربية القطرية ,كذلك فان التقارب في المواقف بين موسكو والقاهرة فيما يخص الأوضاع في سوريا أو ليبيا أو العراق, وتبنى مواقف موحدة في مجلس الأمن الدولي والتصويت المصري في مجلس الأمن الدولي ,وإسقاط قرار مشروع أمريكي بفرض مناطق حظر طيران في جنوب سوريا أو شمالها, أسوة بما فعلته واشنطن إبان حصار العراق الذي دام 10سنوات ومن ثم قامت باحتلاله ,فهذا المشروع ترى فيه قيادة البلدان السياسية نوايا أمريكية خبيثة ,مضمرة من اجل احتلال سوريا بعدما فشلت الجماعات الإرهابية المدعومة أمريكيا وغربيا وتركيا, بالإضافة إلى دول الخليج من تنفيذ أجنداتها ضد الدولة السورية ومؤسساتها نتيجة صمود الجيش السوري .المدعوم من إيران وحزب الله وموسكو,فالرؤية المصرية بالتقارب أكثر من روسيا, وإعادة العلاقات إلى ما قبل فترة الرحيل الراحل أنور السادات رحمه الله تعالى, والابتعاد تدريجيا عن المواقف السعودية والأمريكية ,التي باتت ترى فيها القاهرة تهديدا لمصالحها الإستراتيجية البعيدة المدى ,فالدمار الهائل الذي أصاب اليمن والذي أصبح مكانا خصبا لنمو وتكاثر الجماعات الإرهابية كالقاعدة وإنشاء فرع لداعش هناك, وهذا ما انعكس سلبا على كل المنطقة فغياب الأمن في هذا البلد نتيجة عاصفة الحزم السعودية والتي شاركت فيها مصر جويا ,ثم انسحبت بعدما أحست القيادة السياسية والعسكرية المصرية .بأنها ترتكب خطا عسكريا وجيواستراتيجيا كبيرا,وبان تحول اليمن إلى دولة فاشلة على غرار ليبيا ,سيشكل بكل تأكيد تهديدا مستقبليا لمصر. إذ أن مضيق باب المندب الذي باتت تسيطر عليها المقاومة اليمنية والتي قامت باستهداف السفينة الحربية سويفت الإماراتية من خلاله, والتي تم خلالها قتل أزيد من 24بحارا كانوا على متنها. وكذلك استهداف المدمرة الأمريكية ماسون بصاروخين بحريين. كادت هذه الصواريخ لولا فطنة ربان المدمرة الأمريكية أن تؤدي إلى إغراقها هي الأخرى,فمصر باتت على يقين بان تدخلها في اليمن والاستمرار في دعم السياسية السعودية العدوانية واللا مسئولة ,والتي أصبحت محل تنديد ليس غربيا أو عربيا فقط بل حتى خليجيا سيكون مضرا بها ,إذ يعكس موقف وزير خارجية الإمارات أنور قرقاش, الذي أكد فيه على أن بلاده تدعم تصويت مصر في مجلس الأمن ,باعتبارها عضو غير دائم فيه مع القرار الروسي الذي تعتبره السعودية قرارا عدائيا ,ولا يخدم مصالح حلفاءها في سوريا إذ دعي القرار إلى تنفيذ الاتفاق الروسي الأمريكي. فيما يخص الأوضاع في سوريا وفصل جبهة النصرة الإرهابية, عن بقية الفصائل المسلحة هناك من اجل تسهيل ضربها.وهذا ما صوتت ضده بريطانيا وأمريكا حلفاء السعودية التقليديين منذ أكثر من 50سنة ضده, رغم قانون جاستا الأمريكي الذي رأى فيه مراقبون ابتزازا أمريكيا واضحا لرياض,ورأى وزير الخارجية الإماراتي بان القرار المصري بالتصويت لصالح مشروع القرار الروسي وقبله الفرنسي مع أنهما متعارضان في مجلس الأمن يهدف بالأساس ,إلى تحريك الدبلوماسية الدولية لتحرك العاجل في الملف السوري لان مصر قد ضاقت ذرعا بالوضع في سوريا .والصمت الدولي على معاناة الشعب السوري .وآلامه وما يحدث لدولته ,من تفكيك متعمد وذلك حسب ما ذكرته صحيفة تقرير .
,فيما رأت الرياض على لسان مندوبها الدائم في الأمم المتحدة عبد الله العلمي. بان ما فعلته مصر شكل صدمة للمملكة وهو شيء مؤلم ومؤسف, وعده خيانة لكل التفاهمات السعودية المصرية ,في أخر زيارة لملك سلمان بن عبد العز ير إلى القاهرة والتي التقي فيها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ,وقدم حزمة من المساعدات المالية والبترولية إلى القاهرة,فالسعودية التي وقفت مع النظام المصري منذ أحداث يوليو 2013ودعمته وقدمت حوالي 20مليار دولار لدعم الاقتصاد المصري المترنح, كان أخرها إيداع 2مليار دولار كاحتياطي صرف في البنك المركزي المصري ,والاستثمارات الضخمة للملكة في مصر, وكذلك لا ننسي بان هناك أكثر من 1.5مليون مصري على الأقل يعملون بصفة دائمة في السعودية وهؤلاء أوضاعهم أصبحت سيئة جدا بعد الأزمة الاقتصادية.
-التي أصبحت تعانى منها الرياض بسبب انخفاض أسعار النفط ,والإنفاق الكبير على حروبها في عدة بلدان عربية .وخاصة منهم العاملين في شركات اوجيرو, وارامكو وشركة بن لادن للأعمار,ولا يمكن الحديث عن التوتر المتصاعد في العلاقات المصرية السعودية حاليا, دون أن نعرج على الملف الحساس الذي أسال ,ولا يزال الكثير من الحبر, والجدل لدى الأوساط والنخب المصرية على وجه الخصوص .قبل السعودية إذ أن القرار المصري سابقا ,والذي اتخذه الرئيس عبد الفتاح السيسي دون العودة إلى الشعب المصري, أو طرح الموضوع للاستفتاء الشعبي كما تفعل الدول المحترمة الديمقراطية. أو حتى طرحه لتداول والنقاش في مجلس النواب المصري. الذي هو الهيئة التشريعية الوحيدة التي يحق لها إصدار الحكم في هذا الأمر باعتباره نائبا عن الشعب المصري ,فقرار الحكومة المصرية ممثلة في رأس الدولة قررت إعادة جزيرتي تيران وصنا فير إلى السعودية ,رغم أن كل الدلائل والقرائن والشواهد التاريخية والجغرافية والمنطقية ,تثبت بما لا يدع أي مجال لشك أنها ملك لمصر وشعبها,وهذا ما عده الكثيرون من النخب المحسوبة على التيارات القومية الناصرية والعلمانية الليبرالية وحتى الإسلامية والعسكرية. تنازلا خطيرا لا يمكن السكوت عنه وتجاوزا لكل الخطوط الحمراء في السياسة المصرية, وخرجت أصوات مطالبة بإسقاط الحكومة بكل رموزها وخرجت مظاهرات حاشدة في كل المحافظات المصرية تعبيرا عن السخط العارم من هكذا قرار. والذي أبطلته المحكمة الإدارية العليا عدة مرات وطالبت السعودية كما تنص بنود الاتفاقية الموقعة بين البلدين .بتسليمها الجزر التي تم الاتفاق على بناء جسر بري يربط مصر بالسعودية عبرهما سمي بجسر الملك سلمان ,ولكن الرياض لم تكن تعرف بان القيادة المصرية, قامت بهذه المناورة السياسية .لسبب واحد وهو اخذ المزيد من الأموال من المملكة السعودية وابتزازها ماليا واقتصاديا .إذ حسب ما تسرب في وسائل الإعلام فان السعودية دفعت 6مليارات دولار لمصر من اجل بيعها للجزر, ولكن الحكومة المصرية لم تقم أصلا بعرض الموضوع لكي يتم التصويت عليه في مجلس الشعب ,وظلت تماطل حتى اللحظة,فالسعودية التي قامت بعقاب مصر عقب ما قامت به في مجلس الأمن من التصويت لصالح الروس. وقامت باتخاذ إجراءات اقل ما يمكن وصفها بها أنها لا تخدم أبدا مصلحة الرياض الإستراتيجية ,وستزيد من الجفوة بين البلدين وستقوم بترك مكانها في الساحة المصرية لقوى ودول أخرى كروسيا وإيران مثلا,فالعقوبات الاقتصادية التي قامت بفرضها والتي تشمل وقف كل أنواع المساعدات والهبات والعطايا. وكذلك وقف شحنات المنتجات والمشتقات البترولية إلى مصر, والتي كانت مجانية أو لنقل بأسعار رمزية, وتمتد فترة التصدير إلى 5سنوات وهذا مراعاة لوضع الاقتصادي المصري,فتغير السياسة الخارجية السعودية في عهد الملك محمد بن سلمان, والتي يعتبر ابنه وزير الدفاع محمد بن سلمان, أهم مهندسيها ومن يقوم برسم استراتيجيها الإقليمية والدولية ,ولكن هذه الرعونة السياسية السعودية يقابلها على الجانب الشرقي رصانة وحكمة إيرانية ,في التعامل مع الملف المصري .فإيران التي تعتبر العدو اللدود لسعودية في منطقة الشرق الأوسط ,وتراها الرياض التهديد الوجودي لمصالحها الكبرى فيها ,قامت بعرض خدماتها على الرئيس المصري, وقامت بتوقيع جملة من الاتفاقات الاقتصادية والعسكرية وذلك بعد أن رحبت القاهرة وسمحت بزيارة وفد شيعي من نخب مصرية رفيعة المستوى إلى العاصمة طهران حسبما ذكرته وكالة جي بي سي نيوز وأكد فيه على أن سياسة عبد الفتاح السيسي .على خلاف ما تروجه بعض وسائل الإعلام لا تعادي الشيعة مطلقا ,وجاء في مقال في صحيفة روز اليوسف المقربة من النظام المصري .والتي يرأسها الكاتب المصري الكبير الأستاذ محمد عبد الهادي علام, وكان عنوان المقال. السعودية باعت مصر وإعادة العلاقات المصرية الإيرانية بات أكثر من ضرورة,فالتقارب المصري مع روسيا بوتين رغم الأزمة الأخيرة بين البلدين. بسبب القمح الروسي ليست حجر عثرة أمام بناء حلف استراتيجي بين القاهرة وموسكو ,وتكون فيه إيران وسوريا دولا مؤثرة وذات وزن كبير ,فمصر التي لازالت تعيش أزمات داخلية وخارجية عدة ,وتحاول التوازن بين كل المحاور ,فمصر تعلم انه يجب عليها أن تضع دائما في حساباتها الإستراتيجية والسياسية ,أنها لا تستطيع التحرك بحرية دون الدعم الروسي والإيراني,وحتى لو عارضت إسرائيل هذا التوجه باعتبار أن لها نفوذا لا يخفي على احد .في دوائر صنع القرار المصري لدرجة دفعت بالكثير من المراقبين إلى القول بان تل أبيب من تديره .
-ولكن لا يجب أن نهمل بان الإبحار في وسط بحر عربي متلاطم الأمواج وغير مستقر يتطلب الدهاء والحنكة السياسية والمرونة العالية ,لا احد ينكر أن النظام المصري جاء عبر انقلاب عسكري على رئيس شرعي منتخب ولكن هذا لا ينفي انه يحكم مصر بحكم الواقع وهناك دول إقليمية وقوي عظمى, كروسيا تدعم توجهات القيادة الحالية. وترى فيها شريكا مضمونا وفعالا في محاربة التطرف الإسلامي والجماعات التكفيرية, وزيادة التحالف الاستراتيجي العسكري الطويل. ألمدي فحسب ما ذكرته صحيفة ازفيستا الروسية ,فان موسكو تجري مفاوضات مع القاهرة من اجل استئجار قاعدة سيدي براني البحرية في مطروح بالقرب من قاعدة الضبعة .التي تم بناء المفاعل النووي المصري فيها بخبرة وإشراف وتكنولوجيا روسية ,ورغم أن هناك وسائل إعلام مصرية نفت هذا الأمر وربما بأوامر عليا ,ولكن هذا لا ينفي أن القاهرة تتجه صوب موسكو وتبتعد شيئا ما عن الرياض وواشنطن .التي فقدت بسبب سياساتها المتهورة الكثير من حلفاءها وأصدقاءها ,وتأثيرها في المنطقة وفسحت المجال أمام روسيا القوية ,وربما انشغال الإدارة الأمريكية والرأي العام فيها ,بالانتخابات الرئاسية التي سيتقرر فيها من سيدير دفة السياسة الأمريكية ,وهذا ما يعطي المزيد من الوقت لرئيس المصري , لدراسة الأوضاع الإقليمية وإعادة رسم السياسة المصرية الخارجية ,على ضوء معطياتها ومتغيراتها ,والأخذ بعين الاعتبار بان روسيا بتواجدها الدائم والمستمر في قواعد عسكرية لها في سوريا, وازدياد نفوذها في لبنان واليمن وليبيا التي خدعت فيها من قبل الناتو في الماضي ,لن تترك هذه المنطقة الإستراتيجية في القريب العاجل على الأقل وبان المعادلات الدولية قد تغيرت جذريا وبان الاتكال على السعودية والغرب كحلفاء تقليديين ,لم يعد يجدي نفعا بل أصبحت الرياض بعد التوتر في علاقاتها مع أمريكا, تشكل عبئا على مصر وسياساتها, لان البرغماتية التي تطبع عمل العلاقات السياسية الدولية, لن تعترف إلا بالمصالح وبالا قوى ليكون فاعلا في مسرح الأحداث الدولي, وهذا ما فهمته مصر التي تمتلك أقوى جيش في المنطقة ,وتطمح لعودة إلى لعب الدور المنوط بها ,حتى ولو على حساب السعودية التي بدا دورها يتراجع شيئا فشيئا, بعد أن خسرت الكثير من رصيدها المالي والديني والرمزي في العالم العربي بعد ما حدث في اليمن وسوريا ,ويجب على السعودية أن تقوم بتغيير سياساتها, والتماهى مع السياسة المصرية والروسية في ظل عالم شديد التغيير والتعقيد ,وعدم المراهنة على حلفاءها كتركيا والأردن والجيش الحر, وجبهة النصرة لان كل هذه الدول والجماعات ستنقلب عليها بمجرد فراغ الخزينة السعودية ,فحتى في دول التعاون الخليجي هناك أصوات بدأت تعلوا بضرورة الابتعاد عن السياسة الخارجية السعودية ,وعدم دعمها بشكل كامل لان الدعم الامحدود لهذه الدول لسعودية قد اضر كثيرا بسمعتها دوليا وادي إلى خسارة المليارات من احتياطاتها العامة .وأصبحت مهددة بشبح الإفلاس والاستدانة الخارجية ,فالعلاقات المصرية السعودية ستشهد المزيد من التوترات إن بقيت السعودية متصلبة في مواقفها ,اتجاه القضايا الشائكة والخلافية بين البلدين وأهمها سوريا والعراق واليمن.
*كاتب جزائري